شارل بوني: “أتابع بحزن شديد اختفاء هذه المعالم”
قررت منظمة اليونسكو تصنيف ستة مواقع من التراث العالمي في سوريا، ضمن قائمة المعالم المهدّدة بسب المواجهات الدائرة هناك. وفي السنوات الأخيرة، تم ضبط قِـطع أثرية مصرية وعراقية مُهرّبة في الأسواق، وأعيدت إلى متاحفها. هذا التحطيم والنهب لمعالم الماضي، إما بسبب صراع سياسي أو تزمُّـت ديني، يرى فيه عالم الآثار السويسري شارل بوني "تطورا يقود نحو تدميرٍ منهجي قد يترك آثارا عميقة".
إلى جانب عمليات القتل التي استهدفت البشر في سوريا والدمار الكبير الذي لحق بالبلد منذ نحو عامين ونصف، تتعرض المعالم الأثرية هي الأخرى للتدمير والنهب، الأمر الذي دفع منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) في شهر يونيو 2013 الى وضع ستة مواقع أثرية سورية ضمن قائمة التراث العالمي المهدد. ويتعلق الأمر بدمشق القديمة وحلب القديمة ومدينة بُصرى القديمة وقلعة الحصن ومدينة تدمر الأثرية وقرى أثرية في شمال سوريا.
شارل بوني، عالم الآثار السويسري الذي قضى أكثر من 50 عاما في التنقيب عن الآثار في عدة مناطق من العالم العربي، يُتابع اليوم بحَـسرة كبيرة التأثيرات السلبية التي أفرزتها ثورات الربيع العربي على المعالم الأثرية في المنطقة ويناشد ترشيد العقل، ليس فقط حفاظا على معالم أثرية تعتبر إرثا للإنسانية جمعاء، بل أيضا على مُـقوِّمات الهوية والجذور بالنسبة لأبناء المنطقة.
swissinfo.ch: بوصفك عالم آثار يعرف هذه المنطقة جيدا، ما الذي يُحدثه في نفسك رؤية هذه المعالم الأثرية تتعرض للنهب والتدمير لحد إصدار هذا الإنذار من قبل منظمة اليونسكو؟
شارل بوني: مشكلة اليونسكو كمنظمة، تكمُن في أنها وضعت نُـظما لحماية هذه المعالم المصنفة في قائمة المعالم الأثرية العالمية. ولكن بالنسبة لي كعالم آثار قضى حوالي 50 عاما في التنقيب في العالم العربي، أجد نفسي محطَّـما بما يقع في المنطقة، وأتابع بحزن شديد رؤية اختفاء هذه المعالم.
هذه المعالم التي هي في الواقع ملك للإنسانية ولكل من يهتَـم بتاريخ الإنسانية، وليس فقط للبلد الذي توجد فيه تلك المعالم. وما علّمنا تاريخ البشرية، هو ضرورة ترجيح العقل والمنطق، ولكن يبدو لنا أن هذا ما ينقص اليوم.
لكن، علينا الدفاع عن موقف يشدِّد على أن الحفاظ على المعالم الأثرية، هو تحضير للمستقبل. لذلك، علينا النظر للمستقبل والتفكير جليا فيما يتم اليوم، بدون إصدار أحكام، لأننا كثيرا ما تعوَّدنا نحن في أوروبا الإسراع في الحُكم على الآخرين، متناسين تجربة الحروب الدينية التي مررنا بها قبل حوالي 100 عام. وبما أنني خبير في حفريات العصور المسيحية الأولى، فإنني أجد أن أوروبا في القرن الثالث والرابع لم تكن أحسن حالا، حيث عرفت هي الأخرى متطرِّفيها الذين قادوا الى الحروب والفوضى.
لكن ما نأسف له في الوضع السوري أو المصري، هو هذا التدمير المنهجي. وما نخشاه، هو أن يؤدي ذلك إلى ترك آثار سلبية عميقة.
أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) ستة مواقع اثرية سورية مُـعرَّضة للخطر، بفعل المعارك الجارية في هذا البلد، على قائمة التراث العالمي المهدد، ولاسيما الأحياء القديمة في حلب، التي أصيبت باضرار جسيمة منذ بدء الاحتجاجات ضد نظام بشار الاسد في مارس 2011.
وتضم سوريا ستة مواقع مُدرجة على لائحة التراث العالمي، وهي دمشق القديمة وحلب القديمة وبصرى وقلعة الحصن وموقع تدمر وقرى اثرية في شمال سوريا.
وقررت لجنة التراث العالمي في اليونسكو، المجتمعة في دورتها السنوية في فنوم بنه، وضع الاماكن الستة على لائحتها للمواقع المهدّدة. وقال الناطق باسم المنظمة روني اميلان، ان “القرار يهدِف الى الحصول على دعم لانقاذ المواقع”. كما دعمت اللجنة اقتراحا فرنسيا بإنشاء صندوق خاص للحفاظ على هذه المواقع.
وكانت اليونسكو لفتت في وثائق تحضيرية لهذا الاجتماع، الى ان المعلومات حول الدمار الذي لحق بهذه المواقع “جزئية” ونابعة من مصادر لا يمكن التثبت من صحّتها على الدوام، مثل الشبكات الاجتماعية ومن تقرير للسلطات السورية “لا يعكس بالضرورة الوضع الفعلي على الارض”.
وأشارت المنظمة الى انه “بسبب قيام نزاع مسلح، فإن الظروف لم تعُـد متوافرة لتأمين المحافظة على هذه المواقع الستة وحماية قيمتها العالمية الاستثنائية”. وأضافت أن “حلب بالتحديد، اصيبت بأضرار جسيمة”.
وفي ابريل 2013، دمِّـرت مئذنة الجامع الأموي الاثري في هذه المدينة الكبرى، الواقعة في شمال سوريا، نتيجة المعارك التي دارت على مدى اشهر في محيطها. وكان الجامع الذي شيِّـد في القرن الثامن وأعيد بناؤه في القرن الثالث عشر، أصيب بأضرار فادحة في خريف 2012.
وفي سبتمبر 2012، التهمت النيران أجزاء من سوق حلب الاثري، بدكاكينه القديمة ذات الابواب الخشبية التي يعود بعضها إلى مئات السنوات، كما لحقت اضرار بقلعة حلب. وتحدثت معلومات عن حفريات تجري سرّا في عدد من المواقع.
ودعت اليونسكو مرارا منذ بدء المعارك، اطراف النزاع إلى الحفاظ على تراث سوريا الثقافي والتاريخي، ونبَّـهت الأسْرة الدولية إلى مخاطر تهريب المُمتلكات الثقافية والاتِّجار بها.
فقد صرحت المديرة العامة لليونسكو إيرينا بوكوفا في مطلع يونيو 2013 “ادعو كل المسؤولين عن هذه الاضرار الى الكف فورا عن التدمير والبرهنة على احترام عقائد وتقاليد كل السوريين”. واضافت ان “تدمير التراث الثقافي الذي لا يمكن تعويضه للشعب السوري، هو خسارة لكل الانسانية”، مشيرة الى الأضرحة والمساجد والمواقع الأثرية والقِـطع الثقافية والتقاليد الحية.
(المصدر: وكالات)
عندما نتحدث عن سوريا، ما هي في رأيكم المواقع المعرَّضة أكثر للخطر، ومن أي نوع؟
شارل بوني: نعرف جيدا بأن مدينة حمص القديمة لم تعد فقط مهددة، بل تم تدمير مناطق بأكملها فيها. وفي الواقع، كل المعالم الأثرية السورية معرَّضة للخطر. فقد علمتُ مؤخرا بأن قلعة الحصن، الواقعة الى الشمال من لبنان فوق التراب السوري، تعرضت للقصف والتدمير. هذه البناية التي تُعتبر على المستوى العالمي، أحسن بناية يُحتفظ بها من العصور الوسطى.
وليس من صلاحيات عالِـم الآثار تحديد المسؤوليات في هذا التدمير أو في تقديم الخيارات السياسية، لكن يعتريني أسى عميق لرؤية هذه المعالم التي أحببتُها، تتعرض للتدمير. لقد تردّدت عدة مرات على قلعة الحصن، ولذلك، أعتبر أنها خَسارة كبرى. لكن هذا يمثل بالنسبة للسوريين خسارة أكبر، لأن الأمر يتعلق بماضيهم وأصولهم.
هناك حديث عن تدمير ونهب في معالم مثل تدمر أيضا؟
شارل بوني: لي زميل قاد فريق تنقيب في تدمر، وهناك ايضا إحدى مساعداتي في السودان التي شاركت في تلك البعثة في تدمر. وعندما نسمع عن تعرّض تلك المعالم للقصف، فإن ذلك يعني بالنسبة لنا نحن علماء الآثار، بأن هناك العديد من الأضرار غير المرئية، التي تضاف الى عمود مرمم يتعرض للتحطيم. فبالنسبة لمدينة مثل تدمر، قد يتطلب الأمر أجيالا بأكملها لاكتشاف الأضرار التي لحِقت، لأن هذه المدينة بإمكانها أن تواصل تزويد الانسانية باكتشافات جديدة وهامة بالنسبة لتاريخ الإنسانية.
كما أن مدينة دمشق هي الأخرى، تعرضت للكثير من الدمار. فقصف مئذنة الجامع الأموي، التي تم الإحتفاظ بها بأعجوبة منذ القرن الثامن أو التاسع، أمر يُحزن النفوس. وكل ما يمكن التعبير عنه في مثل هذه المناسبة، هو الأسى والحزن.
عدتم مؤخرا من زيارة لمصر، فهل لاحظتم نفس الشيء هناك أو بالأحرى عمليات النهب للمواقع الأثرية؟
شارل بوني: المعروف أن أي ثورة أو أي حرب وأي تطرف، هو أمر خطير. وفي ما حدث ويحدث في مصر، كنا قلقين ومرعوبين بخصوص بعض المخازن الأثرية التي تم نهبها، وحتى بعض المتاحف التي تضررت جزئيا.
قد يكون من السهل جدا اتهام الدول العربية عما يحدث، ولكن بودّي أن اتهم دولتي والدول الغربية. فقد صادفتُ مؤخرا عملية بيع لقطع أثرية، بعض منها كنت من بين أعضاء الفريق الفرنسي الذي اكتشفها في مواقعها الأصلية.
ولكن لحسن الحظ، بدأت الشرطة الفرنسية في تطبيق قوانين أكثر صرامة في هذا المجال. كما أن سويسرا تتمسك بتطبيق هذا القانون بشكل صارم. وبودي القول أنه إذا كنا في زمن ما سوقا لعمليات ترويج غير مشروع للقطع الأثرية المهربة، فإن الوضع اليوم غير ذلك. لكن مع ذلك، نلاحظ أن شركات دولية ومتعدّدة الجنسيات، قد أصبحت هي التي تسهر على هذا التهريب اليوم، وهو ما يُعتبر مُحزنا.
فهذه القطع الأثرية تم تهريبها أثناء الثورة من قِبل بعض البُلهاء، والمقلق في العملية، هو استمرار مثل هذه العمليات، خصوصا عبر شبكات التهريب في سيناء وعبر إسرائيل. فهذه الشبكات التي يتم تنصيبها في هذه المنطقة الساخنة، قد تنبئ بتنظيم عمليات تهريب منظمة.
والمفرح في وضع مصر، يتمثل في كون قسم الآثار ما زال قسما نشيطا للغاية وأن مفتشيه العديدين يسهرون فعلا على الحفاظ على هذا الإرث التاريخي. لكن المشكلة الأخرى التي برزت في مصر، هي أن الخلافات السياسية والدينية عملت على ظهور أفكار تنادي بتحطيم هذه الآثار، اعتقادا منها بأن الدعوة لتحطيم هذه الآثار، هو بمثابة هجوم على الدول الغربية، وهذا ما لاحظناه في مالي مؤخرا، حيت تم تحطيم عدة معالم تاريخية. ولكن من يقوم بذلك، لا يُـدرك بأنه يعمل على تحطيم جذوره وهويته، وهذا ما يُحزننا ويُـرعِـبنا في آن واحد.
حسب معلوماتكم، هل أدت ظاهرة الهجوم على الآثار لأسباب دينية من قبل الأصوليين والسلفيين إلى شل نشاط بعثات التنقيب عن الآثار في بعض المناطق؟
شارل بوني: بدون الدخول في التفاصيل، هناك عدة بعثات تنقيب توقفت كلية من قِـبل بعض المتطرفين. لكن مع ذلك، نجد أن بعض الفِـرق تواصل عملها وتحقق نتائج معتبرة. فعلى سبيل المثال، عدت على التَـوّ من زيارة فريق تنقيب فرنسي على سواحل البحر الأحمر، اكتشف مؤخرا أرشيف الفرعون كيوبس، وهو اكتشاف خارق للعادة في شكل عشرات المخطوطات التي بقيت محفوظة بشكل ممتاز، وهو ما سيسمح لنا بقراءة التاريخ القديم، وكأننا نتصفح جريدة. وهذا الفريق واصل العمل حتى الربيع الماضي، لكن الكل يتساءل الآن: هل يُمكن استئناف الأشغال من جديد مع حلول الخريف؟
بالنسبة لفريقيْ التنقيب السويسرييْن في منطقة تدمر (سوريا)، كل الأشغال معطَّـلة ولا يستطيع أحد السفر الى هناك. المشكلة في مثل هذه البعثات، هو كيف يمكن ضمان أمن كل العاملين حولك، وليس فقط أمنك أنت كرئيس بعثة. وقد أصبح اليوم، ليس فقط من المحبَّـذ تجنّبه، بل من المحظور السفر الى هناك.
اعلان هذه المعالم الأثرية معالم معرَّضة للخطر، ماذا يعني من الناحية العملية وما هي الإجراءات التي تدخل حيز التطبيق في مثل هذه الحالة؟
شارل بوني: هناك شق سياسي وآخر ديني. بما أن اليونسكو تُعتَـبر المنظمة التي تمثل الدول المتقدِّمة بالدرجة الأولى والتي بإمكانها صرف أموال على المعالم الأثرية المكلفة، فإن توجيهها لهذا الإعلان يضع أرضية قوية للتحرك من أجل إنقاذ تلك المعالم.
ولكن في نفس الوقت، قد يكون إعلان منظمة اليونسكو فرصة أخرى تستغلّها التيارات الدينية من أجل القول بأن اليونسكو والغرب ضدنا وهذا تأويل أبله، لأن ما يتم تحطيمه، لا يمس قطاع السياحة وحده، بل أيضا التربية والتعليم بالنسبة لأجيال عليهم التعرف على ماضيهم وهويتهم وأصولهم.
لا أعتقد بأن الإسلام ضد هذه الآثار، لكن بعض التيارات ترغب في استغلال ذلك، مثلما وقع في أفغانستان حيث تم تحطيم تمثالي باميان. ومع أن التطرف في مصر لم يصل بعدُ إلى مستوى ما عرفته أفغانستان وأن تيار الإخوان المسلمين ليست لديه هذه النزعة، فإن بعض التيارات المتطرِّفة الصغيرة، بدأت تظهر حتى في مصر. وعلى الرغم من صِغر حجمها، بإمكانها أن تُحدِث أضرارا كبيرة.
أما بالنظر إلى العراق، الذي يُعتبر بلدا أثريا هائلا، فإلى أي حدّ يمكن القول بأن النهب الذي تعرض له، هو من صُنع ابنائه، أم أنها نتيجة الحرب؟ هذا نقاش قد يطول وليس من تخصّصي الخوض فيه.
عند بداية غزو العراق، تعرّض متحف بغداد للنهب. هل لديكم فكرة عن بعض القطع التي تم استرجاعها؟
شارل بوني: لست مُلمّا بكل الحالات، لكن هناك العديد من القِطع الأثرية التي تمّ انقاذها. فعلى سبيل المثال، احتضنت سويسرا بعض القِطع التي كانت تُـباع في الأسواق العالمية وأعادتها إلى العراق. وأخص بالذكر، مجموعة من الآثار التي اقتناها أحد الهواة واعتبرها مِلكا خاصا، ولكنه كان متعاونا وتمت إعادة تلك المجموعة للعراق. لكن المُـقلق في الأمر، هو أن الوضع لم يستقِـر كلية في البلاد وأن التفجيرات والإغتيالات ما زالت مستمرة .
كما أن زيارتي الأخيرة لمنطقة سيناء، حيث قابلت أصدقاء عملت معهم لأكثر من عشر سنوات، أظهرت لي بأن الأوضاع تعرف توتّـرا متزايدا، لحد أن هؤلاء البدْو المعروفين بكَرم الضيافة، طلبوا مني مغادرة المنطقة على الفور.
وفي وضعية مماثلة، ما على عالم الآثار الذي يُتابع هذه التطورات بأسى عميق، إلا أن يُحجم عن إصدار أحكام وأن يواصل مسْعاه للتعاون مع الجميع. ولكن ليس من صلاحياته تحمّل المسؤولية عن الحلول السياسية، لأن ذلك من مسؤولية أبناء المنطقة الذين عليهم التحكم في إرثهم الحضاري القديم ومواجهة المشاكل الدولية التي يُعبِّـر عنها اليوم في ميدان التحرير وغيره.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.