فرنسا تظاهرت بكثافة من أجل الحرية.. ثم ماذا بعد؟
من المحتمل جدا أن تكون فرنسا شهدت التظاهرة الأضخم في تاريخها. فقد نزل يوم الأحد 11 يناير، ما بين 3 و4 ملايين شخص إلى شوارع باريس والمدن الداخلية تأييدا لحرية التعبير ورفضا للإرهاب في نهاية أسبوع الهجمات الدامية التي هزت البلد برمته. قراءة في تعاليق الصحف السويسرية.
بنبرة متحمسة، كتبت صحيفة “لاتريبون دو جنيف”: “إنه حدث تاريخي. لقد كانت باريس بالأمس عاصمة لعالم دخل طور المقاومة ضد الإرهاب.. لقد تآخى حاخامات و أئمة وقساوسة تحت ظل تمثال الحرية. لم يحدث أبدا في أيّ بلد آخر أن تجمّعت مثل هذه الحشود بعد حدوث عملية”.
اليومية التي تصدر بالفرنسية في جنيف رحبت أيضا بحضور “أربعين من رؤساء الدول والحكومات من ضمنهم الوافدون من بلدان الشرق الأوسط وإفريقيا التي كثيرا ما تتعرض لهجمات. فقد تظاهر رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الفلسطيني في صف واحد لا تفصل بينهما إلا أمتار معدودة. كما حضر جميع رؤساء الحكومات الأوروبية ومعهم سيمونيتا سوماروغا، رئيسة الكنفدرالية” السويسرية.
صحيفة لاليبرتي (تصدر بالفرنسية في فريبورغ) أعربت عن ابتهاجها، فالأمر “يتعلق قبل شيء بأنموذج ثقافي لا مجال للنيل منه – تمثل الرسوم الصحفية رمزه المتمرد (أو الوقح) – أراد الفرنسيون والأوروبيون وغيرهم الدفاع عنه أمام أعين العالم. إن حرية التعبير غير القابلة للإختزال على النمط الفرنسي التي تعود جذورها إلى عدة قرون تراث للإنسانية، وستظل كذلك”.
ردود فعل سويسرية
سيمونيتا سوماروغا، التي شاركت في مسيرة باريس يوم الأحد 11 يناير إلى جانب العشرات من الرؤساء ورؤساء حكومات الدول، بدا عليها التأثّر لحجم تلك التظاهرة، وقالت “إنها تأثرت جدا لما رأته”. وأضافت بأنها شعرت خلال هذا الحشد البشري الذي لم تشهد له فرنسا نظيرا منذ الحرب العالمية الثانية أن هناك “قوة مشتركة توحّد الجميع”.
وأضافت وزيرة العدل والشرطة: “لقد عبّرنا لفرنسا، مثل الكثير من البلدان الأخرى، أن سويسرا تقف إلى جانبها.، والشيء المهم في هذه اللحظة هو أن ندافع يدا بيد عن قيمنا المشتركة”.
الرئيسة السويسرية ذهبت إلى أبعد من ذلك، وقالت تعليقا على استهداف الصحيفة الفرنسية الساخرة: “يجب أن يمثّل الهجوم على شارلي إيبدو مناسبة لتجذير الحقوق الأساسية في مجتمعاتنا مثل الحق في حرية التعبير. لأنه يبدو أن الأمر ليس مسلما به”، ثم أردفت محذّرة بأنه “سيكون خطأ قاتلا تحميل هذه الإعتداءات لمجموعة دينية محددة. ويجب ألا ننسى أن الغالبية العظمى من أفراد الجالية الإسلامية مندمجة بشكل جيّد”.
كريستيان لوفرا، رئيس الحزب الإشتراكي السويسري، الذي شارك بدوره في تظاهرة باريس، يشرح سبب تحوله إلى العاصمة الفرنسية ويقول: “لأن الرد المناسب على الإرهاب لا يكون إلا من خلال توحدّ الجميع ومن خلال الديمقراطية والتسامح”. واعتبر أن التظاهرة المليونية كانت “حدثا فارقا ومهما جدا، ساده شعور قوي بالتوحد بين الجميع، مع بعض التوتّر الذي لا يخفى على أحد”.
بدوره، علّق ليونارد بيندار، النائب السابق لرئيس الحزب الليبرالي الراديكالي، (وهو من أصل فرنسي ويقطن في كانتون فالي)، على ما شهدته فرنسا الأسبوع الماضي بالقول: “لقد طُعنّا في أعزّ ما لدينا”، ولذلك “نزل المواطن إلى الشارع”.
من ناحية أخرى، حافظ وزير الدفاع أولي ماورر وقائد الجيش على هدوئهما. إذ لا يرى الرجلان مبررا لإعادة النظر في الإجراءات الأمنية المعمول بها بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة في فرنسا المجاورة. وفي تصريح أدلى به إلى إذاعة SRF العمومية الناطقة بالألمانية يوم السبت 10 يناير الجاري، قال ماورر: “بالنسبة لنا، لم يتغيّر شيء”.
“باريس، عاصمة العالم”
صحيفة “لوتون” ذهبت إلى أن مسيرات الأمس كانت “أجمل عمل كان يمكن أن تقوم به فرنسا بعد أسبوع أسود. لقد أدت ردة الفعل الجمهورية إلى التواصل بين المواطنين في الشارع والتلامس وتبادل أطراف الحديث وإلى التعبير عن حبهم الشديد لمُواطنيهم ولبلدهم. لقد كان زخما رائعا وحاملا للأمل. ومثلما قال الرئيس الفرنسي، تحولت باريس في هذا الأحد من شهر يناير إلى عاصمة للعالم. بل للعالم الحر، مثلما يُمكننا أن يُضيف”.
الصحيفة التي تصدر بالفرنسية في لوزان اهتمت أيضا بتلك “القصص الفردية القوية جدا التي تخللت هذه الأيام الأخيرة التي اتسمت بفقدان الأمل. على غرار ذلك الشرطي المسلم الذي قتله الأصوليون حينما حاول التصدي لهم قرب مقر جريدة شارلي إيبدو. أو ذلك البقال المسلم الذي حمى (حرفاء) يهود من جنون جهادي آخر”.
نعم، ولكن…
في المقابل، تساءلت صحف “برنر تسايتونغ” (تصدر في برن) و”نويه لوتسرنر تسايتونغ” (تصدر في لوتسرن) ونصف دزينة من الصحف الناطقة بالألمانية في افتتاحية مشتركة حول ما إذا كان “جميع المشاركين في التجمع يرتدون نفس القبعة. وليس ذلك فقط لأنه تمت ملاحظة حضور رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مثلا، الذي لا يُعتبر تحديدا صديقا لحرية التعبير”.
الصحف الصادرة في شرق ووسط سويسرا واصلت قائلة: “في المظاهرة الباريسية، كان البعض يُعبّر عن حزنه لمقتل الرسامين واليهود وأعوان الأمن. وكان البعض الآخر يُعبّر عن تأييده المبدئي لمجلة ساخرة لا تُطالعها الأغلبية بتاتا. من جهتها، وجّهت الحكومة الفرنسية دعوة إلى الوحدة الوطنية، فيما كانت المجموعة الدولية ترغب في أن تجعل منها مناسبة لإظهار موقف صلب”.
بالنسبة لفرنسا، تصلح هذه التظاهرة “بالخصوص لإعادة التأكيد على قيم مجتمع يُعاني من توترات قوية وانقسامات عميقة، ويُحاول الآن أن يعثر على وحدة جديدة تحت ضغط تهديد صريح”، مثلما ورد في تحليل “نويه تسورخر تسايتونغ”. لكن الطبقة السياسية لم تنجح في رصّ الصفوف (بشكل كامل) لأن فرانسوا هولاند استبعد منذ البداية مارين لوبان وحزبها اليميني (الجبهة الوطنية) المعروف بالعداء للأجانب.
وتضيف الصحيفة التي تصدر بالألمانية في زيورخ بنبرة محذرة “وبالنظر إلى أن الحاجة تشتد الآن إلى إعادة تعريف التعايش في مجتمع مختلط، والتعايش مع المسلمين بشكل خاص، فمن المتحتم أن يتم إشراك مجموعتين في العملية التفاوضية: الفرنسيون المتحدّرون من الهجرة، والفرنسيون الذين لديهم مشاكل مع مواطنيهم المتحدرين من الهجرة”.
والآن، ما الذي يتعيّن القيام به؟
بنفس النبرة، تطرقت “لاليبرتي” إلى أولئك المسؤولين السياسيين الذين “يجدون أنفسهم اليوم في الوضعية غير المريحة التي تتطلب منهم تقديم أجوبة سريعة لمشاكل طويلة المدى، شديدة التعقيد وخاصة مسألة الإدماج الإجتماعي عبر التعليم”. وفي هذا الصدد، فإن حادثة رفض بعض التلاميذ للوقوف دقيقة صمت يوم الخميس الماضي “تُذكّـر بعُمق القطيعة القائمة بين الجمهورية والبعض من أبنائها”.
من جهتها، شددت “لوتون” أيضا على أن الأوضاع تدفع للمسارعة بـ “التفكير في منهجية التعليم وكيفية التدرب على العيش المشترك، وأيضا على تحسين طرق المراقبة والتحرك بوجه المخاطر المُحدقة، التي قد تحدث غدا. أما رجال السياسة، وفي مقدمتهم الرئيس هولاند، الذي تحول إلى زعيم للعالم الحر ليوم واحد، فهم يعرفون الآن أنه لم يعد بالإمكان تأجيل هذه المهمة”.
الموت ضحكا…
على صعيد آخر، أثارت صحيفة “برنر تسايتونغ” وزميلاتها تساؤلا من صنف آخر يتعلق بالمستقبل القريب جدا: هل سينشر الباقون على قيد الحياة من فريق شارلي إيبدو يوم الأربعاء (14 يناير) في عددهم المقبل، رسوما كاريكاتورية جديدة للرسول محمد؟ وكان الجواب: “إنها معضلة حقيقية: فمن الناحية المبدئية يُفترض أن يكون الجواب بنعم لكن ذلك لن يُؤدي إلا إلى تأجيج الغضب في الضواحي الباريسية التي قدم منها الإرهابيون. المسألة ليست سهلة… قد يتعين أن يتقبل المرء أنه إذا ما كان لنا الحق في التعبير عن آرائنا بكل حرية، فإنه لا يجب القيام بذلك بالضرورة ومهما كان الأمر. ولعله بإمكان شارلي، ولو لمرة واحدة، أن يظل فوق الحزام. ذلك أنه بإمكان المعسكرين – بل يتعيّن عليهما – بذل شيء من الجهد، مثلما أظهرته مشاركة العديد من المسلمين في مسيرة يوم الأحد”.
رغم كل هذا، تلاحظ صحيفة “لاتريبون دو جنيف” أن “جميع الأحزاب وكافة الديانات التي كانت ممثلة يوم الأحد نُشرت لها رسوم كاريكاتورية تستخف بها على صفحات شارلي إيبدو. ومع ذلك، فقد كانت هذه الجريدة هي التي جمعتهم رغما عنها”.
من جهتها، دعت صحيفة “لوماتان” (تصدر بالفرنسية في لوزان) أيضا إلى “قمع التشدد بشكل قانوني” وإلى “كبح جماح الظلامية عبر التعليم”، ولكن بالخصوص إلى “عدم نسيان الضحك”. ذلك أن “البربرية لا تُكافح من خلال إعادة العمل بعقوبة الإعدام. فالخوف هو سلاح الإرهابيين. أما سلاح (رسامي الكاريكاتير المغتالين) كابو وفولينسكي أو شارب، فهو الإستخفاف. وهو الذي يجرح الأصوليين الذين لا يُعرفون بروح الدعابة. إنهم يفهمون منطق القوة، لا الهزل”.
(نقله إلى العربية وعالجه: كمال الضيف)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.