مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

في سويسرا، عمارة تسعى للإبهار وبوتقة تفرز شتى أنماط البناء

ستانيسلاوس فون موس
يقول المنظر المعماري ستانيسلاوس فون موس: «أصبح إنتاج المزيد والمزيد من المباني المتميزة بأشكالها المختلفة مشكلة». BAK, Florian Spring

ستانيسلاوس فون موس، الحائز على جائزة ميريت أوبنهايم، يرى سويسرا كمعمل معماري ـ إلا أنه ينتج أيضاً الكثير من النفايات.

كان ستانيسلاوس فون موس ما يزال في عمر الثامنة والعشرين عاماً عندما ألف أول كتبه؛ حينها كان يعمل مدرساً شاباً لمادتي تاريخ الفن ونظرية المعمار في مركز “كاربنتر” بجامعة هارفارد. ويعد كتابه “لو كوربوسييه: عناصر التركيب” الذي صدر عام 1968 أول عرض نقدي شامل يتناول أعمال المعماري السويسري الفرنسي شارل إدوار جانيريه المعروف باسم لو كوربوسييه (1887-1967)، بعد وفاته. وقد أصبح هذا الكتاب لاحقاً مرجعاً هاماً.

آنذاك اكتشف السيد فون موس أثناء رحلاته التي صاحب فيها طلابه وطالباته، تلك الفوضى الشديدة التي تميز الضواحي الأمريكية. “لقد كان كتاب ‘التعلم من لاس فيغاس’ للمعماريين روبرت فينتوري ودينيس سكوت براون اكتشافاً بالنسبة لي”، مثلما يتذكر فون موس. “ذلك لإن هذا الكتاب يضع مفردات تساعد في فهم الحياة اليومية الأمريكية.”

فقد تعلم فون موس منطق الأماكن الغريبة وعرف كيف يقدر جمالها القبيح. ومن اللافت للنظر وصف فون موس – بعدما أصبح أستاذاً جامعياً – لسويسرا بأنها “ديزني لاند”، وقد علل ذلك بأن الثقافة المعمارية السويسرية أصبحت تهتم بصورة متزايدة بعامل الإبهار.

في مقطع الفيديو الخاص بنا، يقدّم المنظر المعماري خصائص منزله لنا:

المزيد

رفضه لتحقيق الذات معمارياً

في هذا السياق، نشير إلى ما تركه السيد فون موس كأستاذ للفن الحديث والمعاصر بجامعة زيورخ ما بين عامي 1983 و2005، من أثر بالغ في أجيال من الدارسين والدارسات. إذ أصبح للكثيرين منهم شأن هام في عالم الفن، ومن بينهم على سبيل المثال مارتينو شتيرلي، الذي يعمل حالياً كرئيس لأمناء قسم العمارة والتصميم بمتحف الفن الحديث في نيويورك.

وفي الواقع، كان السيد فون موس يتمنى لو أصبح معمارياً، بل إنه بعدما أتم دراسته الثانوية، قد درس بالفعل لمدة فصلين دراسيين في قسم العمارة بالمعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ. لكنه كان يشك في امتلاكه للموهبة اللازمة. لذلك عدل عن دراسة للعمارة واتجه لدراسة تاريخ الفن بجامعة زيورخ، واهتم بصفة خاصة بتاريخ العمارة. “إنني أشعر بالراحة التامة في عدم تركي أية آثار مادية ملموسة”، كما يصرح اليوم.

فتحقيق الذات معمارياً يعد بالنسبة له أمراً فظيعاً. “إذ أن انتاج المزيد والمزيد من البنايات الأصيلة قد تحول لمشكلة.” فالضجة التي أثيرت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حول العمارة السويسرية، والتي شارك هو نفسه في إثارتها، بصفته محرراً في مجلة “آرشيتيزه Archithese” (تراكيب عمرانية)، قد ساهمت فجأة في شهرة العديد من المعماريين والمعماريات على المستوى المحلي والإقليمي، ومن ثمَّ قام هؤلاء حتى الآن بتنفيذ مبانٍ عملاقة، ليتها لم تنفذ.


قصر المؤتمرات بلوتسيرن
لا يزال مركز جان نوفيل للثقافة والمؤتمرات في لوتسيرن (KKL) يحظى باعجاب موس. Keystone / Desair, Heinz Leuenberger

فثراء سويسرا يجعل الكثير ممكناً، بحسب قول السيد فون موس. “فسويسرا تعتبر مركزاً لإنتاج نماذج شتى من المعمار في أوروبا. وبالفعل يجري هنا تجريب أمور كثيرة بصورة غير معقولة. وبالتالي فإن حجم الأشياء عديمة الفائدة، والمكلفة والباهظة أصبح كبيراً. ومثال على ذلك تعدد الأنماط في مجال بناء البيوت، سواء كانت بيوتاً خاصة لأسرة واحدة أو بنايات سكنية متعددة الوحدات: فكلما بعدنا عن المراكز الحضرية، كلما زادت الفوضى المعمارية”، بحسب تحليل السيد فون موس. وبينما يحجم عن سرد المزيد من الأمثلة، يذكر مركز الفن والثقافة في مدينة لوغانو، والمعروف اختصاراً باسم “LAC”.

في عام 2001 شارك 130 مكتباً معمارياً في مسابقة لإنشائه، وقد فاز بها في نهاية المطاف المعماري إيفانو جانولا، من كانتون تيتشينو. إلا أن السيد فون موس يصف هذا المجمع البنائي بأنه ‘مسودة أنيقة’، لم يتم دراستها معمارياً بالعمق الكافي، بل نفذت وهي ما تزال في مرحلة التخطيط المبدئي، فقط لإن المال المطلوب كان متاحاً، على الأغلب. أما اللافت للنظر فهو: أنه برغم توفر الموارد المالية، فإن البنوك السويسرية تبدو متحفظة فيما يخص العمارة: “فالبنوك في هذا البلد غير مهتمة بتنفيذ معمار جذاب. وهي بهذا لم تترك أثراً يُذكر في التراث الثقافي الوطني، طيلة السبعين عاماً الماضية.”

العمارة الجيدة تحتاج إلى متعهدي بناء جيدين

يؤمن السيد فون موس بأن العمارة الجيدة لا تتحقق إلا على أيدي متعهدي بناء جيدين. ومثال على ذلك يذكر مركز الثقافة والمؤتمرات بمدينة لوتسرن، والمعروف اختصاراً باسم “KKL”. فقد رافق مقاول البناء توماس هيلد العملية برمتها وراقبها بمنتهى الصرامة وكأنه أركان حرب يدير معركة. ولذلك فبعد 25 عاماً من افتتاحه، ما يزال هذا المبنى الثقافي الهائل الذي صممه جان نوفيل يثير الإعجاب. حتى في تفاصيله.

وقد أثنى ستانيسلاوس فون موس على هذا المبنى بكل عبارات الثناء ـ سواء فيما يتعلق بالدقة والعناية، أو بتنفيذ الأعمال اليدوية وجرأة التصميم. فكثيراً ما تفتقر غيره من البنايات إلى العناية بالتنفيذ. حتى في المباني التي نفذها ابن كانتون تيتشينو، المعماري ماريو بوتا، والذي يقدره فون موس كثيراً في نواحٍ أخرى غير هذه. حيث يركز بوتا على الحجم الكبير، ولا يهتم كثيراً بالتفاصيل.

مركز الثقافة في لوغانو
بالنسبة لفون موس، يعتبر مبنى المركز الثقافي، نموذجا للتصميم الخارج عن المعتاد والذي لا يخلو من طرافة. View Pictures Ltd

هذا على العكس تماماً من المعماريين الشهيرين جاك هيرتسوغ، وبيير دي مورون من مدينة بازل، واللذان صمما بنايات في العديد من أرجاء العالم ـ كما فعل بوتا أيضاً ـ امتداداً من باريس ووصولاً إلى بكين، إلا أنهما يأتيان في مرتبة أعلى منه فيما يتعلق بمسألة الاعتناء بالتفاصيل.

“إنني لا أحب كل ما يبنيان. لكنني لم أرَ أبداً أي مبنى لهما، لم يُدرس ويُنفذ بمنتهى العناية”، كما يقول السيد فون موس. لذلك فمن بين حوالي 570 مبنىً صممه هذان المعماريان اللامعان، وقع الاختيار الجريء لفون موس بالاشتراك مع المعماري آرتور روغ، على 25 مبنىً. حيث يلقي روغ وفون موس الضوء على طريقة التصميم التي يتبعها المعماريان وكذلك على نظرتهما المتباينة لعالم المعمار. وينتظر أن يصدر كتابهما “خمسة وعشرون مرة هيرتسوغ وديه مورون” خلال النصف الأول من العام الجاري.

تغيير العالم من خلال العمارة الجيدة

جدير بالذكر، أن اهتمام ستانيسلاوس فون موس بالعمارة، وخاصة بالمعماري لو كوربوسييه، قد بدأ في فترة مبكرة من حياته. فمن ناحية كان والده الذي ترأس جمعية “WERK” (أو العمل) في وسط سويسرا، هو أول من كتب مقالاً عن كنيسة “نوتر دام دو أو” في بلدية رونشان بفرنسا، والتي صممها لو كوربوسييه. وحينما كان ستانيسلاوس فون موس ما يزال في السابعة عشرة من عمره وقع كذلك في يده كتيب “العمارة والجتمع. يوميات تطور” بقلم زيغفريد غيديون. ولقد كان هذا الكتاب شبه مقدس بالنسبة لفون موس: فقد تناول فيه الكاتب بعضاً من الأشخاص الذين سعوا إلى تغيير العالم من خلال العمارة، وبالأحرى من خلال العمارة الجيدة. وكان في مقدمتهم المعماري الكبير لو كوربوسييه.

بل إن فون موس قد سافر بالدراجة النارية مع أحد أصدقائه لمشاهدة دير “لا توريت” بالقرب من مدينة ليون الفرنسية الذي صممه لو كوربوسييه، وكذلك لرؤية مشروعه السكني “وحدة السكن” في مارسيليا. ويطلق فون موس هذا على هذا المشروع اسم “المَحج”، حيث يزوره كل خمس سنوات. إذ أصبح فون موس لاحقاً أحد طلاب الأستاذ الجامعي زيغفريد غيديون، ومن ثم عمل مساعداً له، وتعرف بذلك على بيوت ضاحية دولدرتال بزيورخ. فقد كلف الأستاذ غيديون كل من ألفريد وإيميل روت بالتعاون مع مارسيل بروير، بتنفيذ هذا المشروع السكني عام 1935. وقد كانت بيوت ضاحية دولدرتال مثالاً حياً على البناء الحديث في سويسرا.

لقد كانت بيوت ضاحية دولدرتال مثالاً حياً على البناء الحديث في سويسرا. إنها منازل تحتفي بمساحات سكنية مفعمة بالضياء، وتمنح ساكنيها متعة النظر إلى قمم الأشجار المورقة والمطلة على وادي فولفباخ، إلا أنها لا تمت بأية صلة بالمحيط المعماري الذي تقع فيه.

تحرير: دافيد أوغستير

ترجمة: هالة فرّاج

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية