مُشرّدون بلا مأوى قدمُوا من أوروبا إلى سويسرا
في كل ليلة، يُضطر مئات الأشخاص في سويسرا للنوم في الشوارع، وهم في الغالب من ذوي الجنسيات الأوروبية أو من الحاملين لتأشيرة شنغن. في شريط "المأوى" التوثيقي، الذي عُرض لأول مرة في الدورة الأخيرة لمهرجان لوكارنو السينمائيرابط خارجي، حاول المخرج فِرناند ميلغار، سبر أغوار واقع المشرّدين الهائمين على وجوههم في شوارع مدينة لوزان.
حاجز حديدي يفصِل مَن في داخل المكان عمّن في خارجه، وإبّان أشهر البرد القارص وقبَـيْل الساعة العاشرة، يفتح ملجأ تابع للدفاع المدني بمدينة لوزان أبوابه، ليوفِّر سريرا وحمّاما دافئا ووجبة ساخنة مقابل خمسة فرنكات، هنالك يصطف مئات الأشخاص كل ليلة لعلّ الحظ يكون حليفهم.
ليس بإمكان “المأوىرابط خارجي” استيعاب الجميع، لأنه لا يتوفر إلا على 107 أسِرّة، ونظرا للظروف الأمنية لا يستضيف سوى 50 شخصا، يردفهم بعشرة آخرين، عندما يبلغ البرد أشُـدّه وتتدنّى درجة الحرارة إلى ما دون الصفر، غير أن خلقا كثيرا يتدافعون خلف الحاجز والكل يريد أن يدخل، فيَـنْتابهم البُؤس والغليان، وعندئذ يتعيّن اختيار مَن يدخل ممّن لا يدخل، ولكن “على أيّ أساس؟” يتساءل أحد رجال الشرطة الذين تمّ استدعاؤهم للسّيطرة على الوضع.. كبار السن فالنساء والأطفال، فالمقيمون بالمدينة ثم مَن لديه عمل.. يُجيب أحد المُشرفين عن المركز قائلا: “لقد أخذنا الليلة الكثير من الغجَر، فخُذ اثنين من الأفارقة”، يردّ عليه زميله مردفا: “لكن، من أكون أنا حتى أختار؟”.
يوميا، وعلى مدار ستة أشهر، ظلّ المخرج السويسري فرناند ميلغاررابط خارجي، ترافقه إليز شوبس، المسؤولة عن الصوت، وهو يراقب تعارك المهاجرين اليومي على سرير ييُؤوي وعلى ما يحفظ قليلا من الكرامة، ويوثّق ما يحدث على جانبيْ البوابة الحديدية، ليُوصل صوْت أشخاصٍ بلا مأوى ومُشرفي مركز إيواءٍ في مدينة لوزان، التي هي بالمناسبة مسقط رأسه.
فرناند ميلغار
ولد فرناند ميلغار عام 1961 في المغرب الأقصى، الذي نُفي إليه والداه النقابيين الإسبانيين إبان حكم الجنرال فرانكو، وعندما بلغ عامين من العمر جاء به والداه إلى سويسرا بصورة غير قانونية، حيث كانا يشتغلان فيها كعمال موسميين.
في عام 1980، أسّس مع بعض أصدقائه النادي الليلي “لو كاباريه أورويل”، الذي يعتبر بمثابة مهد للموسيقى تحت الأرض في القسم الغربي من سويسرا الناطق باللغة الفرنسية:
بعدها بثلاث سنوات بدأ العمل في سلك الإخراج السينمائي، وقد حقق فيلماه الوثائقيين حول استقبال وطرد طالبي اللجوء: “القلعة” (2008) و”الرحلات الجوية الخاصة” (2012)، العديد من الجوائز وأثارا نقاشات سياسية ساخنة. وأما فيلم “المأوى” “L’Abri” الجديد، فقد عُرض للمرة الأولى في الصيف الماضي ضمن الدورة السنوية لمهرجان لوكارنو الدولي للأفلام.
بوظيفة وبدون مأوى
الذين يستقبلهم ملجأ الدفاع المدني، هم على الأغلب لاجئون قادمون من جنوب وشرق أوروبا: من إسبانيا والبرتغال وإيطاليا، وعائلات من الغجر كثيرا ما يكون معهم أطفال، وشباب أفارقة ولاتينيين تحصّلوا على تأشيرة شنغن في إسبانيا أو إيطاليا فوجدوا أنفسهم في مقدّمة ضحايا تداعيات الأزمة الاقتصادية.
البعض لا زال يبحث عن عمل، وآخرون لديهم عمل ولكن أجرتهم غير كافية لتسمح لهم باستئجار سكن. ففي مدينة لوزان، كما هو الحال في المدن السويسرية الأخرى، الشقق الشاغرة نادرة، والإيجارات مرتفعة بما لا يحتمَّله العقل، وأحيانا تفتقر الأجور إلى العدالة.
أما كاميرا ميلغار، فهي وثيقة الصلة بما يحدث في مركز الإيواء، ولئن ابتعدت بعض الشيء، فإنما ذلك للحظات ولتتبّع بعض شخصيات الفيلم. سيزار وروزا، هاجرا من إسبانيا بعدما خسرا كل شيء، ويحدوهما الأمل بالعمل في منتجع للتزلّج، ويقضيان نهارهما في المكتبة، هروبا من البرد واستفادة من خِدمة الإنترنت المجانية. ليس هما فقط، بل على مسافة لا تعدو بعض الطاولات، هناك أمادو، شاب إفريقي حاصل على تأشيرة شنغن، هو أيضا من ضيوف مركز الإيواء “لابري L’Abri”. وهناك أيضا عائلة من الغجر: أب وأم وطفلتان صغيرتان، أمضت ليلة كاملة في السيارة وبقيت لساعات تتسوّل، فلم تجنِ سوى فرنكين وتسعين سنتا.
الحق في المسكن
لم ينص الدستور السويسري صراحة على الحق في المسكن، إنما نصّت المادة “41E” منه على أنه: “يجب على السلطات الفدرالية والكانتونية العمل لضمان أن يكون لكل فرد ولكل عائلة مسكنا ملائما وبإمكانيات معقولة”، وخلافا لغيره من الحقوق الأساسية، كحرية التعبير مثلا، لا يتمتع الحق في المسكن بحق التقاضي، أي أنه ليس من حق الشخص الذي يتعرّض لانتهاك أن يتقدّم بشكوى بهذا الخصوص إلى المحكمة.
وعندما يسدل الليل خيوطه ويبقى مَن بقي دون مأوى، يجثو من جثى على مقعد في حديقة أو في محطة قطار أو يأوي إلى خربة مهجورة وإلا أمضى ليلته حبيس سيارته، إن كانت له سيارة، بعيدا عن العيون والآذان متوجّسة، فمن يقع بين يديْ الشرطة فلا هوادة، والغرامة قد تصل إلى 200 فرنك سويسري، والقانون في المدينة يحظر التخييم أو المبيت في الخارج، سواء أكان بخيمة أو بدون خيمة.
حالة سويسرية
لا يوجد إحصاء رسمي لأعداد الأشخاص بلا مأوى في سويسرا، لكن أشار تقرير صدر مؤخرا عن مؤسسة كاريتاس إلى تزايُد أعدادهم في مُدن مثل بازل وزيورخ.
وفي جنيف، يُقدّر عدد الذين ليس لهم مسكن قار بنحو ألف شخص: “المرافق القائمة لا تفي بالحاجة، ولا توفّر سوى الإغاثة، التي غالبا ما تقتصر على بضعة أسابيع”، يقول كميل كونز، مدير اتصالات كاريتاس جنيف، الذي دقّ ناقوس الخطر مرارا، وأضاف: “ينبغي أن تكون هناك حلول طويلة المدى، فالعثور على مسكن لا يتم بغمضة عين، وكل يوم يلجأ فيه إلى الشارع يزيد الطين بلّة، ويُعقّد الحل”.
الحق في المسكن، حق أصيل نصّت عليه وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما أن الدستور السويسري، ولو بشكل غير صريح، يلزم السلطات الفدرالية والكانتونية بضمان حق كل فرد في الحصول على المسكن الملائم، فلماذا لا يتم فتح مركز آخر للحماية المدنية، بدلا من ترك الناس ينامون في الشارع؟ سؤال طرحه المشرفون على المركز الحالي وأورده الفيلم الوثائقي.
ضمن الحضور في مهرجان لوكارنو، حيث عُرض الفيلم الوثائقي (المأوى) “L’Abri” لأول مرة على مستوى العالم ونافس على جائزة “الفهد الذهبي”، تواجد أوسكار توزاتو، المسؤول البلدي المكلّف بملف “الأشخاص بدون مأوى” في مدينة لوزان، الذي أكّد من جانبه، بأن المدينة تُمارس سياسة منفتِحة، ولكنها لن تستطيع القيام لوحدها بكل شيء، وصرّح قائلا: “نُدرك وجود نقصٍ في المساكن ذات الأجْرة المعقولة، ولذلك، ننوي بناء مساكن اجتماعية جديدة، لكن هناك معارضة من قِبل بعض السكان، الأمر الذي يتطلّب منا أخذه في الحُسبان، غيْر أن مسألة توفير مراكز إيواء إضافية، لمن ليس لهم مأوى، ليس حلا على المدى الطويل، لما فيه من تكاليف اجتماعية وتشجيع على قدوم مهاجرين جُدد وإفراز نمط حياة مواز”.
وضعُ حد للهجرة في سويسرا؟
في استفتاء أجري يوم 9 فبراير 2014، أقر الشعب السويسري وضع سقف للهجرة، حيث وافق الناخبون بنسبة 50,3٪ من الأصوات على المبادرة الشعبية “لا للهجرة الجماعية” التي أطلقها حزب الشعب السويسري (يمين شعبوي)، والتي تنص على أن يتم في غضون ثلاث سنوات العمل بنظام الحصص وبتحديد سقف أعلى وبمنح الأولوية الوطنية عند التشغيل. ونظرا لعدم توافق هذه الإجراءات مع الإتفاقية الثنائية الخاصة بحرية تنقل الأشخاص المبرمة بين برن وبروكسل، طلبت الحكومة السويسرية من الإتحاد الأوروبي النظر في إمكانية إعادة التفاوض على الإتفاقية، الأمر الذي ردّت عليه المفوضية الأوروبية بالرفض في يوليو 2014.
حالة أوروبية
بالعودة إلى فرناند ميلغار، يجدر التذكير بأنه ابن لأحد المهاجرين الإسبان، وأن طفولته امتازت بالخروج على القانون، وهو يقول عن نفسه، لكل من يطالبه بتقديم الحل بأنه مجرد “شاهد” وأن أفلامه “ليست لتهدئة الأعصاب وإنما نافذة” على واقع خفي، كما أنه لا تُوجد في الشريط “رموز طيبة وأخرى شريرة، وإنما مجرد أناس – لا فرق بيننا وبينهم – حريصون على التعايش المشترك”. ويستطرد صاحب الفيلم: “أردت أن أبين كيف أن تطبيق قانون عام وضعته السلطات المحلية، قد يضعنا أمام خيارات غاية في الحرج، وسنكون مُرغمين من دون قصد الإساءة، أن نقول : أنت أدخل، وأنت أخرج، هذا هو حال المشرفين، ولكن قد نكون نحن مكانهم”.
ومن وجهة نظر ميلغار، ينبغي النظر إلى تلك البوابة التي تفصل النوم في سرير عن الرقاد في الشارع، من زاوية أوسع، كأن نتصورها ذات البوابة التي تفصل الحدود بين سويسرا وبقية أوروبا، والتي أغلقت جزئيا بموجب استفتاء يوم 9 فبراير 2014 لتقول لمن يتواجدون خارج الحدود: “أنت أدخل، أنت أخرج”.
حينما عُرض الشريط في شهر أغسطس الماضي في لوكارنو، كان “الملجأ” في لوزان مُوصد الأبواب منذ عدة أشهر، ولن يفتح أبوابه مجددا إلا مع عودة موسم البرد والصقيع، وفي الأثناء تتزايد أعداد المشرّدين الذي ينامون تحت ضوء القمر.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.