هل يتعيّن على مهرجان زيورخ للأفلام البدء في البحث عن ذاته الحقيقية؟
في الثالث من أكتوبر الجاري، اختتم مهرجان زيورخ للأفلام فعاليات دورته السابعة عشرة التي انطلقت منذ يوم 23 سبتمبر الماضي. وكما جَرَت عليه العادة كل عام، اجتَذَب المهرجان حشوداً كبيرة من الشخصيات المَرموقة، واستضاف كبارَ نجوم السينما العالمية. مع ذلك، فإن تحديد هوية هذا الحدث كمهرجان سويسري لاتزال مُحيّرة كما كانت من قبل.
في عام 2015، نَشَرَ القسم الثقافي لأسبوعية “نويه تسورخَر تسايتونغ أم زونتاغ” (NZZ am Sonntag) المَرموقة مقالاً استفزازياً بمناسبة حلول الدورة الخمسين لمهرجان سولوتورن السينمائي. في المقال، آتُّهِم المهرجان، وهو عَرض استعادي سنوي شامل مُخَصَّص للإنتاج السينمائي الوطني حَصراً، بالافتقار إلى الرؤية، وبِكَونه غرفة صدى يسارية نَخبوية في قبضة “الصواب السياسي” (أو اللياقة السياسية)، تعمل على الترويج لبيئة تُحبط قدرة صناعة السينما السويسرية على التنافس الدولي.
وكما جادل المقال، فإن الوصول إلى الدورة الخمسين “هو وقت للتأمل النقدي”. وأتبَع ذلك بالقول: “هذه هي الفرصة الأخيرة بالنسبة للكثيرين لتَغيير مسارهم”. أما التشخيص المُدمر فجاء بهذه الصيغة: في شكلها الحالي، تُعتَبَر أيام سولوتورن “أكثر مهرجان سينمائي يمكن الاستغناء عنه في سويسرا. إنها مُجرَد بقايا مُتَحَجِّرة لا حق لها بالوجود”.
الصحفي المسؤول عن الخطاب المُثير للجدل هو كريستيان يونغَن، الذي شغل منصب كبير ناقدي الأفلام في صحيفة “نوية تسورخَر تسايتونغ آم زونّتاغ” لفترة طويلة، بالإضافة إلى ترؤسه القسم الثقافي في الصحيفة الصادرة بالألمانية في زيورخ منذ عام 2017. وقد غادر يونغَن هذا المنصب في عام 2019، لمُباشرة مهنة جديدة كمديرٍ فنّي لمهرجان زيورخ للأفلام. وهو يتقاسم مهام إخراج المهرجان اليوم مع مديرته الإدارية، ألكي مايَر.
عَجرَفة مُتمَركِزة في زيورخ
الخطاب المُتَشَدِّد لـ يونغَن تجاه أيام سولوتورن السينمائية، سَلَّط عليه الأضواء بشكل خاص منذ تعيينه مديراً فنياً لمهرجان آخر. فمنذ دورته الافتتاحية في عام 2005، ومهرجان زيورخ للأفلام – وهو من بنات أفكار كارل شبوري، وناديا شيلدكنيخت وأنطوان مونو الابن – يكافح ضد مزاعم تتهمه بالإفتقار إلى مُهمة إبداعية محددة.
بعد أسبوع من نَشر مقال يونغن الهجومي في عام 2015، دَحَضت صحيفة “سولوتورنَر تسايتونغ” الصادرة بالألمانية في سولوتورن ما ورد فيه، ووصفت الروح التوجيهية لِـمهرجان زيورخ بكونها “عبادة مشاهير انتهازية”. من جانبهم، قال عشاق السينما السويسرية إن مهرجان زيورخ للأفلام ليس سوى نوع من العَجرفة المتمركزة في زيورخ. أما منتقدو المهرجان فيقولون إن زيورخ تتوفر على مهرجان سينمائي رفيع المستوى فقط، لأن هذا النوع من الأحداث مُتَوَقَّع من مدينة كبرى.
فضلاً على ذلك، فإن التعقيدات السياسية، وصَفَقات الرعاية، ومُخصصات الميزانية غالباً ما تهدد بالقضاء على التطلعات الفنية للمهرجان. وعلى سبيل المثال، لم يكن مُستغرباً أن يثير اندماج المهرجان في مجموعة “نوية تسورخَر تسايتونغ” الإعلامية، التي تُشرف على الصحيفة التي تحمل نفس الاسم، الكثير من الشكوك.
في غضون ذلك، بات عددٌ من الشركاء التجاريين المَرموقين مثل مصرف كريدي سويس وشركة مرسيدس بَنز عناصر أساسية في المهرجان، شأنهم شأن النقاشات التي تدور حول الهوية المَرئية للمهرجان. وما مُلصق المهرجان لهذا العام، وهو مونتاج فوتوغرافي للممثلة الدنماركية ساندرا غولدبرغ كامب أمام سرير من الورود – صُنِع على عجالة كما يبدو – سوى أحدث قرار تصميم مؤسسي يثير التساؤلات حول الأولويات الرئيسية لميزانية المهرجان.
بالتالي، وحتى عشية انطلاق دورته السابعة عشر، ظلَّ من الصعب تعريف هذا الحدث بأي شيء آخر عدا كونه “الأيام الأحد عشر من التقويم التي تَعرِض فيها نوافذ المتاجر في زيورخ شعار المهرجان، وتكون دور السينما خلالها مُمتَلِئة بشكل يفوق المعتاد، والصحف زاخِرة بصور المُمثلين المشهورين وهم يخرجون من سيارات الليموزين الفارهة في ساحة ‘سيخسيلوتن’” (Sechseläutenplatz).
الجانب الإيجابي
بطبيعة الحال، فإن لهذا الحَدَث قيمته أيضاً. فمنذ تأسيسه، ازداد جمهور المهرجان بشكل مطرد، حيث تجاوز عدد المشاركين فيه مئة ألف شخص في عام 2018، مما يجعله ثاني أكبر مهرجان سينمائي في البلدان الناطقة بالألمانية بعد مهرجان برلين.
إن ترويج المهرجان للأفلام كوسيلة جماهيرية مُوَحَدة لهو أمرٌ جدير بالثناء، وهو ما يُمكن أن يقال أيضاً عن مجهوده السنوي لتحقيق توازن بين الأجور التي يمكن الوصول إليها بشكل عام، والسينما الفنية الدولية، وأعمال المخرجين الناشئين، من خلال سياسته التي تسمح للأفلام الأولى والثانية والثالثة فقط بالتنافس في فئات الأفلام الرئيسية.
وبالنظر إلى الصراع المُستمر بين عروض السينما والبَث المنزلي، فإن التزام المهرجان الأكيد بالسينما كمَساحة مادية هو أيضاً تَعبير مُرَحب به عن الولاء – رغم أن رَفض يونغَن ومايَر العلَني لفكرة عَرض مواد المهرجان عبر الإنترنت في عامي 2020 و2021 بدا أقرب إلى الموقف المتهور منه إلى الإدارة المسؤولة للجائحة.
مع ذلك، فإن الدفاع عن الشكل الفني للسينما نفسها لا يكفي لإعطاء هوية لمهرجان ما، كما لا تكفي حادِثة عَرَضية تتصدر عناوين الأخبار العالمية – مثل اعتقال المخرج والممثل البولندي – الفرنسي رومان بولانسكي في عام 2009 عند وصوله إلى زيورخ.
واليوم، وبعد مرور اثني عشر عاماً، لا تزال هذه الحلقة المُحرِجة أهم حَدث في تاريخ مهرجان زيورخ للأفلام، مما يسلط الضوء على افتقار المهرجان إلى المكانة الدولية من حيث البَرمجة.
مهرجانات سويسرية أخرى
رغم أن معظم المهرجانات السويسرية الأخرى لا تستطيع مُنافسة الحضور الجماهيري الكبير والمُتزايد في زيورخ، إلا أنها أفضلُ حالاً من حيث الهوية.
على سبيل المثال، لا يزال مهرجان سولوتورن السينمائيرابط خارجي رغم كل عيوبه الهيكلية التي لا يُمكن إنكارها، هو مكان التوجه المثالي في حال رغب المرء بالتعرف عما يجري في السينما السويسرية حالياً. كذلك يُعتَبَر “مهرجان رؤى الواقع” (Visions du Réelرابط خارجي) في مدينة نيون، ومهرجان “فانتوش” Fantocheرابط خارجي الدولي لأفلام الرسوم المتحركة في مدينة بادن، عنوانان مشهوران عالمياً لإنتاج الأفلام الوثائقية والرُسوم المُتحركة.
أما مهرجان لوكارنو، وهو مهرجان الأفلام السويسري الوحيد الذي لا يزال يتفوق على مهرجان زيورخ للأفلام من حيث حَجم الجمهور، فهو تشكيل أوروبي، لا يزال من أشهر المهرجانات السينمائية الفنية، على الرغم من أزماته الإدارية والفنية الأخيرة.
بالمقارنة، يبدو أن مهرجان زيورخ للأفلام، ومن خلال تركيزه على شُهرة النجوم، يَضَع نفسه في مكانة الطفل اللافت للإنتباه الجديد في الساحة، الذي يجتذب أكبر عدد من الأنظار من خلال استضافة الأسماء الأكثر شهرة، وعرضه للعروض الثانية [أي التي تُعرض بعد العرض الأول لفيلم ما] خارج المسابقة لصالح بعض الأفلام الأكثر توقعاً، التي عُرِضَت بالفعل في مهرجان كان أو البندقية.
عندما صعدَت الممثلة شارون ستون إلى خشبة المسرح في 25 سبتمبر الماضي لاستلام جائزة الأيقونة الذهبية لهذا العام، وهي جائزة تهدف إلى تكريم أساطير الشاشة الفضية، انضَمَّت إلى مجموعة من “المارقين” التي يتألف معظمهم من مشاهير هوليوود البيض، الناطقين بالإنجليزية، الذين سبق لهم استلام جوائز، بدءاً من شون بَنّ، وانتهاء بـ كيت بلانشيت، مما يعكس فهماً ضيقاً إلى حدٍ ما للشهرة الأيقونية من جانب القائمين على المهرجان.
بالمثل، توضح نظرة على برمجة المهرجان لاستعادة أعمال عدد من المُخرجين – حيث اشتملت القائمة هذا العام على أربعة عشر رجلاً وسيدتان فقط – الحرص على عدم الابتعاد كثيراً عن الأسماء المعروفة والراسخة بالفعل. وبالنسبة لمهرجان يطمح بوضوح لأن يكون جسراً بين الترفيه الشعبي وأعمال تتسم بقدر أكبر من الاستقلالية والتحدي، فإن الاهتمام بتطوير هذا القسم من برمجته يُمكن أن يُتيح للجمهور فرصة القيام باكتشافات حقيقية.
خيارات “آمنة”
مع ذلك، فإن واقع مهرجان زيورخ للأفلام غالباً ما يكون تعزيزاً للأذواق الحالية. فهو يراهن على مؤلفين أوروبيين آمنين ومقبولين لدى الأوساط المصرفية، مثل النمساوي مايكل هانيكي مخرج فيلم “الحب”(Amour) ، وأوليفيير أساياس مخرج فيلم “المتسوق الشخصي” (Personal Shopper)، أو باولو سورينتينو، مخرج فيلم “الجمال العظيم” (The Great Beauty)، الذي تُعتَبَر أفلامه الركائز الأساسية لدور السينما السويسرية.
ويمكن القول أن بول شريدر، الذي كُرِّمَ بـ “جائزة الإنجاز مدى الحياة” لعام 2021، والذي عُرضت أحدث جهوده الإخراجية – الدراما النفسية “عدّاد البطاقات” (The Card Counter) في المهرجان، قد أصاب كبَدَ الحقيقة بطريقة ما خلال كلمة الشكر التي ألقاها، عندما وصف مهرجان زيورخ بـ “مهرجان الأفلام العصري للغاية”.
في دورته السابعة عشرة، وصل مهرجان زيورخ للأفلام إلى مرحلة لا يبدو فيها من العَبَث أن يتساءل – وكما في استعارة يونغَن لمهرجان سولوتورن – عن المكانة التي يود أن يرى نفسه فيها بالمستقبل.
وعلى الرغم من نجاحه في ترسيخ مكانته في سويسرا كاحتفال للسينما كمفهوم، لكن لا يزال يتعيّن عليه أن يجد هدفه الحقيقي كمهرجان سينمائي على الساحة الدولية. ومن المؤكد أنه من السابق لأوانه اعتباره “مهرجاناً يمكن الاستغناء عنه”، لكن البدء في البَحث عن الذات ليس سابقاً لأوانه أبداً.
يكتب آلان ماتلي مقالاته عن السينما باستمرار، باللغتين الألمانية والإنجليزية. وهو يقوم بنشرها على مدونته الخاصة FacingTheBitterTruth.comرابط خارجي، وعلى مجموعة متنوعة من المنشورات التي يغلب عليها الطابع السويسري، مثل Frame و Maximum Cinema. يُمكنكم متابعته على موقعي تويتر وانستاغرام @AlanMattli، وكذلك على موقع Letterboxd (alanmattli).
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
اكتب تعليقا