هل ينضم “الفن الخام” إلى جنون السوق العالمية للفن؟
أثارت الشعبية المفاجئة للفن الخام "Art brut" أو ما يُطلق عليه أيضاً بالفن الخارجي أو الدخيل، موجة من الحُمّى التي بدأت تصُبّ في سوق الفن المُعاصر. ومع ازدياد الطلب على هذا النوع من الفن، يشتدّ الجدل بين الخبراء وجامعي الأعمال الفنية حول ما إذا كان لهذه الأعمال، التي ينتجها المهمَّشون اجتماعيا والمُستثناة من المكافآت وغير الخاضعة لقواعد وأسُس الفن المعروفة، أي سبب يدفعها للاستمرار.
“بادئ ذي بدء، لا يمثل الفن الخام حركة فنية لها بداية ونهاية”، كما توضّح سارة لومباردي، مديرة متحف “مجموعة آرت بروت” في لوزان، الذي يعرض المجموعة الأولى من نوعها والأكبر في العالم لهذا الفن.
وقد نُسِبَت بدايات هذا الفن إلى جان دوبوفِّي (1901-1985)، الرسّام والنحّات الفرنسي، الذي نشط في أربعينيات القرن الماضي في البحث عن أعمال “الفن الخام” في مشافي المرضى النفسيين وغيرهم من المُهمّشين إجتماعياً، لاسيما في سويسرا وفرنسا.
وفي عام 1976، قدَّم دوبوفّي هذه الأعمال في متحف لوزان، والذي تأسس بالاستناد على هذه المجموعة الفنية. وقد صاغ دوبوفّي مُصطلح الفن الخام/البكر، مُعرِّفاً إياه بـ “عملية فنية نقية وخام تماماً لمجموعة من الناس لا تملك ثقافة فنية، يعيد مبتدعوها تكوينها في كافة مراحلها، مما يجعل نتاجهم ممثلاً لنبضاتهم الشخصية حصراً، وغير خاضع لقواعد وأسس الفن المعروفة وللتيارات والنزعات الفنية السائدة”.
“الجديد في الأمر، هو عدم اقتصار ‘الفن الخام’ على ظلال عالم الفن” كما قالت لومباردي، وهي تبتسم، مُعترفة بأن جان دوبوفِّي لم يكن ليتوقّع التوجّه الذي نراه اليوم. ومؤخّراً، نظمت العديد من أماكن الأحداث المرموقة، بضمنها بينالي (Biennale) البندقية (الذي يعتبر أحد أقدم وأهم البناليهات، ومن أهم أحداث الفن المعاصر الدولية، التي ينتظرها المهتمّون كل عامين منذ عام 1895)، في عام 2013 فعاليات فنية تدور حول “الفن الخام”. بَيْد أن الحدث يكمُن في التركيز الجديد، الذي لا يسلِّط الضوء على غرابة هذا الفن الذي يُعرف أيضاً تحت مسميات “الفن الدخيل” أو “الفن البكر”، ولكن على ما يتضمّنه من إبداع. ويبدو أن الحدود المعروفة مع الفن السائد، في طريقها إلى التلاشي.
“كان دوبوفّي يعتقد أن ‘الفن الخام’ سوف يقلب المتاحف التقليدية ويعمل كقوّة مضادّة، ولكن ما حدث كان العكس في الواقع، إذ بدأ عالم الفن، وبضمنه سوق الفن المعاصر، بالْتهام ‘الفن الخام’”، وِفقاً لما عبّـرت عنه لومباردي.
وفي هذا السياق، ذكرت لومباردي عدداً من المعارض الفنية المُقامة الآن، إلى جانب المعارض التجارية الكبيرة والتي تعرض أعمال هذا الفن الدخيل/ الخارجي، مثل المعرض الدولي للفن المعاصر (FIAC) في باريس ومعرض “فريز آرت” للفنون المعاصرة في لندن ونيويورك.
أما المتحف البصري MuséeVisionnaire، الذي افتتح حديثاً في زيورخ، وهو فرع لقاعة عرض تجارية سابقة، فيهدف إلى إظهار ‘الفن الخام’ ضِمن سياق الأشكال الفنية المُتّصلة الأخرى، مثل الفن الحضري وفن الشارع.
يُنتج الفن الخام “آرت بروت” أو الفن الخارجي أو الدخيل، كما يُسمّى أيضاً من قِبل أشخاص يعملون خارج التيار الرئيسي لعالم الفن (مثل المهمَّشين اجتماعياً والمتخلّفين عقلياً والسجناء والمرضى النفسيين وغريبي الأطوار والوحدانيين، وجميع الأفراد المتحرّرين من قيود الثقافة). ولا يمتلك هؤلاء ثقافة فنية، لأنهم غير مُدرّبين ومعزولين ثقافياً، سواء جسدياً أو نفسياً. وفي العادة، تبقى الأعمال المُنفّذة في إطار هذا الفن، خارج تصنيفات ميادين الفنون الجميلة، ولا تضع المتلقّي في حسابها، كما أنها لا تحمل غايات وأهدافاً محدّدة.
لا يتوفر عالم “الفن الخام” سوى على نِتاج قليل يعود للنساء.
يمثل الفن الرقمي منطقة جديدة للتحليل والدراسة، برغم الخِشية من فِقدان العديد من الأقراص الصّلبة المتضمّنة لهذا النوع من الفن.
قوى السوق الخارجية
وِوفقاً للسيدة لومباردي، تكمُن المفارقة في أن فناني “الفن الخام”، الذين تُفضّل الإشارة اليهم بـ “المؤلّفين”، لا يعملون أبداً بهدف الحصول على الاعتراف أو المال، ولا يمكنهم بالتالي، الإستجابة لتوقّعات السوق. كما أضافت، “لا تُكتَشَف الكثير من هذه الأعمال، إلا بعد وفاة مُبتكريها”. “يقع دور إعادة هذه الحقائق على الخبراء”، كما تقول، مُضيفة “هذه هي القوة التي تدفعنا”.
ويمثل البينالي، الذي أطلقته لومباردي مؤخّراً (انظر معرض الصور) على وجه التحديد، رسالة تذكير لدور المجموعة الفنية لهذه الأعمال في لوزان، فضلاً عن كونه وسيلة للكشف عن ثروة غير عادية لمجموعة تضم 60,000 عمل بالفعل، بدءاً بتلك التي تبرّع بها دوبوفّي أصلاً والتي بلغت 5,000 عمل.
ومن الطبيعي أن المتحف لا يستطيع العمل خارج سوق الفن، كما اعترفت لومباردي “ولكننا نفضل الوصول إلى هناك قبل ذلك، عندما نستطيع”. وعند سؤالها حول السبب الكامن في الاعتراف المفاجئ بهذا الفن، أجابت :”يتوفر ‘الفن الخام’ على بعد روحي، غالباً ما يفتقر إليه الفن المعاصر”.
المزيد
هواجـسُ فـنّـانـيــن في لــــوزان
التعامل الغريب
في حين تميل متاحف “الفن الخام” المنتشرة في أنحاء العديد من الدول (انظر الحاشية) إلى البقاء خارج التيار الرئيسي للفن، تبذل صالات العرض كل ما بوسعها للإستحواذ على هذا الفن. فهذه المعارض بحاجة إلى بيع أعمال فنية في نهاية المطاف.
من جهتها، عملت سوزان زاندر، صاحبة رواق كولونيا الفني على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، دون كلل في مجال إكتشاف “الفن الخام”، الذي ترى ضرورة حصوله على التقدير إلى جانب الفن المعاصر.
ويحلو لسوزان زانَدر استعارة مصطلح “المُنَظرين الدخلاء” من روبرتا سميث، الناقدة في صحيفة نيويورك تايمز في وصفها للهوَس الأُحادي المفهوم للفنانين الذين يعملون بتوجّس واستحواذ في بيئة واحدة، مكوّنين منها عالَما مُكتملاً خاصا بهم من خلال أعمالهم الفنية.
وفي مقابلة عبر الهاتف، أشارت سوزان زاندر إلى تقدم “الفن الخام” واكتسابه للأرضية كردّ فعلٍ على ما يحدُث من تمثيل افتراضي للعالم. وِوفقا للسيدة زاندَر “يبحث الناس في هذا العصر الرقمي عن الجذور والأصالة”، مُضيفة بأنها تنفق أكثر من نِصف وقتها في البحث عن المُنَظّرين الدخلاء الجُدد.
“بإمكانك أن تريني 1000 عمل، وسوف يكون بوسعي اختيار المهمّ منها فوراً”، كما قالت. وأضافت: “كلما ازدادت غَرابة العمل الفنّي، كلما ازدادت الإمكانية بالنسبة لي لأن أخطو إلى الداخل وأرى العالم من وِجهة نظر الفنان، حتى ولو لِبِضع لحظات”.
ومن وجهة نظر زاندر، لم يحدُث تحوّل كبير في سوق الفن، حيث ما زال زبائنها من جامعي الأعمال الفنية، كما عهدتهم في السابق. ولكنها تُلاحظ، مع ذلك أن “الجمهور أشَد اهتماما بكثير”، وتُصِرّ على وجوب عدم التعامل مع “الفن الخام” بشكل مختلف، ومن وجهة نظرها فإن “هذا الفن لا ينتمي إلى الجدران المظلمة”.
كل شيء للجميع
وبرأي جيمس بريت، البريطاني المُتمرّد الذي يمتهِن إنتاج الأفلام كحِرفة “كان جان دوبوفّي متألِّقاً، ولكنه كان مُخادِعاً وفاشياً بعض الشيء أيضاً”. وقد حوّل بريت حبّه للفن الخارجي (وهو مصطلح يتجنّبه)، إلى مغامرة تُهيمن على حياته اليوم.
وفي عام 2009، أُنشِئ “متحف كل شيء”، إنطلاقاً من إهتمام بريت بـ “الفنانين غير المُدرّبين، العَرَضيّين، غير المُكتَشَفين وغيْر القابلين للتّصنيف في العصر الحديث”. ولقي هذا المتحف المتنقِّل، الذي يضم أعمالاً مُستخلصة من مجموعته الخاصة بشكل رئيسي، والذي عُرِض بنجاح في لندن وتورينو وباريس وموسكو والبندقية، إشادة شعبية، مُستقطِباً جمهورا جديداً تماماً إلى هذا الفن الذي يجتهِد في الدِّفاع عنه، وإن كان بتركيز أكبر من ذلك الذي أملاه دوبوفّي.
من جهة أخرى، يبدو بريت على قناعة بأن الإستهلاك الواضح للفن الحديث والمعاصر خلال فترة الركود الإقتصادي، قد ساهم في صمود مغامرته، وينوّه إلى أن “الناس بحاجة الى إعادة الإتّصال مع الإبداع”.
خطر مقبل؟
في سياق متصل، أشارت لومباردي إلى أن السّمعة السيئة التي حظي بها “الفن الخام” تعود إلى الإستخدام المتعسّف لهذا المُصطلح في أغلب الأحيان. وذكرت كمِثال على ذلك، العرض الذي أقامته بلدية مدينة باريس في نوفمبر 2013 لأعمالٍ أنتجت في ورش عمل خاصة بالأشخاص المعوّقين تحت عنوان “الفن الخام: أطوار غريبة تماماً”، وهو اتِّجاه شائع في فصول العِلاج باستخدام الفن.
كذلك يسري مفهوم خاطئ شائع، حتى بين العديد من المعارض والتجار، يفيد بانتماء أي نتاج فنّي يعود إلى الأفراد المهمّشين إلى هذه الفئة، ولكن هذا بعيد جدا عن الواقع، وِفقاً للومباردي. وكما تُصرّ مديرة المتحف، لا يمكن الحديث عن الفن الخام إلّا عندما تعكس مجموعة كاملة من الأعمال نظاماً قوياً ومُعقّداً من التمثيل – المُمَيّز بشدّة – وحتى في تلك الحالة، ينبغي أن تتوفر الموْهِبة.
لومباردي شدّدت على عدم امتلاك الأفراد المهمّشين لمواهب أو إبداعات تزيد عن تلك الموجودة في أية مجموعة سكّانية ككل. ووفقاً لكلماتها، فإن “هذه الظاهِرة نادِرة جدا”. وبنظر لومباردي، يبقى التأثير العاطفي للعمل الفني والطريقة التي تهزّ بها مشاعر المشاهد، هو المِعيار النهائي، لكنها تقول مُحذرة: “لا يصبح الشخص خبيراً بالفن الخام بين عشِية وضحاها”.
في عام 2013 لوحده، أقيم عدد من المعارض الرائدة لـ “الفن الخام” في العديد من الأماكن المرموقة التالية:
في العاصمة البريطانية لندن، قدّمت صالة عرض هايوارد Hayward Gallery معرض “الدليل البديل للكون”، في حين عرض متحف “مجموعة ويلكوم’Wellcome”Collection الفن الخام من اليابان.
في العاصمة الألمانية برلين، نظّم متحف محطة هامبورغ معرض “سلسلة سِر الكون”، فضلاً عن معرضٍ لأعمال هيلما إف كلينت، إحدى الرائدات السويديات للفن التجريدي.
استند موضوع بينالي البندقية في دورته الخامسة والخمسين في عام 2013 على عمل مارينو أوريتي، الفنان الإيطالي/الأمريكي العصامي، المنتمي للطبقة العاملة، المُسمّى “قصر العالم الموسوعي”، وامتدّ ليشمل مُفكري ومُعالجي القرن العشرين.
تتضمن متاحف الفن الخام غالباً أعمالاً للفن الشعبي أو الفن الساذِج. وتظهر القائمة التالية – وإن لم تكن شاملة – مجموعة واسعة لهذه المؤسسات و خصائصها .
سويسرا
مجموعة “أرت بروت” (الفن الخام) في لوزان المخصصة لهذا الفن حصراً.
“المتحف البصري” (MuséeVisionnaire)، أحد الفروع الجديدة لصالة عرض سوزي برونَّر للفن المعاصر والخام في زيورخ، والذي يمتد إلى عرض ما يُعتبر فناًّ بصرياً، كما يُشير اسم المتحف.
متحف “في المستودع”، وهو مؤسسة سويسرية للفن الساذِج والفن الخام بالقرب من سانت غالن، مُكرّسة لكِلا الفنّيْن بنفس القدر.
أوروبا
متحف ليل متروبول Lille Métropole Museum للفن الحديث والفن الخام في شمال فرنسا، وهو أحد المتاحف القليلة التي تمزِج جميع أنواع الفن بوقاحة.
متحف GAIA للفن الخام في راندرز، شمال الدنمارك.
متحف سافناسافنيو Safnasafnið، للفن الإيسلندي الخام والشعبي، الواقع شمال أيسلندا.
الولايات المتحدة
متحف الفن الشعبي الأمريكي في نيويورك، الذي تم تقليصه إلى مقرّ جديد.
متحف الفن الرؤيوي الأمريكي في بالتيمور، المستوحى من مجموعة “الفن الخام” في لوزان.
الإستشعار: مركز الفن الحدسي والفن الخام في شيكاغو.
روسيا
متحف موسكو للفن الخام، المُكرَّس حصراً لجمع وعَرض “الفن الخام” في روسيا.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.