الزلازل بين المساعدات والحسابات السياسية
تخيل أنك نائم في سريرك، في منزلك - وتحت سقف يغطيك ويوفّر لك الأمان والاستقرار كما كل البشر - ثم تستيقظ على حين غفلة، على وقع الأرض وهي تهتز بعنف، وترى المباني وهي تنهار من حولك، وتشاهد أحباءك وهم يختفون في التراب وبين الأنقاض.
كانت تلك تجربة مئات الآلاف من السكان في مناطق عديدة في تركيا وشمال سوريا خلال الأسبوع الماضي، وهي منطقة – خاصة سوريا – قد عانت خلال الإثني عشر عاما الأخيرة من ويلات الحرب ، ومن نقض الاحتياجات الأساسية، ومن نزوح الملايين من السكان مرات عديدة، وكل ذلك قبل وقوع الزلزال.
خلال هذه الكوارث المدمرة من المفترض أن تتجلّى مشاعر الإنسانية والرحمة في العالم؛ عبر سرعة التحرّك في تقديم المساعدة بحرية وبدون فرض قيود أو طرح أسئلة.
في نسخة هذا الأسبوع من بودكاست “من داخل جنيف “، تشرح إيموجين فولكس، مقدمة الحلقة وضيوفها كيف اصطدمت مشاعر التعاطف بالعقبات الجيوسياسية، وكيف، بالرغم من ذلك، عقدت الوكالات الإنسانية العزم على الوفاء بواجبها تجاه كل المحتاجين.
سباق مع الزمن
عندما يضرب زلزال منطقة ما، تكون هناك فرصة زمنية قصيرة، بضعة أيام فقط، لإنقاذ الناس أحياء من تحت ركام المباني المنهارة. ولذلك، وصلت فرق البحث والإغاثة الدولية، مع الكلاب ومعدات الرفع الثقيلة، على وجه السرعة إلى تركيا.
لكن فِرَق البحث والإغاثة لم تستطع الوصول إلى شمال غرب سوريا رغم أن الزلزال قد ضربها هي أيضاً؛ فهذه المنطقة لا تزال تقع تحت سيطرة مختلف الفصائل المتمردة التي لا يتفق بعضها مع البعض الآخَر، سوى في معارضتها جميعها للحكومة السورية.
وحتى قبل حدوث الزلزال، كانت الاحتياجات الإنسانية تتزايد في هذه المنطقة، في المقابل، كانت المساعدات في تناقص. ويعيش في هذه المناطق أكثر من أربعة ملايين شخص، معظمهم من النساء والأطفال، يعتمدون على المساعدة من وكالات الإغاثة، ناهيك عن تفشي مرضيْ الكوليرا والحصبة.
ولكن كيف يمكن تأمين المساعدة لهؤلاء الناس؟ بالنظر إلى فداحة الدمار الذي شهدته تركيا، من المتوقع أن تكون الاحتياجات في سوريا ضخمة جداً. لكن ومنذ أكثر من عام، ما زال الطريق إلى المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة في سوريا محفوفةً بالعقبات. فتأمين المساعدات التي تتدفق عبر دمشق (وهناك الكثير منها) يحتاج إلى إذن من الحكومة السورية للقيام بأية عمليات عبر “خطوط التّماس” الفاصلة بين الحكومة وفصائل المعارضة، من أجل الوصول إلى المناطق التي تسيطر عليها هذه الأخيرة. في خلال عام 2022 بأكمله، سُمح بمرور عشر قوافل فقط من المساعدات الإنسانية.
كما يمكن الوصول إلى هذه المنطقة أيضاً عبر تركيا. وإذا نظرنا إلى خريطة هذه المنطقة فسنرى المعابر الحدودية التي يمكن أن تكون آمنة لتقديم المساعدات بسرعة إلى شمال سوريا، بما في ذلك كل المعدات الثقيلة المهمة لرفع الأنقاض وإزالة الركام.
سابقاً، كانت هناك أربعة معابر حدودية لمرور المساعدات الإنسانية، ولكن حاليّاً، وبعد اعتراضات روسيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على تقديم المساعدات للمناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة، لم يبق سوى معبر واحد فقط. وقد تمت إعادة فتح هذا المعبر اليوم، رغم أنه كان قد تم إغلاقه أصلاً نتيجة الأضرار التي خلّفها الزلزال.
الإفراج عن المساعدات
ولهذا السبب، يزور العديد من كبار مسؤولي هيئات الإغاثة سوريا. تقول ميريانا سبولياريتش، رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهي تجول في شوارع حلب: “لا ينبغي أبداً إعاقة تقديم المساعدات الإنسانية المحايدة أو تسييسها. علينا العمل على تسهيل تقديم هذه المساعدات، والوصول إلى مناطق تواجد السكان المتضررين”.
وفي الوقت الذي أكتب فيه هذا المقال، يبدو أن العمل جارٍ على التخفيف من بعض العوائق التي تحول دون وصول المساعدات إلى المناطق المتضرّرة؛ حيث صرحت الجهات المعنية في دمشق بأنها ستسمح بتسليم المساعدات الإنسانية عبر خطوط التّماس الفاصلة، وبأنها، من جانبها، ليس لديها أي اعتراض على فتح معبريْن إضافيّيْن على الحدود مع تركيا. وإذا كانت هذه الخطوة تسهّل عملية تقديم المساعدات التي تطالب بها وكالات الإغاثة دون أية عوائق ، فسيكون أمرا جيّدا.
ولكن، وكما نرى من خلال مناقشاتنا في بودكاست “من داخل جنيف ” ، فإن مسألة المساعدات- من يحصل عليها وإلى أي جهة تذهب – غالباً ما تحددها السياسة. بالعودة إلى الحرب السابقة في يوغوسلافيا، كان الصحفيون يشاهدون بانتظام قوافل الشاحنات التي تحمل مساعدات الأمم المتحدة وهي عالقة لعدة أيام على الطرق، لتقوم جماعة أو أخرى من الجماعات المسلّحة بتفريغ وإعادة تعبئة حمولة هذه الشاحنات. في بعض الأحيان، وليس دائماً، كان جنود هذه الجماعة يقومون بالاستيلاء على الأشياء التي تروق لهم، قبل منح الإذن بالمرور والانطلاق إلى الوجهة المقصودة.
والأمر ذاته كان يحدث في سوريا، حيث كانت كل من وكالات الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر تقوم جاهدة، وشهراً بعد شهر، بمحاولة إيصال المساعدات الإنسانية إلى المدن المحاصرة، وكان يتم تقويض محاولاتها بانتظام. وفي الآونة الأخيرة، أمضت وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة شهوراً وهي تسعى إلى الوصول إلى تيغراي في إثيوبيا، منتظرةً تلقّي ما قد يمليه عليها المتقاتلون هناك من شروط للسماح بدخول المساعدات الإنسانية المنقذة للأرواح.
فقدان الأمل
من الواضح أن السياسيات المتبعة من قِبَل أطراف النزاع تؤدي إلى تكبّد المزيد من الخسائر في الأرواح، ولا سيّما في شمال سوريا. لقد أُغلقت نافذة الأمل التي عوّلت على الأيام القليلة الماضية التي تلت حدوث الزلزال مباشرة، من أجل القيام بعمليات إنقاذ السكان من تحت الأنقاض. في بودكست “من داخل جنيف “، نتحدث إلى بعض وكالات الإغاثة الصغيرة، التي تعمل جميعها في سوريا منذ سنوات، والتي يقوم بدعمها كلها مؤسسة “سلسلة السعادة” الإنسانية السويسرية. كل هذه الوكالات حصلت، من الجهات المعنية في دمشق، على تراخيص للقيام بعمليات الإغاثة. و في الوقت الحالي، تمارس هذه الوكالات نشاطها في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، ولكن مع قرار بالسماح لها بتسليم المساعدات عبر خطوط التّماس، قد تكون الأمور عرضة للتغيّر.
هاروتون سليميان رئيس الكنيسة الأرمينية الإنجيلية في حلب، والذي يعمل مع منظمة الإغاثة التابعة للكنائس البروتستانتية HEKS، قال لي إن الزلزال الذي طال مدينته التي عانت في الآونة الأخيرة من صراع مروع، “مرّغ أنوف الناس في التراب”. وأوضح لي إنه يقصد بهذه العبارة “الجروح النفسية: فأولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة، يتكئون على نصف قدراتهم البشرية، في أذهانهم وأرواحهم. إن عامل الشعور بالخوف والرعب هو الوحيد الذي يبقى محفوراً في النفوس لأمد طويل. ولذلك، لا أحد على استعداد للعودة إلى منزله”، على حد تعبيره.
المنزل هو المأوى الذي يشعر فيه معظمنا بالأمان. لكن السوريين في حلب يفتقدون هذا الشعور. قام هاروتون وزملاؤه بفتح أبواب كنائسهم للسكان . فهم ينامون فيها، أو في الحدائق العامة، أو في سياراتهم ولا أحد يرغب بالعودة إلى منزله. فبعد ما عانوه من رعب القنابل والمدفعية، ها هو اليوم رعب الزلزال يقض مضاجعهم، ولا أحد يعتقد أن المنزل مازال مكانا آمنا.
وفي مدينة دمشق، يشعر وائل درويش، المنسق القطري لسوريا لمؤسسة كاريتاس سويسرا، هو أيضاً بالقلق بشأن تداعيات الزلزال على قدرة الناس على الاستمرار والصمود. ويعبر عن قلقه قائلاً: “يسألني عناصر الفرَق التي تعمل معي، يسألني الناس ، يسألني شركاؤنا: لماذا؟ لماذا يحدث ذلك معنا؟ لقد خرجنا للتو من صراع مرير استغرق سنوات. ماذا يمكن أن يفعلوا بعد ذلك؟ إلى أين يمكن أن يذهبوا بعد ذلك؟ أعتقد وبكل أسف، أنهم قد فقدوا الأمل”.
هذا الأسبوع، تواصل مؤسسة “سلسلة السعادة” الإنسانية السويسرية Swiss Solidarity مناشداتها ونداءاتها للتبرع بالأموال لدعم الأعمال الخيرية التي قام بها كل من وائل وهاروتون وكثيرون غيرهم. وقامت الأمم المتحدة يوم أمس بإطلاق نداء بهذا الشأن أيضاً. ومما لا شك فيه أن الأموال لن تعيد بناء المنازل بين عشية وضحاها، كما أنها لن تشفي جراح الروح المحطمة بسحر ساحر. لكنها على الأقل، وكمرحلة أولى، ستمنح المنكوبين الحد الأدنى من المواساة لتجاوز الشعور بفقدان الأمان. كما أنها ستمنحهم بعض الدفء في هذه الظروف العصيبة، وستمكْنهم من إطعام أسَرِهم .. وفي مشوارهم الطويل لتخطي الكارثة، ليست هذه المرحلة سوى البداية.
تحرير: فيرجيني مانجان
ترجمة: جيلان ندا
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.