السويسريون والذهب.. قصة حبّ عتيقة، فهل تتجدد؟
تمتلك سويسرا أكبر معدّل من احتياطي الذهب للفرد الواحد على مستوى المعمورة، إلا أن البعض يرى بأن ذلك غير كافٍ. لذلك، أطلقت بعض الأطراف المبادرة الشعبية، التي سيجري التصويت عليها يوم 30 نوفمبر 2014، والتي تطالِب بأن يكون مخزون الذهب لدى المصرف الوطني السويسري، ثلاثة أضعاف ما هو عليه الآن. في الأثناء، لا مفر من انتظار نتيجة التصويت لمعرفة إلى أي حدّ يدغدغ المعدن الأصفر عواطِف السويسريين!
يمتلك المصرِف الوطني السويسريرابط خارجي (أي المركزي) احتياطات ذهب تبلغ 1040 طُـنا من المعدن الأصفر، ويحتلّ المرتبة السابعة في قائمة الدول التي يُوجد لديها أكبر احتياطي ذهب في العالم. وتبلغ حصّة الفرد في سويسرا من هذا المعدن النفيس 128 غراما، من دون حساب السبائك والمُجوهرات وغيرها من المصوغات الذهبية ذات الإستعمال الشخصي، وهي قيمة تفوق بكثير ما عليه الحال في جميع البلدان الأخرى. فعلى سبيل المثال، يبلغ نصيب الفرد في ألمانيا يبلغ 42 غراما وفي إيطاليا 40 غراما وفي فرنسا 38 غراما وفي أمريكا 26 غراما.
خلال السنوات المقبلة، يُمكن لجبل الذهب هذا أن يتضاعف ثلاث مرات، في حال موافقة الناخبين على مبادرة “إنقاذ ذهب سويسرارابط خارجي“، التي أطلقها بعض ممثلي اليمين المحافظ، وهي تُلزِم المصرف الوطني بأن لا تقل احتياطاته من الذهب في غضون خمس سنوات عن 20٪ من أصوله. وبحسب المعطيات الحالية، فإن احتياطي الذهب السويسري سيرتفع عندئذٍ إلى 2500 أو 3000 طُـن، وهو مخزون لا يملك أحد أكثر منه في العالم سِوى أمريكا وألمانيا.
المِحور الرئيسي لتجارة الذهب
ليست هذه هي المرة الأولى التي يُصوّت فيها الشعب السويسري بشأن ما بحوْزة المصرف الوطني (من احتياطي الذهب)، ولطالما أشعل الذهب المعارك السياسية الداخلية وكان سببا لعدة توتّرات مع الدول الأخرى، ومن هنا جاز طرح السؤال: هل الشعب السويسري متعلِّـق بالذهب أكثر من غيره؟ ولماذا تراكمت لديه كل هذه الإحتياطيات من المعدن الأصفر؟
يُجيب توبياس ستاومانرابط خارجي، أستاذ التاريخ الإقتصادي في جامعة زيورخ: “أعتقد أن هناك سببيْن رئيسييْن: أولاهما، هو أن سويسرا حظِيت على مدى الـ 150 سنة الأخيرة باستقرار اقتصادي كبير، كثيرا ما أتاح للدولة أن يكون لديها فائض مالي تستخدِمه في شراء الذهب. والسبب الثاني، يكمن في أن سويسرا أتيح لها تجنّب الحروب والصِّراعات الخطيرة، وممّا هو جدير بالذكر، أن عدة دول قامت في الفترة ما بين الحربين العالميتين والتي تميّزت بالكساد الإقتصادي والتضخّم الجامح، بشراء الكثير من الذهب، غير أن أغلبه تمّ فيما بعد نهْبه من قِبل النازيين، كما حصل مع كل من هولندا وبلجيكا على سبيل المثال”،
وخلال الحرب العالمية الثانية، أصبحت سويسرا المِحور الرئيسي لتجارة الذهب في أوروبا. وبوصفها بلدا مُحايدا، قامت بشراء المعدن الأحمر بما قيمته 1,8 مليار فرنك من الحلفاء وبما قيمته 1,3 مليار فرنك من دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان)، وانتهى المقام بثلثي هذا الذهب إلى الإستقرار في خزينة المصرف الوطني السويسري. وفي عام 1946، ونتيجة للهجوم عليها من قِبل القوى المُنتصرة بسبب تلك المعاملات، اضطرّت سويسرا لدفع 250 مليون فرنك على شكل ذهب لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
الذهب والعملات
على مدار حِقبة طويلة من الزمن، لعب الذهب دورا مهما في النظام النقدي الدولي. فحتى القرن التاسع عشر والعالم يكاد لا يستخدِم سوى الذهب والفضّة كوسيلة للبيع والشراء.
في وقت لاحق، ومع بدْء العمل بالأوراق النقدية والنقود المعدنية – من غير المعادن الثمينة – ألْزِمت البنوك المركزية،
وحتى وقت طويل، بتحويل العملات الوطنية إلى ذهب أو الإحتفاظ باحتياطيات كبيرة لضمان قيمة عملاتها الوطنية.
وفي عام 1978، بموجب اتفاق توصّلت إليه الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي، تمّ إبطال الصفة النقدية للذهب، وهو ما يعني فكّ الإرتباط بين العملات والذهب، وبالتالي، تحرير سعر الذهب وجعله خاضعا لمبدإ العرض والطلب فقط.
في الوقت الحاضر، تمتلك البنوك المركزية مُجتمعة حوالي 30 ألف طُـن من الذهب، وهو أقل من خُمُس الكميات المتاحة من المعدن الأصفر في جميع أنحاء العالم، بينما يتراوح الإنتاج العالمي من الذهب ما بين 2500 و3000 طن سنويا.
احتياطي عفا عليه الزمن
في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، لم تجد سويسرا نفسها مُضطرة لاستخدام مخزونها من الذهب في تمويل إعادة الإعمار، كما جرى في العديد من الدول الأخرى، وإبّان العقود التالية، تمكّـن المصرف الوطني السويسري، بفضل الإستقرار الإقتصادي وصلابة القاعدة المالية للكنفدرالية، من زيادة احتياطي الذهب الموجود لديه من 1194 طُـنا في عام 1945 إلى 2703 طُـنا في عام 1965، لتُصبِح هذه الإحتياطات الضخمة، الخامسة على مستوى العالم، وإلى حدٍّ ما، حارسا لاستقرار واستقلال سويسرا في مواجهة كتلتين عُظميين خلال الحرب الباردة، ولكسب الثقة الدولية بشأن مركزها المالي الآخذ في الإزدهار.
وفي سبعينيات القرن الماضي، وبموجب اتفاق ضمن صندوق النقد الدولي، تخلّت معظم الدول عن التكافُؤ بين الذهب وعُملاتها الوطنية، مما أفقد المعدن الأصفر أهميّته التاريخية في النظام النقدي الدولي، إلا أن سويسرا واصلت المراهنة على الذهب لفترة طويلة ولم تُـلغِ ارتباط الفرنك بالتبر الأصفر، إلا في عام 1999 في إطار مُراجعة شاملة للدستور الفدرالي. وبعد هذه الخطوة، تمّ التصريح للمصرف الوطني ببيع جُزء من احتياطي الذهب لأول مرّة، بينما كان لا يُسمَح قبل ذلك بالمساس به.
“في ذلك الوقت، نشأت في سويسرا ضغوط سياسية مكثفة جاءت من كل الجهات، من أجل بيْع جزء من أصول الذهب الموجودة لدى البنك المركزي السويسري، باعتبار أن هذا الإحتياطي الضخم، كما كان باديا، قد تخطّاه الزّمن، فلم تعُد ثمّة مخاوف كبيرة من حدوث تضخّم اقتصادي، فضلا عن أن سِعر الذهب، الذي هو أصل غيْر مُنتِج، قد صار له قرابة العشرين عاما وهو يتراجع، حتى ساد انطباع لدى الكثيرين بأن البلاد تُكدّس ثروة طائلة بلا فائدة”، على حدّ ما ذكر توبياس ستراومان.
الصراع على العائدات
بناءً عليه، قرّرت الحكومة الفدرالية ومعها البرلمان في عام 1999، تسييل أكثر من نصف احتياطي الذهب الموجود لدى المصرف الوطني السويسري، لأنها لم تعُد مجدية للسياسة النقدية الوطنية. وخلال فترتي 2000-2005 و2007-2008، باع المصرف الوطني 1550 طُنا من الذهب، ونزلت الدفعة الأولى البالغة 1300 طن إلى السوق، بينما كان سعر المعدن الثمين ضِمن أدنى مستوياته منذ عقود.
“بالتأكيد، كانت هذه الصّفقات خاطئة، ذلك أن الذهب ربّما كان الأصل الوحيد الذي أثبت على مرّ العصور، قُـدرته على تعويض التضخّم المالي، إلا أن الجميع في تلك الأيام، كان طامعا في الإستفادة من تلك الثروة، واندلعت بين الأحزاب المختلفة معركة مفتوحة حول كيف يُمكن استغلال عائدات بيع الذهب”، وِفق ما أشار إليه بيتر برنهولتسرابط خارجي، الخبير الإقتصادي المتخصّص في التاريخ النقدي.
وفي عام 2002، رفض الناخبون السويسريون، الإقتراح القاضي بتحويل جميع عائدات مبيعات الذهب إلى صندوق التأمين على الشيخوخة والباقين على قيد الحياة، ومُقترحا آخر يدعو إلى صرف جزء من تلك العائدات لحساب مؤسسة تضامنية تكلّفها الحكومة، وتكون مهمّتها التخفيف من وطْأة الحملة الدِّعائية الجديدة التي تشنّها الولايات المتحدة حول تصرّفات سويسرا إبّان الحرب العالمية الثانية، ثم انتهى المطاف بتلك الأموال بأن تمّ إيداع 21 مليار فرنك منها في خزينة الحكومة الفدرالية وخزائن الكانتونات، في حين استخدم المصرف الوطني السويسري 6,7 مليار لتعزيز احتياطاته النقدية، واستمر محتفظا باحتياطات الذهب المتبقية والبالغة 1040 طنا.
الاهتمام الدولي
بين عامي 2008 و 2012 وعلى إثر الأزمة المالية العالمية وتزايُد الطلب من قِبل الأسواق الناشئة، قفز سِعر الذهب من جديد، ليُسجِّل رقما قياسيا تاريخيا، وليُذكي في الوقت ذاته تحسّر السويسريين على كميات الذهب التي قام المصرف الوطني ببيعها، الأمر الذي حدا ببعض ممثلي اليمين المحافظ، اقتناعا منهم بأن الإبريز هو أفضل ملاذ آمن لمواجهة الأزمات ولضمان الإستقلال النقدي للبلاد، بإطلاق مبادرة “إنقاذ ذهب سويسرا” في عام 2012 والدّعوة من جديد إلى تعزيز احتياطيات الذهب الوطنية.
لم تحصد المبادرة سوى القليل من الدعم في سويسرا، وقال عنها معارضوها بأنها “مقترح مُتحفي” دفعت بها لوعة الحنين إلى الماضي، وأن الذهب لم تعد له أي أهمية في السياسة النقدية للبنوك المركزية منذ زمن بعيد.
في المقابل، تحظى المبادرة باهتمام كبير في أوساط المال والأعمال في الخارج كما أن أسعار الذهب الآخذة في التناقص منذ عام 2012، قد تقفز مرّة أخرى إذا ما اضطر المصرف الوطني السويسري إلى شراء ما بين 1500 و2000 طن من التبر خلال السنوات القليلة القادمة.
يُشار إلى أن الإنتاج السنوي العالمي من المعدن الأصفر، يتراوح ما بين 2500 و3000 طن، وأن مشتريات جميع البنوك المركزية من الذهب، تقل في العادة عن 500 طن في العام الواحد.
المبادرة الخاصة بالذهب
أطلقها ثلاثة ممثلين عن حزب الشعب السويسري (يمين شعبوي)، وهم النائبان لوتسي ستام ولوكاس رايمان والنائب السابق أولريخ شلوير، وتحمل عنوان “أنقذوا ذهب سويسرا” (مبادرة الذهب)، وقد تم إيداعها لدى المستشارية الفدرالية في عام 2013.
وفقا لنصوص المبادرة، ينبغي وقف بيع احتياطيات المصرف الوطني السويسري من الذهب. وفي غضون خمس سنوات، ينبغي أن لا تقل نِسبة احتياطي المصرف الوطني من الذهب عن 20٪ من أصوله، ويتعيّن الإحتفاظ به في سويسرا بالكامل.
حاليا، يبلغ إجمالي احتياطيات البنك الوطني حوالي 500 مليار فرنك، ولكي يستطيع تلبية ما تطالب به المبادرة، ينبغي عليه الإحتفاظ بما لا يقل عن 100 مليار فرنك على شكل ذهب، وهذا معناه أن عليه، بحسب المخزون الحالي، شراء سبائك ذهب بما يعادل 65 مليار فرنك تقريبا.
تدعو الحكومة الفدرالية ومعها غالبية الأحزاب إلى رفض المبادرة، التي من شأنها أن تهدِّد استقلالية ومُرونة المصرف الوطني السويسري، إذ أن اضطراره للإحتفاظ باحتياطيات ضخمة من الذهب غير قابلة للبيع، سيقلل من حيّز تحركه ويحد من قدرته على المناورة، كما على سبيل المثال، قدرته على التصدّي للإفراط في تسعيرة الفرنك مُقابل اليورو أو الدولار.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.