مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

سنوات الغَضَب

رجل يعبر شارعا وظله يصحبه
© Keystone / Gaetan Bally

القضية الغريبة ليوسف ندا، ودور سويسرا في "الحرب على الإرهاب". إسترجاع للذكريات.

في منطقة مُرتفعة، مُنعَزِلة وهادِئة تُشرِف على بحيرة لوغانو، تقع “فيلا ندا”. المنظر الطبيعي يحبس الأنفاس. يُمكن للمرء من هنا أن يَجول بِبَصرِه من مدينة لوغانو حتى جبل ‘سان جورجيو’، بينما يقع جبل ‘سان سالفاتوري’ الشامخ في المقابل.

يدعونا يوسف ندا لدخول مكتبه، جميع الملفات حاضرة على الطاولة. لقد تصَفَحها كثيراً في الآونة الأخيرة: ملفات تحقيق، ووثائق رسمية من دول عديدة، مقالات صحفية، وسِجِّلات مصرفية. إنه يحب أن يُريها للآخرين – وهو يفعل ذلك كثيراً، فمع حلول الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر هذا العام، يود العديد من الصحفيين التحدث معه حول هذا الموضوع مرة أخرى، رغم أن ذلك بات أصعب من السابق بسبب تقدّمه في السن.

لكن ما هي علاقة رجل يبلغ التسعين من عمره اليوم بالهجوم الإرهابي الأكثر فتكاً في ​​التاريخ الحديث؟ لا شيء، كما أصبح واضحاً اليوم، وكل شيء من وجهَة نظر ذلك الوقت.

يوسف ندا في بيته الفخم ببلدة كومانو
يوسف ندا في بيته الفخم ببلدة كومانو في جيب “كامبيوني ديطاليا” (التابع لإيطاليا وسط الأراضي السويسرية) Giannis Mavris/swissinfo.ch

لم يَكد يمضي شهرٌ واحدٌ على هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، إلّا وكان القَصف على أفغانستان قد بدأ لأول مرَّة. لكن الولايات المتحدة وحلفاءَها لم يُطاردوا الإرهابيين في آسيا الوسطى فحسب، بل طاردوا مُساعديهم أيضاً في جميع أنحاء العالم. وبشكل رئيسي، تم استهداف من أِفتُرِض كوَنهم الداعمين الماليين لهم. ومن بين هؤلاء، كان يوسف ندا وبنك التقوى الذي أسَّسه وكان يديره، وأشخاص آخرين كانوا مُرتبطين بهذا البنك. أمّا التُهمة المُوَجَّهة إليهم فكانت دَعم أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة. 

في يوم 7 نوفمبر 2001، اقتَحَمت الشرطة في كانتون تيتشينو مكاتب “بنك التقوى” (أو شركة “التقوى للإدارة”، التي تحولت لاحقاً إلى منظمة “ندا للإدارة”)، كما قامت قوات الدرك الإيطالي بِمُهاجمة منزله الفاخر في جيب كامبيوني المُجاور. وفي الوقت الذي كان ندا يتجادل فيه مع المُدَّعي العام الفدرالي ورجال الشرطة الذين كانوا يفتشون منزله بِدِقة بِحضور أسرته، كان الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش يُلقي خطاباً في ولاية فرجينيا الأمريكيةرابط خارجي قال فيه “إن التقوى هو اتحادٌ لمصارف الـ ‘أوف شور‘ وشركات الإدارة المالية التي ساعَدَت القاعدة على نَقل الأموال حول العالم”.

وأشار إلى وجود “أدلة قوية وموثوقة على ذلك”.

يُراجع ندا هذه الأحداث بِمَزيجٍ من الاستياء وعدم التصديق. “كان ما حدث جنونياً تماماً”. كان الرئيس الأمريكي قد سَمّـى مصرفه للتو وأمام الكاميرا كأحد المُمولين الرئيسيين لـ بِن لادن والقاعدة. “بالنسبة لي، كان هذا الاتهام العَلَني أسوأ من أي مشاكل أخرى نشأت بعد ذلك”.

دبلوماسي الظل

هناك جانبان أساسيان من حياة يوسف ندا يلعبان دوراً مهماً هذه الحالة: الأول هو نشاطه الاقتصادي. وُلِد ندا المصري الأصل في مدينة الإسكندرية عام 1931، واستطاع تحقيق ثروة في بداية حياته من خلال إنتاج وتجارة مُنتجات الألبان في بلده. وفي وقت لاحق، استخدم هذا المال لدخول قطاع البناء، الذي حَقَّق له أرباحاً كبيرة منذ أعوام الستينيات. فَمَعَ انتهاء فترة الاستعمار، تَدَفَقَت كميات كبيرة من عائِدات النفط لِتَنمية الدول التي نالَت استقلالها حديثاً، وظَهَرت هناك حاجة ماسّة لمواد البناء. “كانوا يُلقبونني بِمَلك الأسمنت في البحر المتوسط”، كما يقول بِمَزيجٍ من الفَخْر والحنين إلى الماضي، مُشيراً إلى توزُعِ أعماله التجارية على خمسة وعشرين بلداً عندما كان في قِمّة نشاطه.

فيما بعد، دخل ندا القطاع المصرفي، وكان بنك التقوى الذي أسسه يقدم الخدمات المصرفية الإسلامية، ويتوفر على مكاتب في مدينة لوغانو، وإمارة ليختنشتاين، وجزر الباهاما، من بين أماكن أخرى. وقد تكبدت المؤسسة خسائر فادحة في أعقاب الأزمة المالية الآسيوية التي حدثت في أواخر التسعينيات.

الجانب الأساسي الثاني من حياته هو عضويته في جماعة الإخوان المسلمين المصرية؛ حيث انضَمَّ ندا منذ سن السابعة عشر إلى هذه الحركة السياسية – الدينية المُمَثلة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، والتي تُشارك في حكومات بعض البلدان، بينما تَنشط سِراً في بلدان أخرى. تَتَمَتَّع جماعة الإخوان المُسلمين بِنُفوذٍ كبير، لكنها عانت أيضاً من الكثير من القمع خلال فترة وجودها التي تقارب المائة عام. وقد خَبر ندا الشاب هذا الأمر بشكل شخصي كطالبٍ، عندما تَمَّ سَجنه بسبب عضويته في الجماعة، حيث قضى قرابة عامين في المعتقل.

بعد مرور بضعة أعوام غادَر مصر. لكنَّه ظلَّ على اتصال وثيق بالأخوان طوال حياته. “أنا فخور بانتمائي إلى الاخوان المسلمين، ولم أخف ذلك أبداً، لا حينذاك ولا اليوم”، كما يقول.

ندا محاورٌ جذّاب، مُهذَّب ومُتعاون ومُتميّز في مظهره. وليس من المُستَغرب أن تلجأ جماعة الإخوان المسلمين إليه المَرّة تلوَ الأخرى للوساطة السياسية على مرِّ السنين. وبصفته كصناعي كبير، كان ندا على اتصال بالساحة السياسية منذ وقت مُبكر؛ حيث تَعَرَّف على العديد من الشخصيات السياسية، وأعضاء الأُسر المالكة، ومسؤولين رفيعي المستوى. كما حصل خلال حياته على جنسيات عدد من الدول الإسلامية، بالإضافة إلى حصوله على الجنسية الإيطالية في وقت لاحق. وعندما كان الإخوان المسلمون يريدون إرسال رسالة إلى طرف ما، يأتي دور ندا: فهو يتحدث مع صدام حسين في العراق، ومع المتمردين في إيران، ومع أمراء الحرب في أفغانستان.

كذلك يستضيف ندا الاشخاص في منزله الفخم. ووفقاً لبعض الصُحُف، فإن فيلّا ندا تتطور لتصبح وزارة خارجية غير رسمية لجماعة الإخوان المسلمين. الشيء الأكيد هو أن ندا يستقبل العديد من الأشخاص المؤثرين في كامبيوني، معظمهم من البلدان الإسلامية، بدءاً من المغرب العربي وحتى ماليزيا. والصور الخاصة المتواجدة في منزله تؤكد الثقل الدبلوماسي لهؤلاء. وهو يكتب عن العديد من لقاءاته في سيرته الذاتية المُعتَمَدة. وكما يقول اليوم بإيجاز وهو يجلس على أريكته مع بحيرة لوغانو في الخلفية: “لقد كانت حياة حافلة بالأحداث”.

“تم تدميري مالياً”

لكن هذه الفيلّا وابتداءً من خريف عام 2001، أصبحت بمثابة سجنه، وهو وإن كان سجنا فاخرًا، لكنه لا يزال مفروضاً عليه. واعتباراً من 9 نوفمبر 2001، وبعد يومين من الغارة التي شنتها قوات الأمن على منزله وشركاته، أصبح اسم ندا مُدرَجاً على ما يسمى بقائمة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة. وبقرارٍ من مجلس الأمن الدولي ضد الأشخاص والمنظمات الذين لهم صلات بـ “أسامة بن لادن أو تنظيم القاعدة أو طالبان”، أصبح ندا خارجاً عن القانون الدولي.

قوات الدرك الإيطالي أثناء قيمها بتفتيش فيلّا يوسف ندا يوم 7 نوفمبر 2001.
قوات الدرك الإيطالي أثناء قيمها بتفتيش فيلّا يوسف ندا يوم 7 نوفمبر 2001. Keystone / Jo Locatelli

كانت جميع الدول مُلزمة بالإمتثال للعقوبات المفروضة من قبل مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، بما في ذلك سويسرارابط خارجي. وبالتالي كان يتعيّن عليها تجميد جميع الأصول المالية، وتنفيذ حَظر السفر والتنقّـل على الأشخاص المُدرجين في القائمة. وبالنظر إلى وقوع فيلّا ندا في جيب كامبيوني الإيطالي (الذي يقع وسط أراضي كانتون تيتشينو السويسري)، فقد أصبح عَملياً قَيد الإقامة الجَبرية طيلة السنوات المُوالية، على أرض تقل مساحتها عن الكيلومتر المربع الواحد.

الأسوأ من هذه كله كانت القيود المالية: “بين ليلة وأخرى لم يَعُد بإمكاني الوصول إلى أموالي”. تمت تصفية مصرفه، وفجأة لم يعد قادراً على تغطية نفقات الحياة اليومية، ولا حتى دَفع تكاليف دراسة أطفاله. إنه لا يريد استعادة هذا الوقت العصيب لعائلته، لكن استنتاجه واضح: “لقد تم تدميري مالياً”، لكن ليس أخلاقيا، كما يقول بشكل قاطع.

بعد ذلك  كله، جاءَت إدانة مصر له أشبه بالملاحظة الهامشية في هذه القصة: “لقد اتهمني حسني مبارك بتقديم مئة مليون دولار كَدَعم للمنظمات الإرهابية”، يقول ندا وهو يضحك. “هذه نكتة”! والغريب في ذلك هو أن ندا في ذلك الوقت لم يكن قادراً أصلاً على الوصول إلى حساباته. لكن هذا كله لم يؤخذ بنظر الإعتبار، وفي عام 2008، حكمت عليه محكمة عسكرية مصرية غيابياً بالسجن لمدة عشر سنوات.

بشكل رسمي، انتهت القصة في 23 سبتمبر 2009: فبعد ثمانية أعوام من الإجراءات، تم شطب اسم يوسف ندا من قائمة الأشخاص المُـشتبه بدعمهم للإرهابرابط خارجي، الموضوعة من طرف مجلس الأمن الدولي، ورُفِـعت العقوبات التي كانت مسلّـطة عليه في سويسرا. وقد جاء القرار الصادر دون عقد أي جلسة استماع وبدون أي تبرير. كما خلا من أي اعتذار أيضاً.

على الرغم من العديد من التحقيقات الاستخباراتية والقانونية التي أجريت معه على مر السنين في العديد من الدول، إلّا أنَّ أي تهمة لم تُوَجَّه إليه قَطْ بخصوص قائمة الإرهاب السوداء للأمم المتحدة. وقد شعر ندا بالرضا المتأخر في عام 2012، عندما توصلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بالإجماع إلى استنتاج مفادهرابط خارجي أن سويسرا انتهكت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان من خلال تنفيذها الصارم لقرارات الأمم المتحدة معه. وبعد قرابة عشر سنوات على أحداث 11 سبتمبر، كان إجراء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان هي القضية الوحيدة التي تم النظر والفصل فيها أمام المحكمة بالنسبة لـقضية ندا.

SWI swissinfo.ch زارت يوسف ندا في منزله في جيب كامبيوني في عام 2008:

المزيد

المزيد

يوسف ندا: “أعيش حاليا كالسجين”

تم نشر هذا المحتوى على وبعد أن اضطُـر إلى تصفية شركاته في لوغانو، يعتزم يوسف ندا، الذي يشعُـر بمرارة عميقة، التوجّـه الآن إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ. منذ أن أطلق أنشطته المالية في لوغانو في عام 1970، يُـقيم يوسف ندا في بيت فخم يُـطل على كامبيوني، الجيب الإيطالي الذي يقع داخل أراضي كانتون تيتشينو، جنوب سويسرا. من مقر…

طالع المزيديوسف ندا: “أعيش حاليا كالسجين”

تهافت وسائل الإعلام

لاقت هذه القصة صدى كبيراً في صفوف الجمهور – فالخبر كان كاسحاً: رجلٌ صناعي مصري ثري من جماعة الإخوان المسلمين، يُدير بنكاً إسلامياً في سويسرا، يؤثر على مَسار السياسة العالمية من فيلَّته المُنعَزِلة في جَيب إيطالي غامض، ويعمل سِرّاً كمُمَوِلٍ لأسامة بن لادن وعصابته من الإرهابيين. كانت وسائل الإعلام تتهافت على القصة. وكيف لا تفعل ذلك؟ فبعد كل شيء كانت التُهَم المَوَجهة إلى ندا بتمويل الإرهاب صادرة من أعلى مستويات السياسة الأمريكية. كما تّمَّ تَبَني حجة السلطات الأمريكية القائلة بِحَتمية وجود شبكة قوية من المُتعاطفين المُتنفذين مالياً وراء مهاجمي 11 سبتمبر على نطاق واسع. وبدورها أفادت وسائل الإعلام أن القاعدة وأسامة بن لادن كانوا يتوفرون على نظام مالي عالمي شديد التعقيد لتمويل أنشطتهما.

وفي هذا السياق أيضاً، جاءت رواية “مصرفيو الحرب المقدسة” (في مجلة “كاش” Cash الاسبوعية السويسرية الصادرة بتاريخ 16 نوفمبر 2001) – والذين كان يوسف ندا من ضمنهم – مُناسبة تماماً. مع ذلك، تبدو ضآلة المبلغ الذي كان مطلوباً في الواقع لتنفيذ ما قد يكون الهجوم الإرهابي الأكثر خطورة في التاريخ سخيفة تماماً اليوم. ففي عام 2004، توصل تقرير التحقيق الأمريكي حول أحداث 11 سبتمبر إلى استنتاج مفاده أن القاعدة أنفقت حوالي نصف مليون دولاررابط خارجي لتنفيذ الهجمات. وهذا المبلغ ضئيل للغاية قياساً بالآثار الناجمة عنها. 

في ظل الأجواء المُحتَدمة وتقارير الصحافة السلبية التي أعقبت الهجمات، خرج ندا إلى وسائل الإعلام وأجرى العديد من المقابلات: “أنا لم أسع أبداً إلى جَذْب انتباه وسائل الإعلام، لكني كنت مُضطراً للدفاع عن اسمي”. وهو لا يزال يشعر بالغضب إلى اليوم من بعض الصحفيين الذين أرادوا صُنع اسم لأنفسهم من خلال قضيته. أوضح مثال على ذلك يتعلَّق بوثيقة تم العثور عليها أثناء تفتيش منزله [في عام 2001]، والتي بَرَزَت في بعض وسائل الإعلام تحت الاسم الرمزي “المشروع”. وكما جاء َفي تقارير إعلامية، كان الأمر يتعلق بِخطةٍ إستراتيجية سرية لجماعة الإخوان للتَسَلُّل إلى الغرب. وبالنسبة لندا، ليس هذا مُجرد هُراء فَحَسب، بل افتراء مُتَعَمَّد أيضاً. “لقد تلقيت آلاف الرسائل في حياتي، وقد عثروا على هذه في كومة من الأوراق أثناء البَحث. فهل ينبغي أن تكون جماعة الإخوان مسؤولة عنها؟”

 أثناء حديثه، بَحَث ندا عن ترجمة الوثيقة الرَسمية الخاصة بالشرطة الفدرالية. وكما جاء فيها، فقد كُتِبَت هذه الوثيقة في عام 1982، ولم تُذَيَّل بأي توقيع، كما لم تحمل اسم المؤلف. “لكن بالطبع تم ربطها بجماعة الإخوان المسلمين. هذا ما يحدث دائماً”. وهكذا، تم اتِّباع روايات جميع الحكومات المصرية العسكرية المتعاقبة، التي تفيد بأن جماعة الإخوان – باعتبارها أكبر قوة مُعارضة – هي منظمة إرهابية. لكن لماذا تحمل هذه المسألة كل هذه الأهمية بالنسبة لـ ندا؟ في سيرته الذاتية المُعتمدة، تشغل الواقعة المُتعلقة بالوثيقة مساحة كبيرة أيضاً. وكما يوضح ندا: “لقد تكَوَّن الإنطباع بهذه الطريقة بوجود خطة رئيسية لأَسلَمة أوروبا”. وهو يلاحظ بأن بعض الصحفيين – الذين يذكرهم بالاسم – قد دفعوا بهذا الموضوع إلى الأمام بقوة. “عليكَ أن تعرف إن هذه المزاعم قد انتشرت على نطاق واسع وتم تبنيها من قبل العديد من أجهزة المخابرات في أوروبا”. 

أما الإدّعاء الآخر الأكثر خطورة، فيتعلق بِمقال كتبه مراسل في صحيفة ‘كورييري ديلا سيرا‘ Corriere Della Sera اليومية الإيطالية في تسعينيات القرن الماضي، ذكر فيه أن ندا قام بتمويل حركة حماس الفلسطينية. وبحسب ندا، كانت للصحفي وفقاً لتصريحاته الخاصة صِلات بمكتب التحقيقات الفدرالي (FBI)، وقام في إفادة أدلى بها تحت القَسَم أمام السلطات الأمريكية من تلقاء نفسه بِرَبط اسم يوسف ندا ومصرفه صراحة مع تمويل الإرهاب. من هذا كله، جاء استنتاج ندا القائل بأن استنساخ وسائل الإعلام لهذه المزاعم – التي التقطتها العديد من وسائل الإعلام الأخرى لاحقاً – أثَّر على أجهزة المخابرات الأمريكية، ليشكل فيما بعد أساساً لعلاقته المزعومة بالقاعدة. التحقق من هذا الأمر غير مُمكن. إذ لا زالت المعلومات التي استندت إليها أجهزة المخابرات الأمريكية في تقييمها سرّية حتى يومنا هذا. لكن من المفهوم أنه كانت هناك تحقيقات ضد بنك التقوى في إيطاليا في عقد التسعينيات.

وفي عام 1995، وصل تقرير تحذيري من محققي مكافحة الإرهاب الإيطاليين إلى مكتب المدعي العام الفدرالي السويسري، نقلت وسائل الإعلام بعض المقتطفات عنه في وقت لاحق. وقد وُصِف بنك التقوى في التقرير بكونه “أهم هيكل مالي للإخوان المسلمين” وما يرتبط بهم من “منظمات إسلامية مُتطرفة”. لكن لم يتم اتهام ندا قَط بتمويل الإرهاب في إيطاليا سواء قبل أو بعد 11 سبتمبر. لكنه رغم ذلك دخل لسنوات في إجراءات قانونية مع صحيفة ‘كورييري ديلا سيرا‘ التي رَفَع عليها دعوى بتهمة التشهير. وقد جاء حُكم المحكمة لصالحه في عام 2011 وحصل على تعويض مالي. 

يقول ندا إنه تعرض للهجوم بشكل متكرر في سياق حملات التشهير ضد الإخوان. ومن الواضح بالنسبة له أن “الأمر بِرُمَّته كان قراراً سياسياً لإبعادي عن الطريق وإنهاء الإخوان المسلمين”. وهو يُلَمِّح إلى مَعرفته للأشخاص الذين يقفون وراء ذلك. لكنه لا يُريد أن يتحدث عن هوية الأطراف التي لها مصلحة في هذا. 

افتراضات لا يُمكن إثباتها

من هو الصديق، ومن هو العدو؟ بعد هَجَمات 11 سبتمبر 2001، صاغ الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الشعار السياسي: “مَنْ ليس مَعَنا فهو ضِدَّنا”. وقد أجبَرَ ذلك الحكومات على اتخاذ موقف – وهو شيء لم يكن لهم أي خيار فيه في الحقيقة. وعندما بدأت عملية مطاردة الإرهابيين والمُتواطئين معهم في سياق “الحرب على الإرهاب”، وَظَّفَ الكثيرون ترسانتهم الكاملة لذلك. وعلى حد تعبيررابط خارجي مسؤول كبير سابق في وكالة المخابرات المركزية: “بعد 11 سبتمبر خُلِعَت القفازات”.

مشهد عام لجيب كامبيوني الإيطالي
جيبُ كامبيوني ديطاليا” التابع للجمهورية الإيطالية والكائن داخل أراضي كانتون تيتشينو السويسري. Keystone / Alessandro Della Bella

لكن: من أين تبدأ المطاردة؟ يُمكن الإطلاع بالفعل على ما واجَهَهُ المُحققون في سويسرا بخصوص قضية ندا من تقرير مؤقت صادر عن الشرطة الجنائية الفدرالية في يناير 2002. وكما جاء: “تجدر الإشارة صراحة هنا إلى أن العديد من النتائج تستند على افتراضات ولا يُمكن إثباتها وفقاً للوضع الحالي للتحقيق”. ثم نجد مرَّة أخرى وبشكل أكثر وضوحاً: “لم يتم العثور حتى الآن على أي مؤشرات حول تمويل الإرهاب أو دعمه”.

لكن السلطات السويسرية تَعَرَّضَت مع ذلك إلى ضُغوطٍ للتَحَرُك. وكما يقول جان بول رويلر، من المؤكد أن تصرف سويسرا إنما كان بِحُسن نيّة – وهذا لا يخص فقط هذه الحالة. ويدير رويلَّر اليوم مجموعة التحليل المُشتركة المَعنية بمُكافحة الإرهابرابط خارجي في مركز جنيف للسياسة الامنيةرابط خارجي، كما شارك آنذاك أيضاً في قضية ندا، من خلال عمله مع الشرطة الجنائية الفدرالية. وكما يوضح “كان دافِعُنا الأول بطبيعة الحال هو مساعدة الحكومة الأمريكية قدر المُستطاع”. ففي نهاية المطاف، كان يُنظر دائماً إلى السلطات الأمريكية بوصفها شريكٌ موثوقٌ به دائماً.

من منظور اليوم، من الواضح بالنسبة لـ رويلّر، أن رَدَّ فِعل الولايات المتحدة بعد الهجمات كان مُبالغاً فيه. لكنه مع ذلك لا يتقبّل فكرة عَدَم وجود أساس استخباراتي لذلك. وهو لا يريد التعليق بالتفصيل على قضية ندا. غير أنه يشير إلى أن النَهج الذي تتبعه الولايات المُتحدة وسويسرا في استخدام المعلومات الاستخباراتية يختَلِف اختلافاً كبيراً – فالنَهج المُتَّبَع في سويسرا أقل تَسْييساً، كما تُهَيمن فيها اعتبارات سيادة القانون.

من الواضح أيضًا بالنسبة لـ رويلَّر، أن الخِبرة المُتَوَفرة في مجال التَطَرُّف الأصولي في وقت حصول هجمات 11 سبتمبر كانت أقل بكثير. “كانت هناك تصورات خاطئة واضحة”. وقد كان هذا صحيحاً بشكل خاص أيضاً فيما يتعلق بالخدمات المصرفية الإسلامية التي كان ندا يُديرها: اليوم تُقَدَّم الأدوات المالية الإسلامية حتى من قِبَل المصارف الغربية، لكنها لم تكن معروفة في مطلع الألفية – حتى مِن قِبَل سلطات التحقيق – التي بدأت تشك في ندا أكثر من أي وقت مضى.

“فضيحة حقيقية”

ديك مارتي، عضو مجلس الشيوخ السويسري السابق عن كانتون تيتشينو، عَبَّرَ عن الوضع بكلمات أدق بأن قال: “كانت القصة فضيحة حقيقية”. أن ينتهي الأمر بشخصٍ ما على قائمة عقوبات الأمم المتحدة دون فَتح تحقيق قضائي، ودون أن يتم استجوابه حول الموضوع إطلاقاً، ودون معرفة الإدعاءات الدقيقة، ودون أن تُتَاح له إمكانية تقديم شكوى – “لم يكن بمقدوري تصديق ذلك في البداية”.

مارتي هو أصيل كانتون تيتشينو. وقد عَرَف عن قضية يوسف ندا من خلال أحد المعارف المُشتَرَكين بينهما. “لقد قابلته ليس كمحام، ولكن بصفتي سياسي وناشط مجال حقوق الإنسان”. وسرعان ما اتضح له أيضاً أن هذه المزاعم عارية عن الصحة. فضلاً عن ذلك، كان مارتي مُدَّعياً عاماً سابقاً في كانتون تيتشينو، بَيد أنَّ مؤسسة ندا المالية، التي كانت تعمل في ذلك الوقت من مدينة لوغانو منذ ثلاثة عقود، لم تثر انتباهه أبداً.

Dick Marty im Europarat, 2011.
ديك مارتي، العضو السويسري السابق في الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا في صورة التقطت له داخل قاعة الاجتماعات الكبرى في “قصر أوروبا” بمدينة ستراسبورغ الفرنسية يوم 14 أبريل 2011. Keystone / Martin Ruetschi

كان مارتي هو من أقنعَ ندا بتقديم شكوى ضد الإجراءات التي فتحها مكتب المدعي العام الفدرالي ضده. “لقد رفض ندا القيام بذلك في البداية. كان يرى أنه ليس في موقف يَسمح له باتخاذ إجراء ضد سويسرا، التي شَعَر أنها الدولة المُضيفة له”. لكن مارتي أقنعه بذلك: “لقد كانت هذه الشكوى في غاية الأهمية لدولتنا الدستورية”، كما يقول.

رغم العديد من الشكوك القانونية، أنصَفَت المحكمة الجنائية الفدرالية ندا، واضطر مكتب المدعي العام الفدرالي إلى إغلاق القضية المفتوحة ضده في عام 2005. واستغرق الأمر أربع سنوات أخرى قبل أن يُزال اسمه من القائمة السوداء للإرهاب للأمم المتحدة. [وهو ما حصل في يوم 23 سبتمبر 2009، عندما جاء في بلاغ صادر عن مجلس الأمن نُـشر في ذلك التاريخ، أنه “سُـحب (اسم يوسف ندا) من القسم C لأفراد القاعدة”. وتبعا لذلك، رُفِـعت العقوبات التي كانت مسلّـطة عليه في سويسرا، مثلما صرّح بذلك متحدِّث باسم كتابة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية – التحرير].

أما قضيته امام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ [التي كسب فيها دعوى قضائية ضد سويسرا في عام 2012 – التحرير]، فقد استندت مرة أخرى على اقتراح من مارتي. لكن المشكلة الرئيسية لقرارات الأمم المتحدة كانت واضحة هنا أيضاً: فهذه القوانين إجبارية، ويجب على الدول تطبيقها حتى لو انتهكت قوانينها الخاصة.

بالنسبة لـ مارتي، كان قيام منظمة مثل الأمم المتحدة يُفتَرض التزامها بقيم الديمقراطية وسيادة القانون في جميع أنحاء العالم بإجراء كهذا أمرًا مُخزيا. لكنه في غضون ذلك اعتاد على هذه الظروف – بسبب اطلاعه من جهات أخرى أيضاً على أحداث مشكوك فيها للغاية في ما عُرف بـ “الحرب على الإرهاب”، من خلال عضويته في المجموعة البرلمانية لمجلس أوروبا من 1998 إلى 2011. وقد أثار مارتي من خلال تقاريره عن معسكرات الاعتقال السرية لوكالة المخابرات المركزية وعمليات نقل السجناء في أوروبا، ضجة كبيرة في المجلس منذ عام 2006 – ووضع موضوع القوائم السوداء للأمم المتحدة سيئة السمعة أمام أنظار وسائل الإعلام. “وقد جرت هذه الفعاليات بشكل مُوازٍ مع قصة يوسف ندا”.

لا يزال بالإمكان سماع نَبرة الغضب الذي شعر به مارتي حينذاك في صوته إلى اليوم. كما لا تَسَلم سويسرا من انتقاده الشديد: “لم يكن لدى أي سلطة الشجاعة لعصيان أوامر الأمريكيين. كما قامت الولايات المتحدة بالتلاعب بالسلطات السويسرية عَمداً”. ويمكن الاستدلال بالوثائق التي بثَّها التلفزيون العمومي السويسري بهذا الصدد. وكان المُدعي الفدرالي العام قد كتب إلى واشنطن بعد التحقيقات الأولية أنه “يشعر بخيبة أمل” من المعلومات المُقَدَّمة، وقال إنها “سطحية” و”غير صالحة للإستخدام”.

تجدون هنا برنامج “Rundschau” الذي يقدمه التلفزيون السويسري العمومي الناطق بالألمانية SRF، والذي قام بالإقتباس من خطاب مكتب المدعي العام الفدرالي (باللغة الألمانية، ابتداء من الدقيقة 30):

محتويات خارجية

في السياق نفسه، يشير مارتي إلى أمرٍ مُهمّ آخر: لقد شُطِبَ اسم ندا أيضاً من قوائم الإرهاب الأمريكية: “هذه إشارة واضحة. فطالما وُجِدَ هناك أدنى شك ضدك، فسوف يبقى اسمك مُدرجا على هذه القائمة”.

في أعقاب ذلك، حقَّقَت سويسرا على الأقل بعض التغييرات على عقوبات الأمم المتحدة بشأن حَجز الأموال وتقييد السفر: على سبيل المثال، تم تَضمين حُكم المَشقة لكي يتمكن المُتضررون من سَحب الأموال لتغطية نفقات مَعيشتهم. بالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء آلية لِشَطب الأسماء من قوائم الجزاءات. وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة لتمكين الأشخاص المَدرجة أسماؤهم في القائمة من التحقق من حالتهم، وهو ما لم يكن مُخَطَّطاً له في البداية. وكان الإنجاز الأهم الذي شاركت فيه سويسرا مع دول أخرى هو إنشاء وظيفة أمين مظالم مُستقل. ورغم عدم تأثير هذه الوظيفة كثيراً، إلّا أنَّها تبقى حداً تصحيحياً أدنى للجنة العقوبات التي تتخذ القرارات ذات الصلة. مع ذلك، فإن هذا ليس كافياً بالنسبة لـ مارتي، فبرأيه “كان بإمكان سويسرا أن تفعل أكثر من ذلك بكثير”.

عند سؤاله عمّا إذا كان قد تم تدبير مؤامرة ضد ندا كما يشير هو، لم يرغب مارتي بالخوض في ذلك. لكنه يعتقد أيضاً أن القصة لم تَنتَه بعد.

على الأقل كنت قادراً على فَرض نفسي ضد القوة العالمية

يوسف ندا

ماذا تبقى؟

على أي حال، لم تؤدِّ قوائم الأمم المُتحدة إلى أي إجراءات في سويسرا. وبناء على طلب من swissinfo.ch، كتبت أمانة الدولة للشؤون الاقتصادية: “حتى الآن، تأثر أقل من عشرة أشخاص ومنظمات من سويسرا بالعقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي على القاعدة وطالبان. ولم يَخضَع جميع هؤلاء الأشخاص والمنظمات لإجراءات العقاب منذ سنوات عديدة، بسبب حَذفهم من قائمة العقوبات مثلاً”. ولم تُقَدِّم الإدارة أي تفاصيل أخرى، كأن يكون بخصوص الأصول المُجمّدة مثلاً.

لكن قصّة قوائم الأمم المتحدة للإرهاب لم تَنتَه حتى بعد مرور عشرين عاماً على أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فما زالت وظيفة أمين المظالم السالفة الذكر التي تعمل على مُراقبتها قائمة. ويشغل السويسري دانييل كيبفر فاسياتي هذا المنصب منذ عام 2018 وحتى نهاية هذا العام فقط. وقد قَدَّم القاضي الجنائي الفدرالي السابق استقالتهرابط خارجي التي لم تخل من انتقادات واضحة. فقد انتقد على سبيل المثال عدم الاستقلالية المؤسسية لمنصبه وانعدام الحماية التعاقدية لأمين المظالم. كما أشار إلى الافتقار لعناصر أساسية؛ بدءاً من الوضع الدبلوماسي – الذي لا يُمكن بدونه تحقيق الكثير في هذا المستوى من السياسة العالمية – إلى التأمين الصحي.

وكما وَرَدَ في مقالرابط خارجي نُشِر في ‘مجلة فورين بوليسي’ (Foreign Policy) الشهيرة، فإن هذا الوَضع ليس من قبيل الصدفة: فَبِحَسب تقرير طويل تحدَّث فيه أسلاف كيبفر فاسياتي بهذا الخصوص أيضاً، بات واضحاً أن هذه المعوقات إنما هي مُتَعَمَّدة. فطالما لم تُقَرِّر الدول الأعضاء في مجلس الأمن خِلاف ذلك، فَلَنْ يكون لأمين المظالم سوى تأثير مَحدود فقط. وحتى الوقت الراهن، لا يُوجد هناك أي تغيير في الأفق؛ إذ يبدو أن أداة قوائم الإرهاب، التي تم إنشاؤها عملياً بدون آلية رقابة قانونية، لا تزال أداة شائعة في “الحرب على الإرهاب”.

أما ندا، فالتزامه مُستمر باخوانه. وخلال حوارنا معه، كان يتلقى مكالمات هاتفية من وسائل إعلام عربية، ويُدافع عن قضية الاخوان المسلمين في سجون مصر، ويُشارك في النقاش العام. إلى جانب ذلك، يود المواطن المصري الأصل أن يستمتع بشيخوخته في كامبيوني، فهو لم يَعُد يحمل أي ضغائن. وكما يقول: “على الأقل كنت قادراً على فَرض نفسي ضد القوة العالمية”.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية