تطورات متسارعة تضع تركيا من جديد أمام المأزق
شكّل إعلان التحالف الدولي ضد الإرهاب، المتمثل بتنظيمي "الدولة الإسلامية" (داعش سابقا) وجبهة النصرة، إحراجا كبيرا لأنقرة. فوثيقة التحالف التي أعلنها مؤتمر جدة في 11 سبتمبر 2014، لم توقِّع عليها تركيا، رغم مشاركة وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلو في الإجتماع.
وفي واقع الأمر، يختصر هذا الموقف مُجمل السياسة، بل السلوكيات التركية في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا تُجاه التطورات التي تسارعت وتيرتها في أعقاب الإعلان عن تشكيل “التحالف”.
أسباب عدم الإنضمام
لم توقِّع تركيا وثيقة التحالف لأكثر من سبب:
1- لقد فوجئت تركيا بتشكيل التحالف، وهو ما جعلها تتردد في المشاركة فيه. إذ لم تكن تتوقع تشكيل تحالف يضُم قوى متهمة بمعظمها، إن لم تكن كلها تدعم تنظيم داعش وجبهة النصرة بشكل أو بآخر. فكيف لهذه القوى اليوم أن تشكل مثل هذا التحالف وتضرب تنظيمات يُزعم أنها كانت تستخدمها في أكثر من اتجاه؟
2- لم تكن أهداف التحالف واضحة بما فيه الكفاية. إذ أنه أعلن أن ضرباته لداعش، ستقتصر على الضربات الجوية وستمتد لسنوات، وهو ما تعارضه تركيا ولا ترى فيه جدوى لتحقيق نتائج جدية ضد “الدولة الإسلامية”، بل دعت لتكون هناك قوات برية تحسم الصراع على الأرض، وهو ما لم تتوافق عليه حتى الآن قوات التحالف.
3- لقد انعقدت السياسة الخارجية التركيةرابط خارجي على العداء للنظام السوري والسعي لإسقاطه منذ بداية الأزمة في سوريا في منتصف مارس 2011. لذلك حال إعلان التحالف الدولي أن هدفه هو داعش، وليس النظام في سوريا، دون مشاركة تركيا في التحالف الدولي.
4- لقد أظهرت المعارك التي سبقت تشكيل التحالف، دورا بارزا لمقاتلي حزب العمال الكردستاني رابط خارجي في الدفاع عن المناطق الكردية في شمال العراقرابط خارجي، إلى جانب قوات البشمركة التابعة لإقليم كردستان العراق. وهذا يعني ضمنا أن قوات التحالف ستحارب جنبا إلى جنب مع قوات حزب العمّال الكردستاني، الأمر الذي ترفضه تركيا خصوصا وأنها لا زالت تعتبره منظمة إرهابية.
5- في ظل التوتر في العلاقة بين تركيا من جهة وبين السعودية ومصر ودول خليجية أخرى، فضلا عن العراق من جهة أخرى، من غير الممكن أن يرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغانرابط خارجي نفسه في نفس الخندق مع هؤلاء الذين لا يتوقف عن توجيه النقد الدائم لهم، وآخرها هجومه الشديد على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من على منبر الأمم المتحدة.
6- لكن بيت القصيد في رفض المشاركة في التحالف من جانب تركيا، هو أنها تُعتبر – حسب بعض الأطراف الإقليمية والدولية – من الدول الأكثر دعما لتنظيم داعش، تدريبا وتسليحا وتسهيلا لمرور المقاتلين. ويبدو أن كلام نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدنرابط خارجي عن “دعم تركيا للإرهاب” والذي أثار غضب أنقرة واضطر على إثرها بايدن للإعتذار، لم يكن سوى خلاصة لواقع قائم منذ فترة. وهنا لم يتهم بادين تركيا فقط، بل أضاف إليها المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة. وبالتالي، فإن تركيا بعدما فقدت الكثير من قدرتها على التأثير في المنطقة بسبب الفشل في إسقاط بشار الأسد وإطاحة الجيش بالإخوان المسلمين في مصر، لم يعد لها من أدوات للتأثير في الأحداث، سوى “الإعتماد على التنظيمات المتشددة”، حسب بعض التقييمات. وبالتالي، فمن غير الممكن لها أن تُساهم في محاربة وإضعاف وتدمير تنظيم يرى البعض أنه أصبح “أداتها شبه الوحيدة” الآن لممارسة التأثير والنفوذ ولعب دور ما في المنطقة.
مضى التحالف الدولي من دون تركيا، لكن محاولات واشنطن لجعل أنقرة تنخرط فيه، لم تتوقف، إذ أن لتركيا الحدود الوحيدة مع الأراضي التي تسيطر عليها “داعش”، كما أنها عضو في الحلف الأطلسي إضافة إلى أنها بلد سُنّي كبير. والإدارة الأمريكية لا ترى نجاحا لها أن لا تنخرط تركيا، العضو معها في الأطلسي، ولا دولة سُنية كبيرة في تحالف أرادت له واشنطن أن يكون “سُنيا”، مثلما جاء على لسان رئيسها باراك أوباما،.
أهداف وأوراق المساومة التركية
تُـدرك أنقرة بأنها لا تستطيع الصمود في المشاركة في التحالف حتى النهاية، من دون أثمان باهظة تدفعها. لذا، حاولت أن تُمسك بالعصا من وسطها وتسعى لأن تحقق بعض الأهداف من طريق طرح أفكار تعود عليها بالفائدة، مقابل المشاركة بالتحالف.
1- إن عُقدة العقد لتركيا، ولاسيما رئيسها رجب طيب أردوغان ورئيس حكومتها أحمد داود أوغلو، هو الفشل في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. لذلك، فإنها مستعدة للمقايضة وللمساومة على أي شيء إذا كانت تستطيع الوصول إلى هدف إسقاط الأسد. لذا، لم يكن مستغربا أن يطرح داود أوغلو مسألة المقايضة بأن تشارك تركيا في قوات التحالف الدولي على أن يكون هدفه إسقاط النظام في سوريا، بل إن تركيا كانت مستعدة، وِفقا لما قاله داود أوغلو لقناة سي ان ان الأمريكية، للمشاركة بقوات برية من أجل ذلك.
2- وثاني عُقد إدارة حزب العدالة والتنميةرابط خارجي، هي ما تعتقده تهديدا كرديا على حدودها الجنوبية في سوريا وإقامة أكراد سوريا حُكما ذاتيا في مناطق عفرين، غربا، وكوباني (عين العرب) وسطا، والجزيرة شرقا. ولقد أكدت تركيا ضمنا أنها اشترطت على أكراد سوريا التخلي عن الحُكم الذاتي للمساعدة في إنقاذ بلدة كوباني من هجوم “داعش”. وقد رفض الأكراد بلسان صالح مسلم، رئيس الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريارابط خارجي هذه الشروط.
3- لقد سعت تركيا منذ بدء الأزمة في سوريا إلى إقامة منطقة عازلة على الحدود مع سوريا وبعُمق 30 كيلومترا تقريبا داخل الأراضي السورية. أولا، من أجل استيعاب اللاجئين السوريين في تركيا والموجات الجديدة للهجرة. وثانيا، وهو الأهم، إقامة منطقة عازلة وفوقها منطقة حظر جوي، بما يفيد منع الطيران السوري من التحليق وبالتالي، استهدافه مسلّحي المعارضة السورية من كل الإتجاهات. وترى تركيا أن مثل هذه المنطقة ستكون الخطوة الأولى الأساسية لكسر قدرات الجيش السوري النظامي، تمهيدا لإسقاط النظام.
أدوات التأثير التركية
بعد تشكل التحالف الدولي والضغوط الغربية على تركيا، رأت أنقرة أن الفرصة قد تكون متاحة لابتِزاز التحالف، ولاسيما الولايات المتحدة، من أجل تحقيق بعض الأهداف، ولاسيما إقامة منطقة عازلة ومحاربة الأكراد والنظام السوري.
والخطوة الأولى لذلك، كانت الطلب من البرلمان الموافقة على مذكِّرة الحكومة السماح باستخدام قوات تركية في عمليات عسكرية خارج البلاد وعلى تمركُـز قوات أجنبية على الأراضي التركية. وهذه رسالة أولى “نفسية” إلى الأصدقاء قبل الأعداء.
أما الرسالة الثانية، فهي إرسال تعزيزات عسكرية على الحدود مع سوريا، وحتى إلى المناطق الكردية في جنوب شرق البلاد. أما الرسالة الثالثة والأقوى، فهي مُضي تركيا في تسهيل إسقاط مدينة عين العرب (كوباني) بيد داعش، من خلال منع وصول أي إمدادات من أكراد الداخل التركي إلى أكراد كوباني، الواقعة مباشرة على الحدود التركية، ومن خلال إقامة جدار من الدبّابات مقابل كوباني في استعراض للقوة.
وإذا كانت “داعش” تحقق لتركيا الآن هدف معاقبة الأكراد بسبب الحكم الذاتي، فإن محاصرة أي “كيانية” كردية على المدى المنظور على الأقل، قد لا تستطيع “داعش” منعه، خصوصا إذا تعرضت لهجمات التحالف ولم تعد موجودة. من هنا، إن الضمانة الوحيدة والأخيرة لتركيا، هي أن تقوم بنفسها في ما لم تنجح القيام به حتى الآن منذ بدء الأزمة في سوريا، وهو التدخل العسكري المباشر وإقامة منطقة عازلة على امتداد الحدود، ولو بمفردها.
مأزق حقيقي
تقع التطورات الجارية الحالية وسط هذه التقاطعات، فيما يسعى كل طرف إلى شد الحبل في اتجاهه. لكن على ما يبدو، فإن تركيا تجد نفسها أمام مأزق حقيقي.
الأول، أن المنطقة العازلة فِكرة غير قابلة للتحقق في ظل معارضة روسيا وإيران وسوريا والأكراد، وفي ظل عدم حماسة الغرب، كما السعودية ومصر لها.
والمأزق الثاني، أن التطورات الميدانية في مدينة كوباني والموقف التركي السّلبي من دعم الأكراد هناك، قد وجّه ضربة مُوجِعة جدا لعملية المفاوضات بين أنقرة وزعيم حزب العمّال الكردستاني عبدالله أوجالان، وأعاد من جديد التوتر إلى المناطق الكردية التي شهدت اضطرابات غير مسبوقة منذ عشرين عاما، أسفرت حتى الآن عن سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى. وقد أعلن جميل بايق، القيادي البارز في حزب العمّال من جبال قنديل، أن الحزب قد “أعاد إلى الداخل التركي مُقاتليه الذين كان قد سحبهم في وقت سابق من تركيا”. وفي ظل معارضة تركيا لحُكم ذاتي خارج حدودها لأكراد سوريا، فكيف يمكن لها أن تقبل بحكم ذاتي لأكرادها في الداخل، وهو المطلب الأساسي لهم؟
لقد أسقطت مذكرة الحكومة للتدخل الخارجي النظرية القائلة بأن قوة تركيا تكمُن في “قوتها الناعمة” وباتت القوة الخشنة، أي القوة العسكرية، وسيلة تركيا لممارسة التأثير. إضافة إلى ذلك، وجّهت التطورات ضربة كبيرة لإمكانية الوصول إلى حل قريب للمشكلة الكردية في تركيا، وهو ما يفتح الباب أمام تصاعد النزعة القومية التركية لدى أردوغان والأتراك عموما والكردية لدى الأكراد، وتعبيراتها العنيفة، خصوصا عشية انتخابات نيابية من المقرر أن تجري في منتصف عام 2015.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.