قصّة بقاء وتضامن: داخل أعنف زلزال في المغرب منذ قرن
تعرّض المغرب يوم 8 سبتمبر الماضي لواحد من أسوأ الزلازل التي عرفها على الإطلاق. أدّى ذلك إلى تدمير قرى بأكملها، ومقتل أكثر من 3000 شخص. تحدّثت سويس إنفو مع أربعة أشخاص على صلة بالمغرب حول معايشتهم للزلزال، ومساعدتهم على الأرض، وجمعهم التبرّعات للضحايا من سويسرا.
بقي منزل تيريز سارّة ديلاناي، السويسرية المقيمة في المغرب، سالمًا إثر زلزال سبتمبر، لكنها بدأت تلاحظ في الأسابيع الأخيرة ظهور تشقّقات في جدرانه. يقع المنزل الذي تستغلّه السيدة السويسرية كبيت ضيافة، أو رياض مثل ما يعرف في المغرب، وسط مدينة مرّاكش على بعد دقائق من المدينة العتيقة.
في الشارع الضيّق، يُحدث مرور السيارات اهتزازات في نوافذ المنزل أو الفوانيس المعلّقة. ولأن الهزّات الارتدادية الصغيرة قد تواصلت بعد الزلزال المدمّر، فقد انتابت ديلاناي حالة من القلق. “هل هذا الاهتزاز نتيجة مرور سيارة أو حدوث هزّة ارتدادية؟”
كانت الساعات المتقدّمة من ليل الجمعة 8 سبتمبر تؤذن بأنّ يومًا عاديًّا آخر يتهيّأ للقدوم. لكنّ الأرض جنوب غربي مرّاكش كان لها قول آخر. تستذكر تيريز سارة ديلاناي كيف عاشت اللحظات الأولى لما سيُعرف لاحقا بأنه الزلزال الأكبر منذ حوالي القرن في المغرب: “كنت بصدد الاستعداد للنوم عندما شعرت باهتزاز، وسمعت صوتا عاليا جدا.. كان صوتا يمكنني وصفه الآن بأنه يشبه صوت طائرة تقترب من غرفتي، ولكنه آت من الأرض وليس من السماء. شعرت بالمنزل يهتز، كما لو أنه ينفصل عن الأرض مثل ما نقتلع نبتة ما من جذورها.”
أدّى الزلزال، الذي بلغت قوته 6.8 درجة على مقياس ريختر، إلى مقتل أكثر من 3000 شخص، وإصابة حوالي 2500 آخرين بجروح خطيرة.
ولدت ديلاناي في جزر الأنتيل، وتعود أصولها إلى غوادلوب. انتقلت في سنّ الحادية عشر مع عائلتها إلى سويسرا أين عاشت 50 عاما. عملت في البداية كمصّممة ديكور داخلي قبل أن تحصل على تدريب في مجال التعليم. وفي عام 2018، قرّرت الانتفاع بالتقاعد المبكّر، والانتقال للعيش في المغرب، البلد الذي عرفته وأحبّته في بدايات الألفية الثالثة.
في غرفة نومها، كانت تشعر باهتزاز البيت كلّه. وتساءلت عمّا ستجده في الجانب الآخر إن هي خرجت في تلك اللحظة. “انتظرت قليلاً قبل أن أجرأ على الخروج وتفقد ما إذا كانت السلالم ما تزال موجودة لأتمكّن من مغادرة البيت. وجدت أن جميع الجيران قاموا بالشيء نفسه بشكل غريزي… وهكذا، تجمّعنا كلنا في ساحة مفتوحة قبالة مدرسة غير بعيد عن الشارع الذي أسكنه”. قضت السيدة السويسرية تلك الليلة في الخارج، هي وجيرانها، والكثير من سكّان المنطقة، لا يجرؤ أحدهم على العودة إلى بيته خوفا من حدوث هزة أخرى. ولحسن حظّهم، كان الطقس ما يزال دافئا في ذلك الوقت.
لم يكن هذا الزلزال المميت الأول في تاريخ المغرب. ففي عام 1960، أودى زلزال أغادير، الذي بلغت قوته 5.8 درجات، بحياة أكثر من 12 ألف شخص. وقبل ذلك بنحو 4 قرون، ضرب زلزال مدينة فاس وُصف بأنه “من أسوأ الكوارث الطبيعية في تاريخ المغرب”.هذه المرّة، شهدت جبال الأطلس الكبير، بالقرب من مركز الزلزال،الضرر الأكبر، حيث دُمّرت قرًى مثل تافغاغت بالكامل تقريبًا. وسجّلت مراكش عددًا أقلّ من الضحايا، رغم الضرر الكبير الذي لحق بالمدينة العتيقة هناك.
مع حلول صباح اليوم الموالي، عادت ديلاناي إلى بيتها لتفقّده والاتصال بنزلائه الذين كانوا يزورون منطقة أخرى في المغرب. وطلبت منهم البقاء حيث هم، وألاّ يخاطروا بالعودة إلى مرّاكش حيث ماتزال إمكانية حدوث رجات ارتدادية قائمة.
مساعدات من سويسرا
بعد ساعات من اهتزاز الأرض فعلاً في المغرب، ستميد الأرض مجازًا تحت أقدام خديجة ديسول في لوزان السويسرية. ففي تمام الساعة السادسة صباحا، تلقّت السيدة المغربية التي تعيش في سويسرا مكالمة هاتفية من عائلتها تعلمها بخبر الزلزال. كانت تارودانت، مسقط رأسها، من بين المناطق المنكوبة. ولدت ديسول في المغرب وعاشت فيها حتى سن الشباب قبل أن تنتقل إلى سويسرا حيث أعادت بناء حياتها في قطاع الضيافة، ثم كمساعدة في الرعاية المنزلية. هي الآن تربّي طفلها الوحيد البالغ من العمر 18 عاما، بعد وفاة زوجها منذ عدّة سنوات متأثّرا بمرض السرطان.
فكّرت مباشرة في والدتها المقعدة على كرسي متحرك ومنزل عائلتها. وفي غضون يومين، كانت قد وصلت إلى تارودانت.
تقع مدينة تارودانت في إقليم يحمل الاسم نفسه، بجهة سوس ماس المغربية. وتتوسّط المدينة سلسلتي جبال الأطلس الكبير والصغير، ممّا يجعلها قبلة لمحبّي الرحلات الجبلية. تقول ديسول لـسويس إنفو (SWI swissinfo.ch) وهي تستذكر رحلتها: “ركبت سيارة الأجرة لساعتين من مطار أغادير إلى تارودانت لمدة ساعتين. كانت رحلة مليئة بالتوتّر والخوف ممّا سأجده”.
وجدت خديجة ديسول أفراد عائلتها المقرّبة أحياء يرزقون، لكنّهم يبيتون وسط خيمة يتشاركونها مع عشرات الأشخاص الآخرين. ومع ذلك، فقد كانت العائلة قد فقدت عددًا من أصهارها. وعمّق الزلزال الفقرَ السائد في المنطقة.
لأيّام، ظّلت السيدة المغربية تساعد في إعداد وجبات الطعام للأشخاص المتضرّرين في قريتها، وترافق المصابين منهم إلى الطبيب، أو تعتني بأطفالهم. لكنّ برودة الطقس في المنطقة الجبلية والعيش في الخيام، جعلاها تمرض مثلما هو حال الكثيرين هناك.
جلبت خديجة معها لأطفال المنطقة بعضا من الحلوى والألعاب وثياب النوم الدافئة. وتصف الوضع قائلة: “كان الأطفال مصابين بالصدمة النفسية”. لكنّ أحدهم جعل قلبها يهتزّ أكثر من غيره. حيث فقد الطفل الذي لا يتجاوز سنّ السادسة كلّ عائلته في الزلزال. كان لذلك عظيم الأثر في قلب السيدة المغربية، حيث تؤكّد أنّ “أكثر ما تعلّمته أنه لا شيء يدوم غير وجه الله… قد تكون على قيد الحياة الآن ثمّ تموت خلال ثوان ببساطة.”
وعلى الرغم من حزنها العميق، ووسط الدّمار الذي حلّ بقريتها وبلدها، كانت خديجة تشعر بالامتنان للتضامن الشعبي الكبير الذي شهدته هناك. فقد كانت الطريق التي قطعتها للوصول إلى تارودنت مزدحمة بالشاحنات والسيارات التي هبّ أصحابها وصاحباتها لإغاثة ومساعدة المنكوبين والمنكوبات. حمل الجميع معدّات إغاثة أولية، وأطعمة، وثيابا دافئة، وحفاظات للأطفال، وخيمًا، وبطانيات وغيرها… “لقد ساعد عامّة الشعب الضحايا بشكل كبير جدّا”، تقول خديجة بلكنة مغربية خالصة مشوبة بالفخر.
لم تكن الهبّة التضامنية مع ضحايا الزلزال في المغرب وحده، ففي سويسرا أيضا تحرّك الناس فرادى وجماعات للمساعدة. من زوريخ، أطلقت نجاة قشول، المُعالجة بزهرة باخ، حملة تبرّعات عبر منصّة غو فاند مي (GoFundMe) بغية تحويلها إلى سكّان تشكجي، وهو دوّار يقع في بلدية تيكوكة من إقليم تارودانت، وكان أحد المناطق المتضرّرة.
جمع التبرّعات
لدى نجاة قشول تعلّق خاصّ بالمنطقة “لأنني أنتمي إليها. وعندما أشاهد صورها، يمكنني معرفة أين يقع كلّ شبر منها…” لا ريب إذن أن يكون مسقط رأسها المكانَ الذي قرّرت نجاة إقامة حفل زواجها فيه عام 2012. جاء أصدقاؤها وصديقاتها حينذاك إلى تارودانت من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى للاحتفال معها.
عندما بلغها خبر الزلزال صبيحة السبت 9 سبتمبر، كانت قشول تدرك أن ظروفها تحول دون إسراعها بالسفر إلى هناك. لكنها أدركت مباشرة أنه بإمكانها المساعدة. تشرح لسويس إنفو: “كنت أعي أنه سيكون هناك ما يكفي من الغذاء والمستلزمات الأولية. ولذلك فكّرت أن أساهم بجمع تبرّعات مالية…” وهكذا، أطلقت حملةً بهدف جمع 5000 فرنك سويسري، لكنّ التبرّعات سرعان ما فاقت ذلك بكثير لتبلغ قرابة 8000 فرنك. كان لتبرع ابن قشول البالغ من العمر 7 سنوات بمبلغ 13 فرنكاً سويسرياً، أي ما يعادل 130 درهماً مغربياً، أثراً عميقاً في قلبها. وقد أوضحت له حينها أنّ “هذا (المبلغ) يكفي لاحتياجات أسرة مغربية”.
وفي لوزان، لم تكن فاطمة شبلي بحاجة لدماء مغربية في عروقها حتّى تهبّ هي الأخرى لمساعدة المناطق المنكوبة. ترأس شبلي جمعية نساء مسلمات في لوزان التي تهدف إلى مزيد إدماج النساء المسلمات في المجتمع السويسري. وتحمل عضوات الجمعية جنسيات مغاربية وعربية وأجنبية مختلفة. وقد سبق للجمعية أن نظمت حملة تبرعات لضحايا زلزال تركيا الذي أودى بحياة ما يقرب من 60 ألف شخص في فبراير الماضي. وقد مكّنت هذه التجربة العضوات من تعبئة التبرّعات بسرعة في أعقاب الزلزال الذي ضرب المغرب.
بدأت حملة الدعم بدعوة للتبرعات عبر منصة إنستغرام، والتي سرعان ما حققت هدفها. الأمر الذي دفع فاطمة وزميلاتها إلى تنظيم أنشطة أخرى، منها خيم لبيع منتجات غذائية وحلويات من إعداد عضوات الجمعية أنفسهنّ ذهب ريعها إلى ضحايا الزلزال. نجح النشاط في جمع 1000 فرنك سويسري في اليوم الأول، وخلال ساعات محدودة. “تفاجأنا بذلك، ولكن سعدنا لوجود اللحمة الكبيرة بين الجاليات”، تقول فاطمة، “هناك الكثير أيضا من السويسريين والسويسريات من غير الديانة الإسلامية اقتنوا منّا البضائع المعروضة، وفي أحيان عدّة دفعوا دون أخذ البضاعة نفسها.”
بعد أيام قليلة من زلزال مراكش، ضربت الفيضانات درنة، ليبيا. وسرعان ما نظّمت رئيسة الجمعية وفريقها حملة أخرى لمساعدة الضحايا المغاربة والليبيين. تقول شبلي لـسويس إنفو معربةً عن رضاها بنجاح الحملة: “لقد تعاونت مدينة لوزان بشكل كامل، حيث منحتنا تصريحًا لإقامة الخيمة بشكل سريع”.
في أعقاب الزلزال، قامت السفارة المغربية في سويسرا بتسهيل التبرّعات عبر فتح حساب بنكي مخصّص لذلك لدى البنك المركزي المغربي. كما شاركت المهتمّين والمهتمّات موارد حول كيفية تقديم المساعدات العينية. وقال السفير لحسن أزولاي لـسويس إنفو إن السفارة تظل مفتوحة أمام المساعدات المستقبلية.
وقد تعهدت الحكومة المغربية بإنفاق ما يقرب من 11.6 مليار فرنك سويسري لإعادة بناء المناطق المتضررة في السنوات الخمس المقبلة، بعد تضرّر ما يقرب من 4.2 مليون مغربي من الزلزال. ومن المتوقع أن تستمرّ عملية إعادة بناء القرى والبلدات التي كانت ذات يوم ذات مناظر خلاّبة لسنوات عديدة.
في منتصف شهر أكتوبر، عادت خديجة ديسول إلى قريتها في تارودانت. وجدت أن السكان مازالوا يقطنون الخيم، فيما برد الشتاء في جبال الأطلس يتسلّل إلى أجساد الأطفال عبر فتحاتها.
وفي بيت ضيافتها بمرّاكش، لا تزال تيريز سارة ديلاناي متيقّظة لأي ذبذبة أو اهتزاز من حولها. وبينما كانت تتحدث عبر الهاتف إلى سويس إنفو، لاحظت اهتزاز مصباح معلّق في السقف. فتساءلت حائرة: ” هل ينبئ ذلك بهزّة جديدة؟ لا أعلم حقا كم يلزمني من الوقت حتى أستطيع تجاوز ما حدث.”
تحرير: فرجيني مانجين
ترجمة: أمل المكّي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.