لماذا تمخضت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فولدت فأرا!
لم تُدِن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان سوى متهماً واحداً في قضية اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري. حوار مع روبير روت، القاضي السويسري في المحكمة الخاصة بلبنان بين عامي 2011 و2013، لفك لغز مجرى المحاكمة، التي استمرت سنوات وكلفت ما يقارب المليار دولار.
تم نشر هذا المحتوى على
13دقائق
حيث تستهويني المجتمعات البشرية وفن إعداد التقارير حولها – وهو فضول يغذيه السفر والالتقاء بالاشخاص والقراءة – أقوم بشكل رئيسي بتغطية الموضوعات الرئيسية التي تتناولها المنظمات الدولية التي تقع مقارها في جنيف. الاسم المختصر fb
بلغت تكاليف المحكمة الخاصة بلبنان (TSL) ـ التي تمَّ تشكيلها بعد التفجير الذي هزَّ قلب بيروت في 14 فبراير 2005 وأسفر عن مقتل رئيس الوزراء آنذاك رفيق الحريري و21 شخصاً آخر ـحتى الآن، بين التحقيقات الأولية والمحاكمات، ما يقارب المليار دولار. وهذا المبلغ كبير جداً بالنسبة لمحاكمة استمرت 6 سنوات وأدانت شخصاً واحداً هو سليم عياش، العضو في حزب الله.
ولفهم هذا الخلل الواضح وما يفشي به عن نظام العدالة الدولية، المدعومة رابط خارجيبشكل كبير من قبل وزارة الخارجية السويسرية، التقت swissinfo.ch بالخبير البارز في القانون الجنائي والعدالة الدولية السويسري روبير روت، الذي كان أحد قضاة المحكمة الخاصة بلبنان بين عامي 2011 و2013، قبل استقالته، بعد سلسلة من الاتهامات الشخصية له ولزوجته لكونهما يهوديين.
swissinfo.ch : هل فاجأك هذا الحكم، خاصة كونه يدين واحداً فقط من المتهمين الأربعة؟
روبير روت: كان اثنان من الأشخاص الثلاثة الذين تمَّت تبرئتهم مُتَّهَمين بتنظيم تَبَنٍّ كاذبٍ للتفجير من قبل مجموعة جهادية غير معروفة. واعتبر القضاة أنَّ هذه التهمة لم تكن مدعومة بأدلة. في حين كانت هناك أدلة كافية لإدانة أحد المنفذين لمشاركته في التفجير.
والمؤسف في الأمر هو أنَّه لم تتم إدانة المُدبِّرين. ولكن كان هذا متوقعاً تماماً منذ عدة سنوات. الأمر الذي لم تُخفه غرفة الدرجة الأولى في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بتصريحها خلال حكمها بأنه لا يوجد دليل يسمح باتهام النظام السوري وقيادة حزب الله. وكان من المهم أن تقول ذلك.
في 14 فبراير 2005، قُتِلَ رفيق الحريري، الذي كان رئيساً للوزراء حتى تاريخ استقالته في أكتوبر 2004، عندما قام انتحاري بتفجير شاحنة مليئة بالمتفجرات لدى مرور موكبه المدرع قبالة الواجهة البحرية في بيروت، مما أدى إلى مقتل 21 شخصاً وجرح 226 آخرين.
أثارت عملية اغتياله، التي اتُهم فيها أربع جنرالات لبنانيين موالين لسوريا بالتورط في بادئ الأمر، موجة من الاحتجاجات في لبنان في ذلك الحين، وأدت إلى انسحاب القوات السورية بعد قرابة 30 عاماً من تواجدها في بلد الأرز، أي منذ بداية الحرب الأهلية (1975ـ1990).
كما أدت هذه العملية إلى تحرك المجتمع الدولي المذكور. حيث سمح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتشكيل لجنة دولية مستقلة للتحقيق في عملية الاغتيال وملابساتها.
swissinfo.ch : مع أنَّ الاتهامات في البداية كانت موجهة لجهات فاعلة ذات أهمية أكبر.
روبير روت: كان هناك ثلاثة محققين متتالين، أصبح آخرهم المدعي العام للمحكمة الخاصة بلبنان. وكان للمحقِّقَين الأوَّلَين وجهات نظر مختلفة تماماً. وكان تقرير التحقيق الأول للأمم المتحدة قد أشار بوضوح إلى أنَّ سوريا مسؤولة. وسعى المحقق الأول للوصول إلى المستندات والأفراد لتعزيز التهمة، ولكنه فشل في النهاية. وعندما شرع الجانب القضائي بالتحقيق، لم يعد يرد ذكر سوريا. والتنويه الوحيد الذي يظهر في لائحة الاتهام كان بأنَّ المتهمين الخمسة (توفي أحدهم منذ ذلك الحين) كانوا أعضاء في حزب الله. إلا أنَّه لم يتم اتهام التنظيم بحد ذاته.
نبأ الحكم في نشرة أخبار هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسري الناطق بالفرنسية:
swissinfo.ch : هل كانت الضغوطات السياسية شديدة جداً؟
روبير روت: جميع المحاكم من هذا النوع هي ذات طابع سياسي، لكونها تخضع بشكل مباشر أو غير مباشر للأمم المتحدة، المنظمة التي تمارس السياسية، وليس للقانون. في حين تخضع المحكمة الجنائية الدولية للدول.
خلال تجربتي التي عشتها في المحكمة الخاصة بلبنان، كان التأثير السياسي يسير باتجاه تسريع المحاكمة. لقد سئم اللبنانيون من دفع 40 مليون دولار سنوياً، أي ما يقارب نصف ميزانية المحكمة الخاصة بلبنان. ومما استنتجته أيضاً من تجربتي في المحكمة، هو أنَّ على القضاة أن يكونوا قادرين على الحفاظ على استقلاليتهم، وهو ما أُسميه بواجب العصيان.
swissinfo.ch : وعلى الصعيد الشخصي، كيف عشت هذه الضغوطات؟
روبير روت: كان المدعي العام اللبناني قد شكك بشكل غير مباشر في استقلاليتي بسبب علاقاتي المزعومة مع الكيان الصهيوني. ولم يجرؤ رئيس المحكمة على تذكيره باستقلالية المحكمة المنصوص عليها في نظامها الأساسي. وبالتالي فتح تحقيقاً داخلياً. وهو ما زعزع المحكمة، بشكل جزئي على الأقل.
كما ارتكب هذا القاضي خطأ بسبب جهله بالواقع اللبناني. في حين يجب أن يُبقِ القضاة أعينهم مفتوحة على الحقائق والديناميكية الراهنة في لبنان.
على العكس من ذلك، يعتبر البعض منهم أنه لضمان استقلاليتهم، يجب عدم متابعة الوضع الراهن في لبنان خوفاً من التورط فيه. كان هاجسهم على وجه الخصوص هو استمرار حزب الله في مهاجمة المحكمة في الصحافة. إلا أنَّ هذا الحزب لم يستنكر على الإطلاق تمويل المحكمة، على الرغم من مشاركته في الحكومة منذ وقت طويل.
swissinfo.ch : هل كان هناك أمل في أن تُساهم التحقيقات الجارية في جرائم الحرب المرتكبة منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، بشكل غير مباشر، في تقديم أدلة إلى المحكمة الخاصة بلبنان؟
روبير روت: نعم، كان هناك هذا الأمل. في الفترة التي كنت فيها قاضياً، كان من الواضح أنَّ نظام الرئيس السوري بشار الأسد محكوم عليه بالسقوط. وكنا نتساءل إن كان ذلك السقوط سيسمح لنا بالوصول إلى الوثائق الموجودة بحوزة النظام. وهو ما لم يحدث على الإطلاق.
فقد اختفت بعض الأطراف الفاعلة. حيث توفي الشخص الذي كانت تعتبره تقارير لجنة التحقيق على الأرجح المسؤول الرئيسي عن هذا النوع من العمليات السورية في لبنان، خلال شجار في مكتبه، وفقاً للرواية الرسمية. أما بالنسبة للمسؤول الأول ـ بشار الأسد ـ فهو لا يزال رئيساً لسوريا.
غير أنه، من الممكن أن تؤدي المحاكمات الجارية حول الجرائم المرتكبة في سوريا إلى ظهور أدلة جديدة. لكن شريطة أن يكون المتهمون متورطين في العمليات في لبنان. ولا شيء يدل على أنَّ المحكمة الخاصة بلبنان تستطيع الحصول على مثل هذه الأدلة حتى في حال تمَّ الطعن في الحكم الذي صدر الثلاثاء الماضي.
swissinfo.ch : لقد كانت مدة المحاكمة موضع انتقادات كثيرة. وهو نفس الانتقاد الذي تثيره معظم المحاكمات الدولية في جرائم الحرب. هل هذه الانتقادات مُبرَّرَة؟
روبير روت: بالنسبة للمحكمة الخاصة بلبنان، لم يكن استغراق كل هذا الوقت لمعالجة القضايا التي كُلّفت بها أمراً حتمياً ولا أعتقد أن تكون السياسة هي السبب الرئيسي لهذا التأخير. يعود طول هذه الفترة، قبل كل شيء، إلى صعوبة التحقيقات على الرغم من الجهود المبذولة في البداية للإسراع فيها. وهو ما يفسر خيار الحكم الغيابي، وللمرة الأولى، منذ محاكمات نورنبيرغ.
كان المُروِّجون للمحكمة، وبالتحديد أنطونيو كاسيس الذي كان في نفس الوقت الرئيس الأول للمحكمة الخاصة بلبنان والذي ساهم إلى حد كبير بوضع النظام الأساسي للمحكمة، يدركون تماماً أنَّ هناك احتمالاً كبيراً بألا يتم تسليم المُتّهمين إلى المحكمة.
وتنطبق صعوبة المحاكمات على معظم المحاكم المُنشأة لمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الأكثر خطورة، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية (CPI). وقد تمرَّد عدد من قضاة المحكمة الجنائية الدولية مراراً وتكراراً على هذه الضغوطات. في العام الماضي، قدّم القاضي الإيطالي كونو تارفوسير وجهة نظررابط خارجي في غاية القوة يوضح من خلالها سبب عدم نجاح الاجراءات القضائية التي ينظمها القضاة.
المشكلة الرئيسية التي تواجه محاكمات مستوحاة من الدول الناطقة بالإنجليزية ومستمدة من قضية محكمة يوغسلافيا السابقة، والتي تُمليها الولايات المتحدة بشكل كامل، تأتي من الالتزام بإثبات جميع الوقائع، حتى الأكثر تفاهة منها، أمام القضاة.
معنى ذلك، أنه في كل مرة يُقدَّم فيها ادعاء، يجب إثباته وإخضاعه للنقض إن أمكن. فلو قيل بأن التفجير ضد رفيق الحريري قد وقع ظهر يوم 14 فبراير 2005، يجب إثبات أنَّه كان في وضح النهار في ذلك اليوم لأنَّ ذلك يؤثر على ما رآه الشهود. ولذا، استغرق التحقق من أنَّ الشاحنة التي استُعملت في التفجير كانت من نوع كذا وأنها كانت مُستأجَرة وقتاً طويلاً لدرجة لا تُصدَّق.
«بناء على النتائج والتحقيقات التي توصلت إليها اللجنة والسلطات اللبنانية حتى اليوم، واستناداً إلى الأدلة المادية والوثائقية التي تمَّ جمعها، والقرائن التي جرت متابعتها حتى الآن، هناك التقاء في الأدلة يشير إلى تورط لبناني وسوري، على السواء، في هذا الهجوم الإرهابي. ومن المعروف جيداً أنَّ المخابرات العسكرية السورية كان لها وجود كاسح في لبنان، على الأقل حتى انسحاب القوات السورية عملاً بقرار مجلس الأمن 1559 (2004). وهي التي عيَّنت كبار المسؤولين الأمنيين السابقين في لبنان. وفي ضوء تغلغل دوائر الاستخبارات السورية واللبنانية، عاملةً جنباً إلى جنب، في المؤسسات اللبنانية والمجتمع اللبناني، من الصعب تخيل سيناريو تُنَفَّذ بموجبه مؤامرة اغتيال على هذه الدرجة من التعقيد دون علمهما».
موجز عن تقرير رابط خارجيلجنة التحقيق الدولية المستقلة بقيادة ديتليف ميليس بيروت، نُشِرَ بتاريخ 19 أكتوبر 2005.
كان روبرت روت مديراً لأكاديمية القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان في جنيف وأستاذاً في القانون الدولي في جامعة جنيف منذ عام 1987.
Traduzione dal francese: Andrea Tognina
قراءة معمّقة
المزيد
سياسة فدرالية
اقتراع فدرالي: هل تحتاج عقود إيجار العقارات في سويسرا إلى تعديل؟ الكلمة للشعب
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.
اقرأ أكثر
المزيد
سويسرا ترسل فريق دعم طبي إلى بيروت
تم نشر هذا المحتوى على
انطلق ستة خبراء طبيين سويسريين إلى لبنان للمساعدة في أعقاب الانفجار الهائل الذي وقع في ميناء بيروت. ذلك بعد تبرع سويسرا سابقاً بـ 5ملايين فرنك وإرسال 20 من عمال الإغاثة إلى بيروت.
“من المفيد أن تكون سويسريا في منطقة مثل الشرق الأوسط”
تم نشر هذا المحتوى على
ويعتقد فيليب لازاريني أنه تم تعيينه في هذا المنصب نظرا لتجربته في مجال تنسيق العمل الإنساني للأمم المتحدة، خاصة في الشرق الأوسط، وليس لأنه سويسري. رغم ذلك، يقول لازاريني في حوار مع swissinfo.ch إن ذلك يساعد، خاصة وأن خطته حاليا تتمثل في إعادة المنظمة إلى المسار الصحيح. بالنسبة للرئيس الجديد للأونروا: “في الشرق الأوسط، سويسرا هي…
تم نشر هذا المحتوى على
يُظهر إلقاء نظرة فاحصة على قوانين العقوبات في الدول الأوروبية، ان الأحكام الجنائية الصادرة في الدول المُتحدثة بالألمانية – بما في ذلك سويسرا – مُتساهلة نسبياً. وفي ظروف مُعينة، يمكن ألا يُقَضي شخصٌ ارتكب جريمة قتل تحت تأثير “ضغط نفسي شديدرابط خارجي” أكثر من سنة واحدة فقط في السجن في سويسرا. وبالمقارنة مع بلدان أخرى،…
آمال متزايدة في إمكانية تقديم مجرمي الحرب إلى المحكمة
تم نشر هذا المحتوى على
مع توقع إجراء أول محاكمة دولية لجرائم الحرب في سويسرا أمام محكمة غير عسكرية في الأشهر المقبلة، تقول منظمة " ترايال إنترناشيونال " TRIAL International السويسرية غير الحكومية أن حالات "الولاية القضائية العالمية" هذه في تزايد في جميع أنحاء العالم. وتقول إن سويسرا لديها العديد من القضايا الأخرى قيد الدرس والتحقيق، لكنها ما زالت بحاجة إلى زيادة وتيرة عملها في هذا المضمار.
نظراً لتداعيات أزمة فيروس كورونا، أُجلت المحاكمة التي طال انتظارها لزعيم المتمردين الليبيريين السابقين إليو كوشيا، والتي كان من المقرر إجراؤها مبدئياً أمام المحكمة الجنائية الفدرالية السويسرية في أبريل الحالي، ولكن ما زال من المتوقع أن تتم هذه المحاكمة في وقت لاحق من العام. وتأمل فاليري بوليت، رئيسة تحرير مجلة "ترايال السنوية بشأن الولاية القضائية العالمية" المنشورة يوم الاثنين الماضي، في أن تفتح المحاكمة حقبة جديدة في وحدة الجرائم الدولية في سويسرا في مكتب المدعي العام (OAG).
تقول فاليري بوليت لـ swissinfo.ch: "آمل أن تكون المحاكمة علنية وأن تحظى بتغطية إعلامية كبيرة لهذه القضية، كما آمل أن يكون ذلك حافزاً لوحدة الجرائم الدولية للمضي قدماً في التحقيق وإرسال لوائح الاتهام". وتضيف: "نحن بحاجة إلى الإقرار بأهمية ما آلت إليه الأمور بأن كوشيا سيخضع أخيراً، وبعد ست سنوات من الانتظار، للمحاكمة؛ لقد حان الوقت لذلك".
كوشيا، القائد السابق لحركة التحرير المتحدة من أجل الديمقراطية في ليبيريا (ULIMO)، متهم بارتكاب جرائم حرب خلال الحرب الأهلية الليبيرية الأولى بين عامي (1989-1996)، بما في ذلك أعمال عنف جنسي وقتل وأكل لحوم البشر وتجنيد الأطفال للقتال، وإجبار المدنيين على العمل في ظروف قاسية. وقد تم اعتقاله في سويسرا في نوفمبر 2014، وهو قيد الاحتجاز على ذمة التحقيق منذ ذلك الحين بانتظار المحاكمة، حيث قامت السلطات السويسرية بإجراء تحقيقات، بشأن الجرائم المنسوبة إليه.
وقد رفعت القضية منظمة سويسرية أخرى غير حكومية، هي "سيفيتاس ماكسيما" Civitas Maxima وذلك بالنيابة عن الضحايا الليبيريين، بموجب مبدأ يعرف باسم الولاية القضائية العالمية، حيث يمكن لدول مثل سويسرا التي اعتمدت هذا المبدأ في القانون الوطني، استخدامه لمحاكمة غير مواطنيها على الجرائم الدولية الخطيرة (الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية) التي ترتكب في أي مكان في العالم.
ويخضع وزير الداخلية الغامبي السابق عثمان سونكو أيضاً، منذ يناير 2017، للاحتجاز، بانتظار محاكمته في سويسرا، حيث يتم التحقيق معه من قبل مكتب المدعي العام في جرائم مزعومة ضد الإنسانية، ومنها التعذيب.
اللجوء إلى الولاية القضائية العالمية في ازدياد
يعتبر محامو حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية مثل " ترايال" في طليعة الجهات التي دفعت الولاية القضائية العالمية إلى تحمل مسؤولياتها في المحاكمات، وإجراء المساءلة عن الجرائم الخطيرة، لا سيّما عندما لا تتوفر الأطر القانونية لذلك في البلد الذي ارتكبت فيه الجرائم. وعلى سبيل المثال، لم تقم ليبيريا، حتى اليوم، بمحاسبة أي شخص على الجرائم الدولية الخطيرة التي ارتكبت خلال حروبها الأهلية، علماً أن هناك بعض القضايا أيضاً في دول أوروبية تتبنّى هي الأخرى مبدأ الولاية القضائية العالمية.
ووفقا لتقرير "ترايال"، فلقد ازداد اللجوء إلى صلاحيات الولاية القضائية العالمية في البلدان حول العالم "أضعافاً مضاعفة"، مع وجود عدد غير مسبوق من القضايا. وبحسب التقرير المذكور، واستناداً إلى عام 2019، تخضع 16 دولة لملاحقات قضائية، وهناك حالياً 11 متهماً قيد المحاكمة، و "يمكن أن يضاف إليهم قريباً، أكثر من 200 مشتبه به"، بحسب التقرير. وقد ارتفع عدد المشتبه بهم في قضايا الولاية القضائية العالمية حول العالم (207) أي بنسبة 40% عن عام 2018.
وتقول بوليت إن الاتجاه بدأ في عام 2015 بتدفق اللاجئين إلى أوروبا "الذي رافقه قدوم العديد من الشهود والعديد من الضحايا والعديد من الجناة المشتبه بهم". وتقوم الدول الأوروبية الآن باكتساب خبرتها في هذا المجال، وهناك دول مثل فرنسا وألمانيا، تقوم بإنشاء وحدات تعاون مشتركة للتحقيق في القضايا.
وتضيف بوليت: "لدى سويسرا بعض القضايا، التي رُفع الكثير منها من قبل "ترايال إنترناشيونا". "لدينا ست قضايا كبيرة قيد التحقيق، لكن أخشى ألا يتم إجراء التحقيقات اللازمة. لذا فمن الواضح أنه لا يمكن اعتبار سويسرا مثالاً"، على حد قولها.
الموارد والإرادة السياسية
لطالما اتهمت المنظمات غير الحكومية وغيرها، مكتب المدعي العام بالتباطؤ في قضايا الجرائم الدولية. ويُعزى ذلك إلى المعاناة من النقص في الموارد، والخشية من التدخلات والضغوط السياسية الممكنة. في شهر أبريل من عام 2018، كتب المقررون الخاصون للأمم المتحدة، المعنيون بقضايا التعذيب واستقلالية القضاة والمحامين، إلى الحكومة السويسرية، معربين عن قلقهم إزاء مزاعم بأن مكتب المدعي العام قد تعرض للضغط السياسي، لا سيما في القضايا المرفوعة ضد وزير الدفاع الجزائري السابق خالد نزار، ورفعت الأسد عم الرئيس السوري الحالي.
وفي ردّ مكتوب، رفض وزير الخارجية إينياتسيو كاسيس هذه الادعاءات وأكد أن "سويسرا تعلق أهمية كبيرة على مكافحة الإفلات من العقاب، لا سيما بالنسبة للجرائم التي تقع تحت طائلة القانون الدولي". ولكن، ورغم مرور عامين على رفع هذه القضايا إلى المختصين، لم يتم فيها إحراز أي تقدم يذكر، حيث لم يتم الاستماع سوى لشاهد واحد في قضية نزار، بحسب ما تدّعي بوليت. أما في قضية سونكو، التي رفعتها "ترايال" أيضاً للجهات المختصة، فإن العاملين فيها "ليس لديهم أدنى فكرة" عن متى يمكن تقديمه للمحاكمة، على حد قولها.
ورفض مكتب المدعي العام مقابلة swissinfo.ch بشأن هذه الادعاءات، وصرّح في رد مكتوب أن التحقيقات المتعلّقة بهذه القضايا "جارية". وفيما يتعلق بقضية الوزير الغامبي السابق سونكو، ذكر أن "المشتبه به ما زال رهن الاحتجاز وأن الإجراءات الجنائية السويسرية مستمرة بحقه"، كما أن مكتب المدعي العام يتابع عن كثب ما يحدث في غامبيا بهذا الشأن وفي ولايات قضائية أخرى ذات صلة. ووفقاً لـ ترايال، ذكرت لجنة الحقيقة والمصالحة والتعويضات TRRC أن هناك جلسات استماع إلى شهود وضحايا أحياء تجري في غامبيا، وأن اسم سونكو تردد على لسان هؤلاء بشكل متكرر. كما تم نقل "مواد وأدلة متعلقة بالقضية، بما في ذلك شهادات أمام لجنة الحقيقة والمصالحة والتعويضات TRRC، وتسليمها إلى المدعي العام السويسري".
ورفض مكتب المدعي العام إعطاء تفاصيل عن موارده المخصصة لمتابعة قضايا الجرائم الدولية، وعن مدى ملاءمتها إنجاز المهام المطروحة.
الجرائم الدولية والإرهاب
ويعرب تقرير "ترايال" أيضاً عن القلق بشأن ما يسميه منحى متزايداً للمدعين العامين حول العالم، لاتهام المشتبه بهم بالإرهاب، وهي تهمة يسهل إثباتها أكثر من تهمة ارتكاب الجرائم الدولية. وهذا أمر يثير القلق، لا سيّما مع انتفاء وجود تعريف دولي للإرهاب، ولأن من عواقبه تهميش الضحايا، لأن الإرهاب جريمة ضد الدولة وليس ضد الأفراد. وتعتبر "ترايال" أن عواقب هذا المنحى، تشكل "حقيقة من الصعب تقبّلها بالنسبة للعديد من الناجين الذين يعتبرون اتباع هذا المنحى للوصول إلى تحقيق العدالة التي ينشدونها بمثابة خطوة نحو إغلاق ملفات قضاياهم".
ويشير التقرير إلى ما حصل في قضية الجهاديين الفرنسيين منير ديوارا ورودريغ كوينوم، اللذين حكمت عليهما محكمة فرنسية في ديسمبر من عام 2019 بالسجن لمدة 10 سنوات بتهمة الإرهاب. وكان المتهمان قد ظهرا في صوَر في سوريا وهما يرتديان ملابس قتالية ويحملان بنادق كلاشينكوف، وكان أحدهما يلوح بإحدى يديه برأس مقطوع.
وتعتبر "ترايال" أن المشتبه بهما "كان يمكن أن يتهما، بالإضافة إلى التهم المتعلّقة بالإرهاب الموجهة ضدهما، بالاعتداء على الكرامة الشخصية لضحاياهما، وهي جريمة حرب محددة بوضوح في اتفاقيات جنيف".
وترى بوليت إن المشكلة لا تكمن في سويسرا بقدر ما تكمن في واقع أن وحدة الجرائم الدولية التي، وبنتيجة افتقارها إلى الموظفين، قد تم دمجها مع وحدة جرائم الإرهاب. هذا الدمج لا يُعتبر مشكلة في حد ذاته، فقد حصل أيضاً في فرنسا. وتقول لموقع swissinfo.ch: "قد يكون من الجيد الاعتقاد بأن لديك وحدة معنية بجرائم الإرهاب تعمل أيضاً في قضايا جرائم الحرب، لأن هذه الجرائم مرتبطة ببعضها أحياناً. لكن المشكلة تكمن في الافتقار للموارد البشرية والمالية والتعرّض للضغوط السياسية التي تمارسها دولة ما. ونتيجة لضغوط الرأي العام، تجنح الدول إلى مقاضاة المشتبه بهم في قضايا الإرهاب. ثم يصبح من الصعب الدمج بين الإرهاب وجرائم الحرب، لأن جرائم الإرهاب هي التي ستُولى الأهمية ".
حوار الطرشان في برلين.. وحكومة جديدة في لبنان تفتقر إلى ثقة الشارع
تم نشر هذا المحتوى على
على وقع النتائج الباهتة لمؤتمر برلين حول ليبيا والموجة الجديدة من الاحتجاجات العنيفة التي صاحبت الاعلان عن الحكومة الجديدة في لبنان، تابعت عدة صحف سويسرية هذا الأسبوع ولكن بشكل محدود سير الأحداث في هذين البلدين العربيين من خلال مراسلات ميدانية. حوار الطرشان بين الفرقاء الليبيين أو “عرس بلا عرسان” في عددها الصادر يوم 20 يناير الجاري،…
شارف على الإنتهاء... نحن بحاجة لتأكيد عنوان بريدك الألكتروني لإتمام عملية التسجيل، يرجى النقر على الرابط الموجود في الرسالة الألكترونية التي بعثناها لك للتو
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.