من يحمي المُهاجرين من مقبرة إسمها البحر الأبيض المتوسط؟
في الصباح الباكر، رست الفرقاطة أليزيو في ميناء بوتزالّو. نحن الآن في أول أيام شهر أكتوبر وعملية “ماري نوستروم” تقترب من نهايتها. في مؤخرة الفرقاطة، يتجمع 435 مهاجرا التصقوا ببعضهم البعض، من بينهم ثمانِ نساء وطفل، يقدم معظمهم من إفريقيا السوداء، أبحروا قبل أسبوع من أحد السواحل الليبية، حيث أمضوا ثلاثة أيام في عرض البحر وأربعة أيام على متن سفينة من بين 32 سفينة خصّصتها البحرية الإيطالية لتنفيذ عملية “بحرنا” أو “ماري نوسترومرابط خارجي“.
“كانوا على متن ثلاثة قوارب، انقطعت بهم السبل في المياه الدولية على بُعد 70 ميلا من الشواطئ الليبية، وكان أول ما ينبغي عمله، هو تهدئتهم والتخفيف من ارتياعهم، لأن أي حركة، ولو بسيطة، قد تؤدي إلى التهلكة. أحد القوارب تسربت المياه إلى داخله، وقد وصلنا في اللحظة الأخيرة”، كما يقول جانكارلو ماريو لاوريا، قبطان الفرقاطة أليزيو.
المزيد
وداعا “ماري نوستروم”
لأكثر من سنة، استمرت إيطاليا في القيام بعمليات لمساعدة المهاجرين في البحر المتوسط، ولطالما ناشدت الإتحاد الأوروبي للوقوف بجانبها، ولكن دون طائل، وأخيرا جاءت الإستجابة بإطلاق عملية “تريتون”، التي تركّز في الأساس على مهمة القيام بدوريات لمراقبة الحدود ومكافحة المهربين، وتخضع لإدارة وكالة فرونتكسرابط خارجي، التي حظيت لحد الآن، بمشاركة 15 دولة أوروبية، من بينها سويسرا، وتتوفر على ميزانية شهرية قدرها 2,9 مليون يورو، وهو مبلغ يقل بمعدل الثلث عن الميزانية التي كانت مخصصة لعملية “بحرنا” أو “ماري نوستروم”. ومنذ أول نوفمبر 2014، لم تعد مسألة البحث عن اللاجئين والحفاظ على أرواحهم، ذات أولوية.
في السياق، قالت إيزابيلا كوبر، المتحدثة باسم وكالة فرونتكس الأوروبية: “كانت ماري نوستروم عملية ذات بُعد إنساني وعسكري، وتختلف تماما عن تريتون. فهدف فرونتكس، هو ضمان أن لا يدخل أحد إلى الأراضي الأوروبية دون أن يُكتَشَف، وبلا شك، أنه عند وجود حالة غرق، يتم إنقاذ المهاجرين، باعتبار نص القانون الدولي، ولكن لا يدخل هذا ضمن أهداف تريتون”.
لهذا السبب تحدّدت مهمة تريتون في نطاق لا يزيد عن 30 ميلا بحريا قُـبالة السواحل الإيطالية، بينما كانت عملية ماري نوستروم تصل إلى حدود الشواطئ الليبية، ومن هناك، تم ضبط مجموعة 435 مهاجرا، الذين وصلوا إلى شاطئ بوتزالّو.
الوجوه وليس الأسماء
منذ ساعات والسفينة متوقِّـفة، قبل أن يبدأ شبان أفارقة بالنزول على شكل مجموعات صغيرة تتكون من أربعة أو خمسة أشخاص، وتقوم الشرطة بأخذ صورة فورية للوجه ولسوار يُحيط بالمعصم يحمل أربعة أرقام، بحيث يمكن مؤقتا التعرّف على هوية الشخص. هناك أيضا مجموعة يتم نقلها مباشرة إلى مدينة ميسّينا – على بُعد أكثر من 200 كلم من بوتزالّو – بينما يتوجه الآخرون إلى خيمة تابعة لمنظمة أطباء بلا حدود، لإجراء الفحوصات الطبية الأولية.
أما حالة اللاّجئين عند الوصول، فكثيرا ما تعتمد على “الرحلة وعلى بلد القدوم”، كما يوضح كلير مونتالدو، الذي أمضى سنة على رأس فريق منظمة أطباء بلا حدودرابط خارجي في بوتزالو، ويُضيف “بشكل عام، الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى، هم أفضل حالا، مع أن رحلتهم عبر البحر تكون أسوأ بسبب أحوالهم المادية الصعبة. فهم في المعظم من الشباب الذكور، ولذلك يستعيدون قِـواهم بشكل أسرع”.
ثم هناك السوريون الذين “يُمكنهم، في العادة، استقلال قوارب أفضل، ورحلتهم عبر البحر أقصر، لكنهم، وعلى العكس من الأفارقة، يوجد بينهم أشخاص من كبار السن ومَن لديهم أمراض مزمنة، مثل السكري والضغط، وأطفال لم يتسنَّ لهم تناول التطعيمات بسبب الحرب”.
أما المجموعة الثالثة، فهم الإريتريون، الذين يمثلون مع السوريين قرابة نصف المهاجرين، و”تبدو عليهم آثار العنف النفسي والجسدي، حيث تعرّض الكثير منهم، رجالا ونساءً، للإغتصاب وللتعذيب في إريتريا وليبيا”.
عملية “بحرنا” (ماري نوستروم)
الهدف: إنقاذ المهاجرين في عرض البحر.
الدول المشاركة: إيطاليا.
الميزانية: 9,5 مليون يورو شهريا (المجموع 114 مليون يورو).
الآليات: 32 سفينة عسكرية وغواصتان وطائرات هليكوبتر وطائرات أخرى.
العاملون: 900 جندي يوميا، والخدمة على مدار 24 ساعة.
مجال التحرك: المياه الإقليمية والدولية وحتى مدى قريب من السواحل الليبية.
ماري نوستروم: تأثير يرتد؟
هذه العملية، التي أطلِـقت في أكتوبر عام 2013 بعد غرق 368 شخصا قبالة سواحل جزيرة لامبيدوزا، سمحت بإنقاذ أكثر من 150 ألف مهاجر وقادت إلى إلقاء القبض على 500 شخص من المتّهمين بتهريب المُهاجرين غير الشرعيين.
غير أن القرار الشجاع الذي اتّخذته الحكومة الإيطالية في حينها، لم يخلُ من العواقب، إذ بلغت تكلفة “ماري نوستروم” لسنة واحدة فقط 112 مليون يورو، أي زهاء 9,5 مليون يورو شهريا، وبموجب معاهدة دبلن، كان على إيطاليا أن تتحمّل مسؤولية وتكلفة استقبال هؤلاء المهاجرين، لدرجة أنها وجدت نفسها ومنذ فترة، عاجزة عن التعامل مع هذا الوضع الطارئ، حيث قفز عدد الوافدين من 60 ألف لاجئ في عام 2013 ليبلُغ 165 ألف لاجئ في موفى شهر أكتوبر 2014، وبناءً عليه، توقّفت عن عملية التسجيل التلقائي لهؤلاء الأشخاص في قاعدة البيانات الإلكترونية الأوروبية “يوروداك”رابط خارجي أو النظام الأوروبي لمضاهاة البصمات، مما أثار حفيظة بعض الدول الأوروبية، وعلى رأسها سويسرا (البلد غير العضو في الإتحاد الأوروبي)، التي وجدت نفسها بدون دليل يُخوَّل لها إعادة مَن يصِل إليها مِن هؤلاء الأشخاص إلى إيطاليا.
المزيد
“اتفاقية دبلن غير متوازنة وغير فعّالة”
أضف إلى ذلك، أن الدعم الذي كانت تحظى به عملية “ماري نوستروم”، بدأ يتراجع تدريجيا، خاصة داخل الإتحاد الأوروبي، بسبب أن العديد من السياسيين بات مقتنعا بأن العملية “ساهمت في استفحال تجارة تهريب المهاجرين غير الشرعيين”، حسب تقديرهم.
من ناحية علمية، يصعب – وِفقا للأستاذ فيروتشو باستوري، مدير منتدى البحوث الدولية والأوروبية حول الهجرة في مدينة تورينو الإيطالية – إثبات مثل ذلك التأثير المغناطيسي للعملية، لاسيما وأنه: “لا يمكن إنكار ما حصل خلال العام الماضي من تفاقُمٍ للأوضاع في بلدان مثل سوريا وليبيا، أدّى إلى تزايُـدٍ لأعداد الراغبين في الهجرة، كما أن عدم وجود دولة على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، بعدما سقط القذافي، له دوره أيضا”.
ومن وجهة نظر دنيس غراف، المحامي والخبير في شؤون اللجوء بالفرع السويسري لمنظمة العفو الدوليةرابط خارجي، فإن الاتحاد الأوروبي يتحمل هو أيضا نصيبه من المسؤولية في زيادة أعداد المهاجرين غير الشرعيين، ذلك أن “أوروبا صنعت من نفسها قلعة مُحاطة بأسوار: سور في اليونان وآخر في بلغاريا وآخر في سبتة ومليلية، يُضاف إليها السور المستعصي على النفاذ، بين إسرائيل ومصر. كما قامت الدول الأوروبية، بما في ذلك سويسرا، بالتضييق البالغ على الحق في لمّ شمل الأسْرة وعلى إمكانية التقدّم بطلبات اللجوء إلى السفارات، فلم يبق أمام مَن يطلب اللجوء إلى أوروبا، سوى طريق وحيد وغير قانوني، ألا وهو البحر الأبيض المتوسط”، على حد قوله.
كلب يُطارد ذيله
علاوة على ما سبق، شهدت الأشهر الأخيرة تزايدا في أعداد سُفن اللاجئين غير الشرعيين التي تُبحر عبر البحر المتوسط، مع أن عملية “ماري نوستروم” كانت ولا تزال قائمة. كما أحصت المفوضية السامية لشؤون اللاجئينرابط خارجي التابعة للأمم المتحدة، 3300 حالة وفاة في عام 2014، منها أكثر من 2700 حالة منذ بداية شهر يونيو الماضي. وبحسب كيارا مونتالدو: “بالتأكيد، أن العدد أكثر من ذلك بكثير. فكم من المرّات قال لنا المهاجرون بأنهم كانوا على متن خمسة زوارق، فأين ذهب الإثنان الآخران؟”.
عملية “تريتون”
الهدف: مراقبة الحدود ومكافحة الاتجار بالبشر.
الدول المشاركة: 15 دولة منها سويسرا.
الميزانية: 2,9 مليون يورو شهريا.
الآليات: 7 سفن وطائرتان وطائرة هليكوبتر.
عدد العاملين: غير معروف.
مجال التحرك: 30 ميلا انطلاقا من السواحل الإيطالية.
حاليا، مع انتهاء عملية ماري نوستروم، من المتوقع للوضع أن يزداد سوءً، لاسيما في الأشهر الأولى، حيث لم تصل الأخبار بعدُ إلى مسامع الناس في ليبيا، وحيث سيستفحل المهرِّبون في استغلال غفلة المهاجرين وعدم معرفتهم بالمستجدّات، فقد أعلنت العديد من المنظمات الإنسانية الدولية، بما في ذلك مفوضية شؤون اللاجئين، عن قلقها حيال ما اعتبرته “عدم وجود إرادة حقيقية” من جانب الدول الأوروبية، للحيلولة دون إزهاق مزيد من الأرواح في البحر الأبيض المتوسط. أما بالنسبة لدنيس غراف، من منظمة العفو الدولية، فإنه “لا يُمكن للإتحاد الأوروبي إغماض عينيه والتظاهر بعدم وجود حالات غرق جماعي” في المتوسط.
من المؤكد، بأن عملية مثل ماري نوستروم لا يُمكن أن تُطبّق على مدىً بعيد، إلا أنها تشير بطريقة أو بأخرى، إلى سياسة أوروبية عرجاء. إنها أشبه بـ “كلب يُلاحق ذيله”، على حد قول كيارا مونتالدو، بينما تشاهد موجات البحر وهي ترتطم بجدار المرفأ، وتضيف “في الواقع، إن السياسة الحالية تُضطر المهاجرين إلى عبور البحر والمخاطرة بحياتهم، حتى تذهب بعد ذلك لإنقاذهم. لا، الواجب أننا لا نضطرهم إلى عبور البحر”.
منذ بضعة أيام، عاد الهدوء إلى بوتزالّو، وتوقف حساب تويتر الخاص بالبحرية الإيطاليةرابط خارجي عن التغريد اليومي بشأن وصول أعداد من اللاجئين، أما على الضفة الأخرى لمضيق جزيرة صقلية، فهناك عشرات الآلاف من المهاجرين الذين يترقّبون لحظة الإبحار إلى أوروبا، ومن المؤكد أن اختتام عملية “بحرنا” أو “ماري نوستروم”، لن تكون كافية لتنهي أحلامهم أو تقضي على آمالهم.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.