نحو جولة جديدة من الحوار وسط تصاعد المعارك ونزوح المدنيين
تتجه ليبيا نحو مؤتمر ثانٍ للحوار بين الفرقاء (كان مقررا ليوم الإثنين 5 يناير 2015 لكنه تأجل) وسط تصعيد شامل للقتال على جبهات عديدة، من أجل تجميع أكثر ما يمكن من الأوراق على الأرض، لاستخدامها على مائدة التفاوض، وخاصة ورقة الموانئ النفطية التي تشكّل رئة الإقتصاد الليبي. وتتنافس حكومتان وبرلمانان منذ سيطرة ميليشيات "فجر ليبيا" على العاصمة طرابلس وبنغازي في الشرق، في أغسطس الماضي.
وتزامن الإعلان عن الجولة الجديدة للحوار، مع نشر قسم من مسودّة الدستور الدائم لليبيا، التي وضعتها “الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور” أو “لجنة الستّين”، وهو مشروع يعتمد النظام البرلماني القائم على التعدّدية السياسية والتداول السِّلمي على السلطة. ورعت الأمم المتحدة جولة حوار أولى في مدينة غدامس (غرب) بين الفريقين المتحاربين في سبتمبر 2014، لكنها لم تتوصّل إلى نتائج.
وكان رئيس بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا برناردينو ليون (إسباني الجنسية) أعلن عن تاريخ عقد اجتماع الحوار، بعدما وافقت الأطراف المتنازعة على “خارطة طريق”، وتولّت الأمم المتحدةرابط خارجي تسليم نسخة من هذه الوثيقة إلى مجلس الأمن الدوليرابط خارجي، الذي استمع أعضاؤه إلى شرحٍ عن تفاعلات الأزمة الليبية، بواسطة دائرة تليفزيونية مغلقة.
في الأثناء، قالت مصادر دبلوماسية إنه تم من جديد تأجيل عقد جولة جديدة من محادثات السلام التي تتوسط فيها الأمم المتحدة بهدف إنهاء الأزمة السياسية المتصاعدة في ليبيا وإنها لن تُعقد يوم الإثنين 5 يناير كما كان مقررا. وكانت الأمم المتحدة قد خططت لعقد جولة ثانية من المحادثات لإنهاء مواجهة بين حكومتين وبرلمانين متناحرين . وتعمل الأمم المتحدة منذ شهور لتنظيم محادثات السلام الليبية لكنها قالت من قبل إن تصعيدا عسكريا يقوض جهودها. وقال مصدر دبلوماسي لرويترز شريطة عدم نشر اسمه يوم الأحد 4 يناير إن “المشاورات لعقد جولة ثانية من الحوار ستستمر مع الأطراف للتوصل لاتفاق على زمن ومكان هذه الجولة”ز
وتتضمن الخارطة وفقا مصادر مطلعة اتصلت بها swissinfo.ch، ثلاثة محاور رئيسية، هي تشكيل حكومة وحدة وطنية، ووقْف الجماعات المسلحة إطلاق النار، لإعادة الاستقرار إلى المدن التي باتت مسارح لمعارك ضارية بين الجيش الليبي وتلك الجماعات، ووضع دستور جديد. وأتى الموقف الأممي، استجابة لضغوط قام بها مسؤولون في الحكومة الليبية، التي أفرزها مجلس النواب والتي يرأسها عبد الله الثني، لدفع الأمم المتحدة إلى تدخل أقوى من أجل حلّ الأزمة السياسية في ليبيا.
زيارة بان كي مون
ويمكن القول أن الأمين العام للأمم المتحدة تجاوب مع تلك المساعي حين زار ليبيا مؤخرا، لمساعدتها على الخروج من أزمتها. وحمل بان كي مون رسالة للِّيبيِّين، مفادها وجوب وقف إطلاق النار والتمسّك بضرورة الحوار وشموليته، كي يتم الاتفاق بين جميع الأطراف على خارطة للمستقبل.
وبحسب مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة ابراهيم دباشي، فإن طرفيْ الخلاف حضرا المحادثات مع الأمين العام للأمم المتحدة، الذي أكد في طرابلس أن مجلس النواب هو “الممثل لليبيين والسلطة الشرعية الوحيدة”، مشيرا إلى وجوب تسليم مؤسسات الدولة “إلى السلطة الشرعية”.
وكان وزير الخارجية الليبي محمد الدايري زار من جهته مقر الأمم المتحدة في نيويورك أخيرا، كما زار واشنطن وتحادث مع مسؤولين أمريكيين. وكشف في مقابلة مع وكالة “رويترز” أنه حذر كل الذين اجتمع معهم من “تنامي أخطار الإرهاب الدولي في ليبيا وضرورة التصدّي له”. كما حذر الدايري أيضا من أن الصراع العسكري يُنذر بابتلاع حقول النفط في ليبيا، ونقل البلد إلى حالة سورية جديدة، “إذا لم تتوحّد حكومتها المنقسِمة ولم تتلقّ المساعدة من أجل التصدي للميليشيات المسلحة”.
نشاط حثيثٌ لمنظمات سويسرية
تقوم منظمات غير حكومية سويسرية عدة بعمل حثيث على الساحة الليبية، من أجل تقريب وجهات النظر بين الفرقاء وإعلاء الحوار والتعامل السِّلمي، بالإضافة لأعمال أخرى في مجال مساعدة النازحين ومعالجة القضايا الإنسانية. غير أن المسؤولين والعاملين في تلك المنظمات يتفادون الحديث عن نشاطاتهم إلى وسائل الإعلام “حِرصا على النجاعة والفعالية”، كما يقولون.
ولوحظ أيضا أن الدايري شدّد على أن القوات التي تهاجِم المنشآت النفطية، تضم عناصر من “أنصار الشريعة” التي تصنِّفها الولايات المتحدة في خانة “الجماعات الإرهابية” وتُحمِّلها مسؤولية الهجوم على المجمّع الدبلوماسي الأمريكي في بنغازي في 11 سبتمبر 2012، الذي قضى فيه السفير الأمريكي كريس ستيفنز.
وعكس موقف وزير الخارجية الليبي خيبة أمل كبيرة لدى طيْف واسع من النُّخب الليبية، من قلَّة اهتمام إدارة أوباما بالتطوّرات الجارية في بلدهم، “الذي لا يحتل مكانة بارزة في قائمة أولويات الرئيس الأمريكي”، بحسب ما قال الدايري.
كما دلّت الرسالة التي بعثت بها مجموعة من المثقفين ونشطاء المجتمع المدني الليبي إلى الأمم المتحدة، لحَثِّ مجلس الأمن على سُرعة التحرك لإنقاذ بلدهم، على أن صبْرهم عيل من تصاعد القتال وانتشار العنف.
ولئن أوضح أصحاب الرسالة أن المطلوب من المنظمة الدولية، هو أساسا المساعدة على إنشاء جيش قوي، ونزع سلاح الميليشيات، وتأهيل أجهزة الأمن وحماية مطارات البلاد وموانيها، فإن هذه المطالب يمكن أن تشكّل مبرِّرا لقرار بالتدخّل العسكري، مماثلا للذي أطلق أيدي الحِلف الأطلسي في ليبيا قبل ثلاث سنوات للإطاحة بمعمر القذافي.
احتمالات ضئيلة
غير أن احتمالات التدخّل الخارجي ما زالت ضئيلة، أولا، لأن غالبية بلدان المنطقة تتحاشاه، عدا مصر وتشاد المدفوعة من فرنسا، وثانيا، لأن أعضاء التحالف الدولي السابق غارقون في الحرب على “داعش” في كل من سوريا والعراق، وهم في غنى عن نقل شرار تلك الحرب إلى جبهة ساخنة أخرى في ليبيا.
ويقول خبراء عسكريون إن فرنسا وضعت جنوب ليبيا تحت رقابة مشدّدة موجهة بالأقمار الصناعية، يتولى القيام بها فريق استخباري ميداني. أما وزارة الدفاع الفرنسية التي تقِـر بتلك المراقبة، فتعزوها إلى الحِرص على منْع الشبكات الجهادية المفككة في منطقة الساحل، من إعادة التشكل في جنوب ليبيا. ويعمل الفرنسيون على تعزيز التنسيق مع مصر، التي تؤيد تدخّلا عسكريا سريعا في ليبيا، إلا أن تحفّظ الجزائر على أي تدخّل عسكري في الصراع الليبي، يُقلل من فُـرص نجاح أيّ تدخل فرنسي – مصري.
وفيما تدفع باريس نحو هذا الخيار لـ “تنظيف” جنوب ليبيا من الجماعات التي فرّت إليه من شمال مالي، تنادي لندن إلى اعتماد الحلّ السياسي القائم على الحوار بين الطرفين المتحاربيْن. وفي هذا الإطار، عيّن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون، جوناتان باول موفدا خاصا إلى ليبيا، “لدعم جهود الأمم المتحدة والتوسّط بين القادة السياسيين والعسكريين الرئيسيين”.
لكن الدعوة للحوار، لا تعني لدى البريطانيين والأوروبيين الآخرين التّهوين من الخطر الناجم عن تنامي التطرف والإرهاب في ليبيا. فالسفير البريطاني في طرابلس مايكل آرون حذّر من أن “الجماعات المتطرِّفة (في ليبيا) باتت تهدِّد الأمن الإقليمي وكذلك المملكة المتحدة وحلفاءها”. ونبّه إلى أن الإخفاق في مجابهة هذا التهديد “قد يؤدّي إلى انزلاق ليبيا نحو مزيد من الصِّراعات، التي من شأنها أن تنعكس على الشعب الليبي برمَّته”.
زعيم “القاعدة” في ليبيا
وأتى تسليم الأردن أخيرا، المتشدِّد الليبي عبد الباسط عزوز إلى السلطات الأمريكية، بعدما تسلمه من تركيا، علامة على تغلغل هذا التنظيم ومشتقّاته في الرِّمال الليبية المتحرِّكة، خصوصا منذ الإطاحة بنظام معمّر القذافي. وكشفت صحيفة “ميلييت” اليومية التركية، أن الشرطة التركية اعتقلت عزوز (48 عاما) في نوفمبر الماضي، بعدما دخل إلى البلاد بجواز مُزوَّر. وأفادت أنه بعد التنسيق بين المخابرات الأردنية ووكالة الاستخبارات المركزية، تم ترحيل عزوز إلى الأردن في 24 نوفمبر 2014، قبل نقله إلى الولايات المتحدة، بناء على الاشتباه في تورُّطه في الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي. وكان زعيم “القاعدة” أيمن الظواهري عيّن عزوز أميرا للتنظيم في ليبيا، لدى لقائه معه بعد مقتل أسامة بن لادن، واسم عزوز مُدرج في قائمة الإرهابيين العشرة الأكثر خطورة في العالم.
“لجنة الستين”
هي هيئة منتخبة مباشرة من الشعب، على أساس عشرين مقعدا لكل منطقة من مناطق البلد (برقة في الشرق وطرابلس في الغرب وفزان في الجنوب). وسيتعيّن عليها العمل بصورة وثيقة مع البرلمان المنتخب في 26 يونيو 2014، لكن المحكمة العليا قرّرت حلَّه، ما أتاح لـ”المؤتمر الوطني العام” المُنتهية ولايته، العودة إلى العمل ومنازعة البرلمان الجديد على الشرعية. ويُخشى أن تؤثر تلك التجاذبات السياسية سلْبا في مسار كتابة الدستور وإقراره.
بهذا المعنى، يشعر الأمريكيون وحلفاؤهم الغربيون والعرب، أنهم معنيون بالحرب على الجماعات المرتبطة بـ “القاعدة” في ليبيا، إلا أن عيون الدول الكبرى تبدو الآن مركَّزة على الموانئ النفطية، التي اقترب منها لهيب المعارك بين “الجيش الوطني” وقوات “فجر ليبيا”، ما يعكِس عُمق المخاوف من توقّف الصادرات من موانئ الهلال النفطي، وخاصة السدرة ورأس لانوف.
ومع احتراق عدد من الخزانات في الأيام الأخيرة، تصاعدت مخاوف الغربيين من اضطراب في تزويد زبائن ليبيا بالغاز والنفط، وعودة أسعار المحروقات إلى الارتفاع مجدّدا في الأسواق العالمية، وهو ما حمل البعض على اقتراح إرسال قوات دولية لحماية تلك المنشآت، غير أن الفصائل الليبية المتصارعة رفضت فورا تلك الفكرة.
وفي هذا السياق، توجد مخاوف من فشل الجولة المقبلة من الحوار، لكون الفصيلين الرئيسيين لا يبدوان جاهزين للتجاوب مع الوساطات والإعتراف المتبادل بشرعيتهما في ليبيا الجديدة، ما يجعل احتمال استمرار الحرب الأهلية بشكل أكثر عنفا، أمرا واردا.
وفي ظل هذا الصراع الدموي، هجر كثير من الليبيين بيوتهم ومُدنهم، خوفا على حياتهم. وبعدما كان سكّان تاورغاء، القريبة من مصراتة، يشكلون أبرز حالة تهجير جماعي، انتشرت الظاهرة في مدن أخرى، شرقا وغربا، حتى بلغ عدد الليبيين المُهجَّرين منذ مايو الماضي 390 ألف مُهجّر، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، رُبعهم نزح منذ أكتوبر الماضي.
مربّع مشترك؟
مع ذلك، رأى مُحللون في نشر قسم من مسودّة الدستور الليبي الجديد مؤخّرا، في الذكرى الثالثة والثلاثين لنيل الإستقلال، مؤشِّرا على احتمال إيجاد مربّع مشترك، تقف عليه غالبية الليبيين، للتحاور وإيجاد حلول سِلمية للأزمة السياسية الرّاهنة. وتضمّنت المسودَّة التي نشرتها “الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الدائم لليبيا” أو “لجنة الستين”، نظاما برلمانيا يقوم على التعدّدية السياسية والتداول السِّلمي على السلطة. كما اقترحت اللجنة سلطة تشريعية مؤلَّفة من مجلس للنواب وآخر للشورى، فيما تتكوّن السلطة التنفيذية من رئيس للدولة وحكومة، على أن تكون الحكومة هي الهيئة التنفيذية والإدارية العليا، فيما لا يحِق للرئيس الترشيح لأكثر من ولايتين.
وخصّصت المسودّة بابا مستقِلا للهيئات الدستورية، وهي المفوضية العليا للإنتخابات وديوان المحاسبة والرقابة الإدارية والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد. كما تضمّن هذا الباب أيضا، تشكيل مجلس أعلى للحريات العامة وحقوق الإنسان ومجلسا وطنيا للتربية والتعليم وآخر للإعلام وهيئة للإذاعة والتليفزيون ومجلس وطني لحماية الموروث الثقافي واللغوي.
وكانت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، أول المرحّبين بنشر المسودّة، إذ حثّت جميع الليبيين على المحافظة على استقلالية الهيئة التأسيسية و”الاستفادة من هذه الفرصة، للمشاركة في العملية الدستورية، من خلال المناقشات والحوار البنّاء”. واعتبرت أن هذا هو الوقت المناسب للعمل معا و”إيجاد أرضية مشتركة في شأن القضايا الصّعبة والمعقّدة، التي يتوجب على الدستور معالجتها في سبيل بناء مستقبل قوي لليبيا”. لكن من الصعب إيجاد قواسم مشتركة بين مشروع دستور كهذا ورؤية جماعة “أنصار الشريعة”، على سبيل المثال، التي تعتبر الديمقراطية كُفرا واTنتخابات بِدعة مستوردة من الغرب.
من هنا، يبدو تفاؤل عضو “لجنة الستين” منعم الشريف بإجراء استفتاء على مشروع الدستور في مارس من العام المقبل، ضربا من الأمنيات، خاصة أن التواصل بين “الهيئة” وسكّان بعض المدن الليبية، كان غير ممكن بسبب الاشتباكات المندلعة فيها. مع ذلك، وعدت “الهيئة” باستكمال استطلاع آراء المواطنين حول المقترحات الواردة في المسودّة، لكي تتولّى اللِّجان إعادة صياغتها، من أجل الوصول إلى مشروع نهائي للدستور.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.