هل سيُحاكَمُ قادة روسيا بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا؟
قامت المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق في جرائم حرب مزعومة في أوكرانيا بعد طلب تقدمت به تسعة وثلاثون دولة عضو، بما في ذلك سويسرا. كما تنظر محاكم أخرى في شكاوى قدّمتها أوكرانيا على إثر الغزو الروسي. في هذا المقال، ننظر في الاحتمالات القائمة لمُحاسبة روسيا وقادتها على الجرائم المزعومة.
رغم أن المحكمة الجنائية الدولية هي المحكمة الدولية الوحيدة التي يُمكن أن تحمّل أفراداً، بمن فيهم فلاديمير بوتين، المسؤولية الجنائية، إلا أن أوكرانيا قامت أيضاً برفع قضايا ضد الدولة الرّوسية في كل من محكمة العدل الدولية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. ويعتقد سيرغي فاسيليف، خبير القانون الجنائي الدولي الروسي-الهولندي في جامعة أمستردام، أن أوكرانيا اتخذت خطوات سريعة ومثيرة للإعجاب بصورة ملحوظة في “حربها القانونية” إثر الغزو الروسي، خاصة في ظل معاناتها والظروف المحيطة بها. ويصرّح فاسيليف لـ swissinfo.ch قائلاً: “ربما قام بذلك العمل محامون دوليّون في أوكرانيا يعملون في ملاجئ مُحصّنة، بمساعدة من مواطني الشتات”.
والسؤال الذي يُطرح هو إلى أي مدى يُمكن اعتبار هذه الخطوات في رفع القضايا سريعة وفعالة؟ بادئ ذي بدء، تستغرق الإجراءات المتعلقة بالمحكمة بعض الوقت. ويوم الاثنين 7 مارس الجاري، استمعت محكمة العدل الدولية إلى القضية المقدمة من طرف أوكرانيارابط خارجي، والتي تدّعي بموجبها أن روسيا قامت عن عمد بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة المقرّة في عام 1948 بشأن ارتكاب الإبادة الجماعية. وتعتبر حكومة أوكرانيا أن روسيا قامت زوراً باتهام أوكرانيا بارتكاب إبادة جماعية ضد المتحدثين بالروسية في منطقة دونباس الانفصالية، متخذةً من ذلك ذريعة لغزوها. ويوم الثلاثاء 8 مارس، كان من المقرر أن تستمع محكمة العدل الدولية للرد الروسي على ادعاءات الجانب الأوكراني، لكن الجانب الروسي لم يحضر. وفي الوقت الذي قد يستغرق إصدار الحكم النهائي في هذه القضية سنوات، تعتبر سيسيلي روز، الخبيرة في محكمة العدل الدولية بجامعة ليدن بهولندا، أنه بإمكان المحكمة أن تُصدر خلال الأسبوع أو الأسبوعين المقبلين قراراً باتخاذ “تدابير مؤقتة”، مفادها إصدار أمر لروسيا بالتوقف عن غزوها لأوكرانيا، وهو ما حدث بالفعل يوم 16 مارسرابط خارجي الجاري.
هل ستُعير روسيا الأمر أي اهتمام؟ يُعرب ماركو ساسّولي، أستاذ القانون الدولي بجامعة جنيف، عن تحفظه بهذا الشأن؛ ويقول: “يبدو أن روسيا لم تعد تبالي بالقانون الدولي”. لكن ساسّولي يعتقد أن توثيق موقف روسيا إزاء القوانين الدولية لا يزال مهماً للتاريخ لأن “المُراجعين للأحداث لاحقاً قد يعتبرون أن بوتين كان على حق”. وتعرب روز أيضاً عن تشاؤمها بإمكانية أن يُوقف الأمر الصادر عن المحكمة، الآلة العسكرية الروسية على الفور، لكنها تعتقد أنه قد يلعب دوراً ما في وقف إطلاق النار ومفاوضات السلام.
وكانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسانرابط خارجي قد أصدرت قرارات متعلقة باتخاذ إجراءات مؤقتة تدعو بموجبها روسيا إلى “الامتناع عن الهجمات العسكرية ضد المدنيين واستهداف المنشآت المدنية”، وكذلك عدم القيام بانتهاكات أخرى للقانون الإنساني الدولي.
هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، ويوجد مقرها في لاهاي بهولندا. وتتولى هذه المحكمة الفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول طبقا لأحكام القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقات الدولية. ولا يمكنها محاكمة الأفراد. ورغم أن الأحكام التي تصدر عنها هي أحكام ملزمة، إلا أنها لا تمتلك آلية للتنفيذ.
المحكمة الجنائية الدوليةرابط خارجي
ومقرها أيضاً لاهاي في هولندا. تأسست سنة 2002 بموجب نظام روما الأساسي. وهي ليست محكمة تابعة للأمم المتحدة، ولكنها تضم العديد من دول الأمم المتحدة كأعضاء. ورغم أنها لا تضم الولايات المتحدة، أو الصين، أو روسيا، أو أوكرانيا، فقد اعترفت أوكرانيا باختصاصها القضائي بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014. ويمكن للمحكمة الجنائية الدولية، في ظل ظروف معينة، مقاضاة الأفراد على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية المرتكبة في أي مكان في العالم. في عام 2017، أدرجت المحكمة “جريمة العدوان” أيضاً ضمن قائمة الجرائم التي تدخل في اختصاصها، إلا أنها تبقى جريمة لا يمكن مقاضاتها إلا في ظل ظروف تقييدية. ومع أن المحكمة الجنائية الدولية يمكنها إصدار أوامر توقيف دولية بحق أفراد، إلا أنها تعتمد على الدول الأعضاء لتوقيفهم. وليس لديها قوة شرطة خاصة بها.
المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان رابط خارجي
يقع مقرها في ستراسبورغ في فرنسا. ولا يجب الخلط بينها وبين محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبيرابط خارجي التي تتخذ من لوكسمبورغ مقراً لها. أُنشئت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ECHR في عام 1959. وهي تحكم في الطلبات الفردية أو الحكومية بناء على ما جاء في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي صادقت عليها كل من روسيا وأوكرانيا. ورغم أن القرارات التي تصدر عن هذه المحكمة هي قرارات ملزمة، إلا أنها لا تمتلك آلية للتنفيذ.
المحكمة الجنائية الدولية تقوم بفتح تحقيق
ومن الجدير بالذكر أن كلاً من روسيا وأوكرانيا ليستا دولتين عضوتيْن في المحكمة الجنائية الدولية، لكن أوكرانيا قبلت الاحتكام إلى سلطتها القانونية بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014. وتستطيع المحكمة بموجب صلاحياتها ملاحقة الأفراد ومحاكمتهم بتهمة الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. وفي عام 2017، شملت صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية أيضاً البت بجريمة العدوان، لكن وفقاً لشروط تقييدية: لا يُمكن للمحكمة مقاضاة هذه الجريمة إلا إذا كانت كلتا الدولتين المعنيتين أعضاء في المحكمة، وهذا الأمر لا ينطبق على كلا الدولتين روسيا وأوكرانيا، أو إذا كانت هناك إحالة لجريمة عدوان من قِبَل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث تتمتع روسيا بحق النقض (الفيتو). ولذلك، وفي قضية الصراع بين روسيا وأوكرانيا، فإن المحكمة الجنائية الدولية لا يُمكنها إلا ملاحقة ومقاضاة مرتكبي الجرائم الأخرى من قِبَل الطرفين.
ومن الواضح أن بوتين هو المُذنب لأنه قام بالعدوان، كما يقول ساسولي، لكن عملية إثبات ارتكاب جرائم الحرب من قِبَل طرف ما من أطراف النزاع ليست بهذه السهولة، حيث يتعيّن إثبات وجود صلة مباشرة بين الفرد المرتكب واستهدافه المتعمّد للمدنيين. في هذه الحرب، قد يكون الأمر معقداً أكثر بسبب حقيقة أن حكومة أوكرانيا قامت بتشجيع المدنيين على صنع متفجرات محلية الصنع للتصدي للعدوان الروسي. وفي تصريح لـ swissinfo.ch، قال ساسولي إنه إذا قام الأوكرانيون المدنيون بإلقاء هذه المتفجرات على الجنود الروس، فسيُصبحون حكماً أهدافاً مشروعة للهجوم المضاد من قِبَل الطرف الآخر، بموجب القانون الدولي الإنساني. كما أن أوكرانيا هي الأخرى، تنتهك أيضاً القانون الدولي الإنساني من خلال استعراض مواكب أسرى الحرب الروسرابط خارجي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
بيد أنّ، هناك تقارير تفيد عن استهداف روسيا للمباني السكنية، واستخدام أسلحة محظورة وشن هجمات في محيط تواجد المنشآت النووية، الأمر الذي قد يتسبّب بحدوث كارثة انسانية أكبر. كما كانت هناك أيضاً مزاعم عن حدوث عمليات اغتصاب قام بها جنود روس. ولا شك أن اللاجئين الأوكرانيين (الذين وصلت أعدادهم إلى أكثر من مليونيْ ونصف المليون نسمة) سيروون الأحداث التي مروا بها وقصص معاناتهم الشخصية، وسيُدلون بشهاداتهم أيضاً أمام المحاكم.
ووفقاً لفاسيليف، فإن المحكمة الجنائية الدولية تتحرك حتى الآن “بوتيرة بطيئة جداً” في أوكرانيا. ففي عام 2014، كانت قد فتحت “تحقيقاً أوّليّاً ” بشأن ما يجري في أوكرانيا، لكنها لم تجعله حتى اليوم من أولويات قضاياها. ولكن، إبان الإعلان عن الشروع في إجراء تحقيق بشأن الحرب الروسية- الأوكرانيةرابط خارجي في 28 فبراير 2022، أعرب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان عن قناعته بوجود “أساس منطقي يحدو إلى الاعتقاد بأن كلاً من جرائم الحرب المزعومة والجرائم ضد الإنسانية قد ارتكبت في أوكرانيا”، وأنه سيتم الآن توسيع التحقيق ليشمل جميع مناطق البلاد الأوكرانية. كما ناشد الدول الأعضاء من أجل توفير المزيد من الموارد للمحكمة، قائلاً “إن مهمتنا مسألة مهمة وملحّة، والقيام بها هو أمر في غاية الدقة، حيث لا يُمكن جعلها رهينة الافتقار إلى الموارد اللازمة”.
وبحسب فاسيليف، فإن المحكمة الجنائية الدولية لديها محققون يتواجدون في منطقة النزاع فعلياً، ولكن ليس واضحاً بعدُ ما إذا كانوا يعملون في دول مجاورة للحرب مثل بولندا، حيث يصل اللاجئون، أو على الأراضي الأوكرانية نفسها. ويعتبر ساسولي أن تواجد هؤلاء المحقّقين على أرض الواقع قد يمثّل فرصة للمحكمة الجنائية الدولية لتعزيز مصداقيتها، لكنها يجب أن تكون حذرة أيضاً في عملها؛ فإذا مضت التحقيقات بوتيرة سريعة في مسألة أوكرانيا، واستمرت في نفس الوقت في التباطؤ في مسائل غزة أو أفغانستان أو جورجيا، على سبيل المثال، فسوف يتم اتهام المحكمة بتعرّضها لضغوط من القوى الغربية، مما قد يضع مصداقيتها على المحك.
هل يُمكن اعتقال بوتين؟
رداً على سؤال حول جرأة المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يجيب ساسولي بأن المحكمة أبدت من خلال أدائها في الماضي شجاعة كبيرة: فالتحقيق الذي قامت به في أفغانستانرابط خارجي، على سبيل المثال، يتضمن جرائم مزعومة طالت القوات الأمريكية والقوات المتحالفة في ذلك البلد. لكنه مع ذلك يعتقد أنه من الأرجح أن تكون جرائم الحرب التي من الأسهل إثباتها هي الجرائم التي ارتُكبت من قِبَل “المجندين الروس البائسين” الذين، كما فهمنا، صدّقوا الدعاية الروسية التي روّجت بأنهم قادمون لتحرير أوكرانيا من الإبادة الجماعية.
ويعتقد فاسيليف بإمكانية أن تصدر يوماً ما مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بحق بوتين، وربما تكون هذه المذكّرة قد صدرت سراً، ولم يُفصح عنها خوفاً من تفاقم الوضع على الأرض. لكنه أعرب لـ swissinfo.ch عن وجود مشكلة أخرى بشأن بوتين. فبصفته رئيساً لدولة ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، يتمتع بوتين بحصانة دبلوماسية تضمن له عدم الملاحقة والاعتقال، لذلك ترى المحكمة الجنائية الدولية نفسها عاجزة عن إصدار طلب للدول الأعضاء بالقبض عليه. أضف إلى ذلك أن المحكمة الجنائية الدولية ليس لديها قوة عسكرية من رجال شرطة وتعتمد في تنفيذ الاعتقالات على سلطة الدول الأعضاء.
لذلك، فإذا اضطر بوتين إلى العودة إلى جنيف لإجراء محادثات سلام، فمن المحتمل ألا يتم اعتقاله. ويعتقد فاسيليف أنه من غير المُرجّح أن يتم اعتقال بوتين حتى يغادر منصبه أو يُجبر على تركه.
الولاية القضائية العالمية ولجان التحقيق
بالرغم مما تقدّم، من المرجّح أن يتوخّى بوتين والوفد المرافق له الحذر لجهة اختيار الأماكن التي قد يُسافرون إليها بسبب مبدأ “الولاية القضائية العالمية“. إذ يُمكن للدول (بما في ذلك سويسرا) التي أدرجت هذا المبدأ في تشريعاتها اعتقال الجناة المشتبه في ارتكابهم جرائم دولية (الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب) لدى تواجدهم فوق أراضيها ومحاكمتهم أمام المحاكم المحلية. كما أدرجت هولندا جريمة العدوان في إطار هذا المبدأ.
ويقول ساسولي إن أفراد نظام الأوليغارشيا الحاكمة في روسيا قد لا ينتابهم الشعور بالأمان عند السفر إلى بلدان معينة، أو لدى قيامهم بإرسال أولادهم إلى مدارس سويسرية أو عند القدوم لممارسة التزلج هنا – خوفاً من التعرض للاعتقال في يوم من الأيام. يبقى أن ننتظر ما سيحدث، لكن الوضع برمّته يلقي مزيداً من الضغط على كاهل الرئيس الروسي.
في غضون ذلك، صوّت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف خلال اجتماعه في الأسبوع الأول من شهر مارس الجاري لفائدة تشكيل لجنة تحقيق مؤلفة من ثلاثة أعضاء للبحث في انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي في أوكرانيا. وتتمثل مهمة هذه اللجنة في التحقيق وتحديد “الأفراد والكيانات” الذين يتحمّلون مسؤولية ارتكاب هذه الانتهاكات، وضمان المحافظة على الأدلة الجنائية تمهيداً “للإجراءات القانونية المستقبلية”. إن مجلس حقوق الإنسان ليس محكمة، ولكن بإمكانه المساعدة على الاستفادة من الإجراءات القانونية. ونذكر هنا أن منظمة الأمن والتعاون في أوروبارابط خارجي هي الأخرى تقوم بالتحقيق في هذه الانتهاكات.
وبالنظر بشكل خاص إلى أن موارد وولاية المحكمة الجنائية الدولية لا تسمح لها أبداً بتولي أكثر من بضع قضايا عالية الحساسية، يعتقد فاسيليف أن هناك حاجة الآن إلى تضافر الجهود في هذا الشأن. وكتب مؤخراً في مدونةرابط خارجي له: “يتوجّب على الجهات المسؤولة عن المساءلة توحيد الجهود الهادفة إلى جمع ومعالجة أدلة الجرائم الأساسية في أوكرانيا. عجلات العدالة تطحن ببطء لكنها بدأت بالدوران. هذه ليست مجرد مقولة نعزّي بها أنفسنا، بل دعوة للعمل”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.