أيّ دور لـ “أصدقاء سويسرا” في بروكسل؟
في ظل التركيز المفرط على استراتيجيتها وتجاهل التطور الذي طرأ على موازين القوى داخل الاتحاد الأوروبي، دخلت سويسرا في مأزق مع الاتحاد الأوروبي. وبالفعل، كشفت زيارة وزير الخارجية الأخيرة إلى بروكسل أن حل الأزمة القائمة بين الطرفين لا يبدو وشيكا.
تتمتع سويسرا اليوم بسمعة راسخة في أوساط القرار الأوروبية. فهي ترغب في المشاركة في السوق الموحدة لكن مع الحفاظ على استقلالها السياسي والقانوني. أو بعبارة أخرى، أن تختار ما يُناسبها (أو اتباع منهجية “قطف حبات الكرز”)، كما يقولون في بروكسل. في مايو الماضي، وضعت الكنفدرالية حدا للمفاوضات التي كانت جارية منذ سنوات بشأن إبرام اتفاقية إطارية مع الاتحاد الأوروبي. لكن – وفقا لرأي الكثيرين في سويسرا – ينبغي مع ذلك تسوية العلاقات مع بروكسل على المدى الطويل، على أساس النوايا الحسنة بين الطرفين.
في الخامس عشر من نوفمبر الجاري، أدى وزير الخارجية إينياتسيو كاسيس زيارة إلى بروكسل، حيث التقى بالمسؤول الجديد عن الملف السويسري في الاتحاد الأوروبي، وهو السيد ماروش شيفوفيتش، نائب رئيس المفوضية الأوروبية. أما الهدف المُعلن من اللقاء فيتلخص في “تحديد المواقف”. فعلى إثر انهيار الاتفاق الإطاري المؤسساتي بين الطرفين، أصبحت العلاقات السويسرية بالاتحاد الأوروبي في وضع متأزم. فالاتحاد الأوروبي يرى أن سويسرا تستفيد فقط من مزاياه، بينما تتهم سويسرا الاتحاد الأوروبي بانتهاج سياسة التنغيص المستمر.
جدير بالذكر أن علاقة سويسرا بالمفوضية الأوروبية بصفة خاصة شهدت الكثير من التخبط. ومع أن المفوضية قادت المباحثات مع سويسرا بتكليف من الدول الأعضاء، إلا أنها أبدت تعنتاً، حتى وإن كانت الدول نفسها تظهر بصورة أكثر وداً.
هل تنتقد إذن بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي سياسة المفوضية الأوروبية تجاه سويسرا؟ “لا أعتقد أنني أرى الأمر بهذه الصورة”، يقول فابيو فاسرفالن، أستاذ السياسة الأوروبية بجامعة برن. صحيح أنه قد صدرت عبارة من هنا أو من هناك، مفادها أن المفوضية الأوروبية كان من الممكن أن تكون أكثر مرونة، لكن هذا جاء تعقيباً على عدم تحرك سويسرا بالدرجة الكافية.
فتور العلاقات مع فرنسا
في سياق متصل، تتفاوت علاقات الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي مع سويسرا. حيث نجد أن الدول الحدودية (ألمانيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا) تهتم بإقامة علاقات قوية مع سويسرا. إذ تدافع ألمانيا والنمسا عن سويسرا بصفة عامة، إلا أن فرنسا من جانبها تبدو متزمتة تجاه جارتها الشرقية بصورة تسترعي الانتباه.
“تاريخياً، كانت العلاقات بين برن وبرلين أقوى من تلك التي تربط كل من برن وباريس”، مثلما يوضح المؤرخ باستيان نانتشو، الذي ألف كتاباً حول الصداقة التي ربطت الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران بسويسرا. فقد شهد عهد ميتران حصرياً، وصول العلاقات الفرنسية السويسرية إلى درجة من القوة التي جعلتها تشابه العلاقات المتميّزة بين برن وبرلين، بل وتنافسها أيضاً.
إلا أن هذا “العصر الذهبي للعلاقات الفرنسية السويسرية” قد ولى منذ أمد بعيد. “فقد فقدت هذه العلاقات بريقها”، على حد قول السيد نانتشو. لكنه لا يريد الحديث عن تدهور العلاقة مؤخراً، برغم ذلك: “فإن وأد الاتفاق الإطاري من قِبل الحكومة الفدرالية في مايو 2021، قد أثار بلا شك موجة من عدم التفهم والإحباط في فرنسا”. وقد أدى هذا التطور إلى زحزحة سويسرا إلى قائمة “دول المرتبة الثالثة”، التي ترتبط بها باريس بعلاقات طيبة، لكنها لا تشكل بالنسبة لها أهمية خاصة.
من جانبه، يسوق السيد فاسرفالن سبباً آخر لتحفظ فرنسا تجاه سويسرا: “إن فرنسا دولة مركزية، ولديها رؤية فرنسية شاملة”، أما ألمانيا فتتعامل بصورة أكثر فدرالية. “فمقاطعة بادن فورتمبرغ [التي تعد نفسها وسيطاً بين سويسرا والاتحاد الأوروبي – المحرر]، يمكنها التعبير عن نفسها داخل ألمانيا بصورة أفضل مما يمكن أن يقوم به ممثلو منطقة حدودية فرنسية في باريس”.
فضلاً عن ذلك، فقد تخطت سويسرا فرنسا في قرارات شتى تتعلق بالاستيراد، “وبحكم أن فرنسا تنظر إلى الأمر بنظرة الدولة: لذلك فإن قرار سويسرا بشراء طائرات حربية فرنسية من عدمه، ينعكس بقوة على العلاقة بين الدولتين”، على حد قول السيد فاسرفالن.
رؤية منقسمة للاتحاد الأوروبي كرابطة دولية
على صعيد آخر، فإن علاقة سويسرا بشرق أوروبا، تعد أكثر تناقضاً. فهذه الدول لا تُعتبر معتدلة بالقدر الكافي من وجهة نظر سويسرا.
ولكن إذا ما دققنا النظر، فإننا نجد أن بولندا والمجر على الأقل تتشابه مع سويسرا في فلسفتها: فسواء هنا أم هناك، يُوجد إصرار على التمسك بالسيادة ورفض لأولوية سريان القانون الأوروبي والأحكام الأوروبية بصفة عامة على التشريعات الوطنية.
ومما يسترعي الانتباه احتفاء اليمين السياسي في سويسرا بهذه التشابهات أيما احتفاء، فعلى سبيل المثال هناك تكتل برلماني يطلق على نفسه اسم “سويسرا-المجر”، يرى أن سويسرا يُمكنها استلهام موقف المجر، مثلما يصرح مؤسسه، أندرياس غلارنر، النائب عن حزب الشعب السويسري (يمين محافظ)، لجريدة “آرغاور تسايتونغرابط خارجي” (تصدر بالألمانية من مدينة آراو)، حيث تحدث عن “مقاومة سلب الدول القومية لسلطتها”. من ناحية أخرى، بدأت أصوات من اليسار تتعالى أيضاً، بشكل قد يبعث على التصادم. ذلك أن الأحزاب اليسارية تتصدى حالياً للتمويل الزائد لحماية الحدود الأوروبية، وهي تُعَرِّض سويسرا بذلك لاستبعادها من اتفاقية شنغن-دبلن.
بناءً على سؤال وجهه لها موقع swissinfo.ch، بدت الحكومة المجرية منفتحة للغاية على سويسرا وكتبت: “إن كلا البلدين تتشاركان في رؤيتهما لأوروبا قوية تقوم على دول قومية قوية وذات سيادة. وبرغم أسفنا على قرار سويسرا (المتعلق بالاتفاق الإطاري – التحرير)، إلا أن المجر تحترمه تماماً”. إذن فالمجر تتماهى لأبعد حد مع سويسرا في رغبتها في الحفاظ على سيادتها.
أما الدول التي انضمت مؤخراً لعضوية الاتحاد الأوروبي، فإنه يصعب عليها ـ وفقاً لفاسرفالن ـ تفهّم السبب الذي يضطرها إلى قبول قوانين الاتحاد الأوروبي بالكامل، بينما تحصل سويسرا بموجب اتفاقياتها الثنائية على نموذج خاص. “إنها لا تريد أن تحصل سويسرا على أكثر مما حصلت هي عليه. لذلك فإنها تبدو أقل تفهّماً في هذا الشأن”، على حد قول السيد فاسرفالن.
تحسين صورة الكنفدرالية من خلال مليار الارتباط
في هذا السياق، نجد أن مبلغ مليار يورو الذي ساهمت به سويسرا في ارتباط الدول العشر التي انضمت مؤخراً لعضوية الاتحاد الأوروبي – على هيئة مشروعات مولتها سويسرا في هذه البلدان – قد أدى إلى صقل صورة الكنفدرالية في أوروبا الشرقية. ففي عام 2012، صرح جورج دوبروفولني، الرئيس التنفيذي ورئيس وفد منتدى الشرق والغرب آنذاك لموقع swissinfo.chرابط خارجي: “لقد اختارت سويسرا أصعب مناطق في شرق أوروبا، وانخرطت فيها بمساهمة مُعتبرة”، مضيفا أن “سويسرا كانت ولا تزال تتمتع بسمعة أفضل من بروكسل في هذه الدول”، كما أكد دوبروفولني.
كذلك كان لدول شرق أوروبا حظ وافر من المليار الثاني الذي دفعته سويسرا لتعزيز ارتباط الدول حديثة العضوية بالاتحاد الأوروبي. بل إن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى ترسيخ مساهمات منتظمة من سويسرا في مذكرة تفاهم جديدة. “إلا أن هذه المساهمات التي تدفعها سويسرا لتعزيز ترابط الاتحاد الأوروبي لا تُحسّن موقف دول شرق أوروبا من الكنفدرالية تلقائياً”، كما يلخص السيد فاسرفالن. بل على العكس، فموقف هذه الدول منها أصبح موقف المطالبة بحقوق، مثلما هو الحال تجاه أموال الاتحاد الأوروبي.
الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي لا تفهم سويسرا
أما الأمر الثابت فهو أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يُمكنها فقط تقديم المساعدة لأجل حلحلة الوضع المتأزم بين بروكسل وبرن إذا ما فهمت هذه الدول سويسرا ومواقفها. وفي هذا الخصوص، لا يشعر كلّ من الأستاذ فاسرفالن، والسيد نانتشو بالتفاؤل.
من جهته يفسر السيد فاسرفالن عدم تفاؤله بقوله: “إن بروكسل لا تدرك المنظور السويسري”، ذلك أن “الاتحاد الأوروبي ليس ملماً بالنتائج المترتبة على التفاوت الهائل في الأجور بالمناطق الحدودية في سويسرا” حيث يعتقد أن هذا الموضوع كان ينبغي أن يُعالج بصورة أكثر إبداعاً. كما يرى فاسرفالن وجود مصدر آخر لسوء الفهم، ويتمثل في امتلاك معظم الدول العضوة بالاتحاد الأوروبي لأنظمة تنفيذية أكثر ثباتاً. “لذلك فإن هذه الدول لا تتفهم اضطرار الحكومة السويسرية إلى وأد الاتفاق الإطاري، لأنها كانت مُدركة أنها لن تتمكن أبداً من تمريره في إطار سياستها الداخلية. إذ يتوجّب على سويسرا أيضاً تخطي عقبة المبادرة الشعبية، وهذا أمر استثنائي في الاتحاد الأوروبي”.
أما السيد نانتشو، فقد صرح أن “الجارة الصغرى” سويسرا لا تحظى بالكثير من التفهم من قِبل باريس. حيث أن “تداول رئاسة الدولة داخل الحكومة الفدرالية، والنظام الفدرالي، وتعدد اللغات، تُعدّ جميعها ظواهر سياسية تميّز سويسرا عن النظام السياسي الفرنسي، شديد المركزية”. وحده فرانسوا ميتران حاول فهم الكيفية التي تُدار بها السياسة في سويسرا.
إلا أن رفض سويسرا الانضمام لعضوية المجال الإقتصادي الأوروبي (في استفتاء أجري يوم 6 ديسمبر 1992 – التحرير) كان بمثابة صدمة حقيقية لميتران، صديق سويسرا. لذلك فإن “قطع مباحثات الاتفاق الإطاري قد أعاد للأذهان مرة أخرى هذه الأحداث التعيسة التي وقعت عام 1992”.
في نهاية المطاف، تُعتبر سويسرا بالنسبة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي صندوقاً أسود ـ فلا أحد يعرف ما الذي تريده، كما إن ما تريده يفاجئ الجميع. لذلك، لا ينبغي على سويسرا التعويل على إسداء الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي الكثير من العون لحلحلة هذا الوضع المتأزم.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.