“إذا حافظنا على أساليبنا التقليدية، فإن التكنولوجيا ستتجاوز سياستنا العامة”
سيقوم أمانديب جيل، مبعوث الأمم المتحدة الجديد المعني بشؤون التكنولوجيا، بالعمل مع البلدان والشركات الخاصة والمنظمات غير الحكومية، من أجل جعل التقنيات مصدرا لفرص التقدّم من دون أن تكون لها تداعيات سلبية على العالم.
بينما كنا نجلس للتحدث في وقت متأخر من بعد ظهر الخميس منتصف يوليو، كان أمانديب جيل يهمّ بالانتقال إلى العمل في وظيفة أخرى. فمكتبه السابق في مبنى “بيت السلام” Maison de la Paix، مقر معهد الدراسات العليا في جنيف، أصبح فارغاً تقريباً، ولم يتبقّ في الغرفة سوى عدد قليل من الصناديق المليئة بالكتب. وفي 18 يوليو 2022، بدأ جيل ممارسة مهامه في منصبه الجديد كمبعوث للأمم المتحدة لشؤون التكنولوجيا في نيويورك المعيّن حديثا.
في وقت سابق، كان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد عيّن جيل لتولي قيادة ومرافقة منظمة الأمم المتحدة في تحوّلها إلى العصر الرقمي. وعلى الرغم من أن جيل ليس على الإطلاق أول مبعوث تقني للأمم المتحدة على المستوى الفني (تم إنشاء هذه الوظيفة في عام 2021، لكن عقديْ عمل سلفَيْه كانا إما لفترة قصيرة أو مؤقتة)، إلا أن كل شيء لا يزال في انتظار قدومه تقريبا. قد تبدو المهمة التي تواجه جيل وفريق مكتبه شاقة، لكن المبعوث الجديد واثق من نفسه. “أنا متحمس بالطبع، ويشرّفني أيضاً أن توكل إليّ هذه المهمة. أنا لست قلقاً، فلدي الخبرة الكافية في ممارسة هذه المهمة”. على حد تعبيره.
كونه مهندساً ودبلوماسياً في الوقت ذاته، استطاع جيل أن يرتقي إلى العمل في وظيفة فريدة من نوعها. وهو يوضح تنوع ما يسمى بالنظام البيئي الدولي لجنيف، حيث من المرجح أن تتفاوض مجموعة من الخبراء على حظر الروبوتات القاتلة، ومناقشة اسهامات الذكاء الاصطناعي في التشخيص المبكّر لمرض السرطان. منذ وصوله إلى جنيف، المقرّ الأوروبي للأمم المتحدة في عام 2016، شارك جيل عملياً في كل هذه المناقشات ذات الصلة وساهم في نشاطات عديدة.
مركز تنسيق للتقنيات
مع تصدّر المسائل المتعلّقة بالتقنيات الرقمية جداول أعمال الحكومات في جميع أنحاء العالم، يعتبر جيل – مبعوث الأمم المتحدة المعني بشؤون التكنولوجيا – أنه ” من الطبيعي أن تفكر الأمم المتحدة في إنشاء مركز تنسيق “من أجل مواكبة التطورات التكنولوجية وتأثيرها على عمل المنظمة، سواء تعلق الأمر بمسائل السلام والأمن أو بمسائل حقوق الإنسان أو التنمية”. لكنه يشير أيضاً إلى أن “مجالات العالم الرقمي، على عكس العالم المادي الحسي، لا تعرف حدوداً”. يقول جيل: “إن ضمان أن تكون التقنيات الرقمية ذات فائدة للعالم بأسره، أو الحؤول دون إساءة استخدامها، مهمة تتطلّب تعاونا دولياً، وستقوم بها الأمم المتحدة ومبعوثها الجديد”. ويضيف: “الأمم المتحدة هي المؤسسة الأولى في المجتمع الدولي القادرة على الإشراف على تعاون متعدد الأطراف. إنها المنتدى الأكثر عالمية؛ فهي تتيح فرصة لكل بلد، للتصويت على القرارات المزمع اتخاذها، وتؤدي دورها المحايد خلال المناقشات والاجتماعات”.
وفي معرض حديثه عن الفترة التي قضاها في جنيف، يقول المبعوث الجديد لشؤون التكنولوجيا إنه تعلم النظر إلى ما هو أبعد من “الطرق التقليدية للنهوض بالمعايير”؛ ففي حين تُعَد أدوات التعاون الدولي، مثل المعاهدات والاتفاقيات، سبلاً رائعة للتوصل إلى اتفاقيات بين الأطراف المتعددة، إلا أنها تتطلب الكثير من الوقت. “أما في العالم الرقمي، فالأمور تتحرك بوتيرة سريعة جداً” كما يقول. ويضيف: “إذا حافظنا على أساليبنا التقليدية، فإن التكنولوجيا ستتجاوز سياستنا العامة”. ويرى جيل أن هناك حاجة إلى أن نكون أكثر مرونة، ولدينا القدرة على استباق التطوّرات في عالم التكنولوجيا، وأن نعتمد على مزيج من المعايير غير الملزمة كالتوصيات، والنصوص الملزمة قانوناً كالمعاهدات المبرمة. كما يعتبر أنه من المهم أيضاً العمل على مشاركة ممثلين عن المجتمع المدني والقطاع الخاص من خارج المجالين السياسي والدبلوماسي. “نحتاج بشكل خاص إلى إشراك العاملين في مجال التكنولوجيا لأن الفضل يعود لهم في بناء التكنولوجيا. وفي كثير من الأحيان، فإن هؤلاء العاملين لا يقصدون إلحاق الأذى بأيّ كان، لكنهم لا يدركون دائماً كل العواقب التي قد تخلّفها التكنولوجيا”.
المبادئ المشتركة
من المتوقع أن تنبثق أداة حكم جديدة عن مؤتمر “قمة المستقبل” المزمع عقده في نيويورك خلال العام المقبل، والذي من المتوقع أن تشارك فيه الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة. وسوف يكون هذا المؤتمر بمثابة إبرام اتفاقية، تسمى الميثاق الرقمي العالمي، تحدد “المبادئ المشتركة لمستقبل رقمي مفتوح وحر وآمن للجميع”، كما يأمل أنطونيو غوتيريش.
ويرى المبعوث الجديد لشؤون التكنولوجيا أن هناك حاجة ماسة لإبرام هذه الاتفاقية، مشيراً إلى أنه لا يوجد اليوم نهج واحد مشترك معني بإدارة التقنيات الرقمية. وفي حين أن بعض البلدان، مثل الصين مؤخراً، أو الاتحاد الأوروبي، قد تبنت تشريعات من أعلى إلى أدنى، فإن دولاً أخرى، مثل الولايات المتحدة، سمحت للقطاع الخاص بقيادة الأطر الناظمة لهذه التقنيات من خلال معايير الصناعة. وبحسب جيل، فإن هذه الثنائية مربكة للعديد من البلدان “التي تكافح من أجل إدارة التحول الرقمي”، وهو يأمل أن يصبح الاتفاق “الوثيقة المرجعية” لإدارة التحول الرقمي.
ويوضح قائلاً: “إن وجود رؤية مشتركة، وفهم موحّد؛ وإدراك واضح لما يمكن أن يطرح مشاكل في المستقبل، وما هي الفرص المختلفة التي يتيحها، كل ذلك من شأنه أن يرسل إشارات إلى الحكومات، وإلى مستثمري القطاع الخاص حول كيفية التعاطي مع مجالات عمل معينة، واعتماد بعض الطرق الجيدة لنشر التقنيات الرقمية”. ويؤكد على أهمية هذه المسألة، لاسيّما في هذا الوقت الذي يتخلف فيه العالم عن جدول أعمال الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030، كما يقول.
لكن جيل لا يرى في الميثاق المبرم غاية بحد ذاته. بل يأمل بالأحرى، أن يكون الميثاق بمثابة أساس لتنظيم اجتماعات دورية في الأمم المتحدة تضم الدول الأعضاء، وكذلك الجهات الأخرى الفاعلة في المجال الرقمي – التي تشمل الشركات الخاصة والأكاديميين وأعضاء المجتمع المدني. كما يرى أن من شأن “الضغط الناعم” المتمثل في الخضوع لرقابة الأعضاء الآخرين أن يساعد في ضمان “فهم تلك المبادئ والتطلعات وسمات الميثاق وتطبيقها، وإذا كانت هناك صعوبات ما، فيمكننا مناقشة كيفية معالجتها”، على حد تعبيره.
التحديات
يدرك جيل تمام الإدراك أن التقنيات الرقمية تطرح الكثير من التحديات؛ فعلى سبيل المثال، في السنوات الأخيرة، تم استخدام شركات وسائل التواصل الاجتماعي، بخوارزمياتها المبهمة، للتأثير على مجرى الانتخابات، ولتعزيز ممارسات القمع لدى الحكومات الاستبدادية. لكن في الوقت نفسه، أتاحت هذه التقنيات الفرصة للمستخدمين للإدلاء بآرائهم وإيصال أصواتهم كسبيل وحيد لذلك. كما أن استخدام التقنيات الرقمية من قبل الحكومات لا يخلو بدوره من وجود بعض المشاكل. إن استخدام هذه التقنيات يسمح بالتعرف على الوجوه، على سبيل المثال، وهذا الأمر جيد إذا كان الهدف جمع شمل الأطفال المفقودين مع عائلاتهم. ولكن، عندما يتم استخدام نفس هذه التكنولوجيا لتحديد سمات الأقليات العرقية وتقويض حقوق الإنسان الخاصة بهم، فإن هذه التقنيات تطرح أكثر من سؤال.
ويقول جيل: “إن مسألة إيجاد هذا التوازن الدقيق في استخدام هذه التقنيات، هو الدور الذي ينبغي على الأمم المتحدة أن تقوم به”؛ حيث يمكن للأمم المتحدة، كوسيط محايد، أن تشير إلى المخاطر والأضرار المحتملة لاستخدام تقنية ما. ويوضّح: ”نحن هنا لا نتحدّث عن التوجهات الأيديولوجية لمختلف البلدان، بل عن قضايا تتعلق بحقوق الإنسان […] لذا ينبغي على منظمة الأمم المتحدة أن تقوم بدور حاسم في تسليط الضوء على مثل هذه القضايا “. ويضيف قائلاً إنه يتوجّب على الأمم المتحدة العمل مع الحكومات، ولكن عليها ألا تغفل عن التعاون أيضاً مع القطاع الخاص والمجتمع المدني حتى يكون الفضاء الرقمي “شاملا” و “آمنا للجميع”.
التقنيات “المتمحورة حول الإنسان”
يقول جيل إنه من المستحيل تحديد قضية واحدة بحيث يعتبرها مكتبه من أولويات البحث. “في هذه المساحة عليك أن تزرع حديقة متنوعة” على حد تعبيره؛ فمع تقدم البلدان المختلفة إلى مراحل متفاوتة من التحول الرقمي، تتباين احتياجاتها وتحدياتها تبايناً كبيراً.
ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة، هناك ما يقرب من نصف سكان العالم، معظمهم من النساء والمواطنين في البلدان النامية، ممن لا يزالون دون اتصال بخدمة الإنترنت. وبما أنه لم يكن بوسع هؤلاء، غير المتصلين بشبكة الإنترنت، العمل أو التعلم بشكل افتراضي، فلقد أثرت تداعيات وباء كوفيد -19 تأثيراً بالغاً على حياتهم ومعيشتهم. ويمكن اعتبار العمل على سد الفجوة الرقمية التي يعانون منها، أولوية. في هذه الأثناء، تقوم البلدان المتقدمة بالتصدي لقضايا متعلقة بخصوصية البيانات والمعضلات الأخلاقية للسماح للآلات باتخاذ قرارات معقدة بشكل متزايد.
أمّا على المستوى الشخصي، فيقر المبعوث الجديد لشؤون التكنولوجيا بأن شبكات العوالم الافتراضية ثلاثية الأبعاد “الميتافيرس” – كالشبكات الاجتماعية القائمة على الواقع الافتراضي على سبيل المثال – تثير قلقه، لا سيما فيما يتعلق بالخصوصية وحقوق الإنسان والفاعلية البشرية. ويتساءل قائلاً: “كم من الوقت نقضيه في البحث في قضايا العالم الحقيقي، ودراسة مشاكلنا المتشابهة، مقابل ما نقضيه في العيش في عالم الخيال؟” ويستطرد: ” قد تكون هناك تحولات مجتمعية ربما لم نعطها حق قدرها من التفكير الكافي، لكن التفكير في هذه المخاطر لا يعني التخلي عن الابتكار وإغفال الإمكانات التجارية لهذه التكنولوجيا”.
ويأمل جيل في المستقبل أن تقوم البلدان بإطلاق مبادرات تجمع الموارد الرقمية – مجموعات البيانات، والخوارزميات، وما إلى ذلك – بغية إحراز تقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة المتعلقة، على سبيل المثال، بالصحة أو الأمن الغذائي أو التحول الأخضر. كما يأمل أيضاً أن يشهد تحوّلاً في نهج التكنولوجيات بحيث يكون ” محورها الإنسان” أكثر من أي شيء آخر، وتسمح للبشر بالاحتفاظ “بكرامتهم، وبفاعليتهم البشرية وبحقوقهم”.
“في المستقبل، إذا كان بإمكاننا يوما تقييم إنجازاتنا والقول: “آه ، لقد وصلنا إلى منعطف أدركنا عنده أننا بحاجة إلى المزيد من التقنيات الرقمية التي تجعل خدمة الإنسان محورها، مع توخي الحذر بشأن فقدان الفاعلية البشرية”، فسأكون في غاية السعادة. “
تحرير: إيموجين فولكس
ترجمة: جيلان ندا
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.