“التحالف بين الإسلاميين والعِلمانيين ضرورة إستراتيجية”
عزيز كريشان، مثقف يساري تونسي منذ سبعينيات القرن الماضي، وكان من بين أبرز قيادات الحركة الطلاّبية ومن بين الذين شاركوا في تأسيس حركة آفاق. عاش معظم حياته خارج تونس، بسبب الأحكام الغيابية التي صدرت ضدّه. ولم يكن شخصية مرغوبا فيها خلال مرحلة بن علي.
بعد الثورة، قادته الآمال العريضة والحريات الواسعة ليعود إلى تونس، ويلتقي بالدكتور محمد المنصف المرزوقي ويصبح مستشاره السياسي. في هذا الحوار الخاص مع swissinfo.ch يتعرّض عزيز كريشان لمسألة تشغل اليوم النّخب والمهتمّين بقضايا التحوّل الديمقراطي في العالم العربي، وخاصة داخل دول ما سُمي بالربيع العربي. كما أن كريشان يقدم في هذا الحوار شهادته عن مرحلة صَعبة من مسار الثورة التونسية، يُـنشر بعضها لأول مرة .
swissinfo.ch: بعد أربع سنوات، ماذا بقي من الحدث الذي أطلقنا عليه كلمة “ثورة”؟
عزيز كريشان: سؤالكم هو موضوع الكتاب الذي أنا بصدد تأليفه هذه الأيام. والإشكالية ليست مطروحة الآن بعد أربع سنوات، ولكنها كانت مطروحة منذ اللّحظات الأولى. عندما نُلقي نظرة على التطورات التي حصلت بين 17 ديسمبر 2010 و14 يناير 2011، نلاحِظ بأن الأحداث بدأت بانتِفاضة شعبية التي بدَت وكأنها عملية مخطّطة، وكشفت أن تونس منقسِمة على شطريْن، الجزء المُهيْكل الذي يخضع للإدارة، وجزء آخر يشمَل المناطق الداخلية التي انطلق منها الاحتجاج، قبل أن يتحول إلى الأحزمة المحيطة بالمدن الكبرى، وفي مقدمتها العاصمة، وخاصة أحياءها الشعبية، قبل أن يعُم العمّال والموظفين ومعظم الشرائح الاجتماعية. وهنا تجدُر الإشارة إلى اتّحاد الشغل الذي لعِب دوْرا في هذا السياق. ومع التحاق الطبقة الوسطى، اكتسبت هذه الانتفاضة بُعدها الوطني.
وخلال هذه الأسابيع الأربعة، لم يقم أي حزب أو قيادة سياسية بلعب دوْر بارز في هذه العملية، وهو ما جعل هذه الانتفاضة بالأساس جماهيرية وعفوية. وانتفاضة من هذا النوع، يمكن أن تحقق بعض الأهداف السياسية. وقد كان الشِّعار المركزي يومها “الشعب يريد إسقاط النظام”. ولو سألنا المواطنين يومها عن تعريفهم لهذا النظام الذي تمرّدوا عليه، هل يقتصِر على بن علي ومَن معه، أم هو أشمل من ذلك؟ ثم ما هو البديل عنه؟ الملاحَظ أن هذه المسائل لم تكن واضحة لدى الأغلبية الساحقة من التونسيين.
كان يوم 14 يناير انتصارا للشعب، لكنه في الآن نفسه فتح المجال لحِراك سياسي أدّى تدريجيا إلى كسْر الحِراك الثوري. لم يكن يملِك محمد الغنوشي، الوزير الأول السابق، قدرة على إدارة مثل هذه المرحلة، بما في ذلك الحِزبان المعارِضان اللذان الْـتَحقا بحكومته. ومع تشكيل حكومة الباجي قايد السبسي، توقفت الحركة الجماهيرية وأصبحت العملية سياسية تُدريها الأحزاب، وهو ما تمّ قبوله من قِبل الجميع.
ومن يومِها تعدّدت التجارب الحكومية، وشيئا فشيئا، ابتعدت البلاد عن نقطة البداية للحركة الجماهرية، وتجلّى بوضوح فشل النّخبة السياسية، التي كانت لا تحمل في أعماقِها ما عكَسه الحِراك الشعبي، وهو ما يفسِّر التراجع التدريجي للتونسيين عن المشاركة في المحطات الانتخابية المُتتالية. وهكذا اتسعت الفجوة بين العرض السياسي الذي قدّمته الأحزاب، وبين الطلب السياسي الذي عبَّرت عنه الحركة الشعبية.
swissinfo.ch: هل يفهَم مَن كلاك أن التونسيين أصبحوا اليوم بعيدين عن أهداف الثورة؟
عزيز كريشان: المؤكّد أن هناك هُوة كبيرة قائمة اليوم بين ما طَرِح خلال الانتفاضة وبين ما قدّمته الطبقة السياسية. لكن رغم ذلك، تحقق أمر مُهم، وذلك على الصعيد السياسي. لقد انتقلت البلاد خلال هذه السنوات الأربعة من مخاطِر وجود حزب واحد مُهيْمن، إلى وضعية قائمة على التعدّدية، لأن الحزب الواحد، مهما كان لونه، دستوريا أو إسلاميا يبقى يشكِّل خطرا على الانتقال الديمقراطي.
ويمكنني القول بأن تونس مرّت بظرف صعب وخطير، خاصة في مرحلة حكومة حمّادي الجبالي، حيث لمسنا وجود نزْعة قوية نحْو الهيْمنة الكاملة من قِبل حركة النهضةرابط خارجي. وهي نزعة وجدت من يُعارضها، إضافة إلى أن قُدرات حركة النهضة كانت محدودة لإدارة شؤون البلاد، خاصة أسلوبها في معالجة ملف الإرهاب، وهو أسلوب أقل ما يقال عنه أنه اتّسم بكثير من التسيّب، مع تسيير كارثي للاقتصاد. وفي سياق موازي، تشكّلت قوة سياسية مُمثلة في حزب نداء تونسرابط خارجي، نجحت في تحقيق التوازن.
وبقطع النظر عن تركيبة هذا الحزب، من حيث كونه خليط بين المنظومة القديمة مع يسار استئصالي وغيره، إلا أنه تمكّن من تحقيق المعادلة التي من شأنها أن تحُول دون انفِراد أي قوة بالحُكم وبالفضاء العام.
الديمقراطية تُبنى عندما تُدرك الأطراف المتصارِعة أن من مصلحتها أن تتقيد بقواعد اللّعبة الديمقراطية التي تمكِّنها من الوجود والتنافس عزيز كريشان
من وجهة نظري، لا أعتقد بأن كلاّ من حركة النهضة أو حزب نداء تونس يحملان حامض الديمقراطية في خلاياهما الفِكرية والسياسية، لكن الديمقراطية لا تُبنى بالضرورة من قِبل أحزاب تُؤمن بالقِيم الديمقراطية. الديمقراطية تُبنى عندما تتوفّر تعادلية حقيقية في البلاد، وعندما تُدرك الأطراف المتصارِعة أن من مصلحتها أن تتقيد بقواعد اللّعبة الديمقراطية التي تمكِّنها من الوجود والتنافس.
وفي اعتقادي أن الشرط الهام قد أصبح متوفّرا حاليا في البلاد، وهو ما مِن شأنه أن يفرض على كل مِن نداء تونس وحركة النهضة أن يتعايشان، رغم خلافاتهما القوية السابقة. وبذلك، تبدأ تونس في أن تخْطو تدريجيا نحو ترسيخ اللّعبة الديمقراطية، كما أن ذلك من شأنه أن يخفِّف من حِدّة الاحتقان العقائدي. وعندما يحصل ذلك، سيصبح ممكنا طرح القضايا الأساسية للبلاد، وهي ذات القضايا التي طرحتها الثورة، أي كُبرى الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية، لأنه في أجواء الصِّراع العقائدي، لن يتهيَّأ أيّ طرَف للاهتمام بالمسائل الاقتصادية بشكل عميق، حيث تكون الأولوية للصِّراع كما لاحظنا بيْن مَن هُم مع الإسلام ومَن هُم ضدّه، وبين الهوية والحداثة إلخ… وبالتالي، هناك احتمال لكي يبدأ التونسيون الآن المرحلة الثانية من ثورتهم.
swissinfo.ch: أفهم من حديثك أن الثورة التونسية لم تمُت كما يزعَم البعض؟
عزيز كريشان: لكي نحكُم على شخص ما، علينا أن ننتظر موْته، وكذلك الشأن بالنسبة للثورات، لأن الثورة هي سِلسلة مراحِل، ولا يمكننا أن نحكُم على هذا الحدث الكبير بأنه ثورة أو لا، إلا عندما يكتمل. لهذا أعود لأؤكِّد أن البداية كانت في شكلِ انتفاضة، ثم قام السياسيون باختِطافها. وهذا يذكِّرني بشبابي عندما كُنت أحلم بالثورة، كان تكويني الفِكري والسياسي الماركسي قد ساعدني على فهْم أن الثورة تتكوّن من أمريْن، أولهما أن الثورة تتحقّق عندما يحصل التِقاء بين شروط ذاتية وأخرى موضوعية.
يتحقق الجزء الأول عندما تولد حركة جماهيرية في الداخل، وهي الحالة التي تتحقّق من وجهة النظر الماركسية، عندما يسود اعتقاد لدى أغلبية السكان الذين يعيشون في الأسفل بأنهم لن يُواصلوا العيش بنفس الطريقة التي كانوا عليها من قبل. في تلك اللحظة، يُدرك الماسِكون بالسلطة بأنهم أصبحوا غيْر قادرين على مواصلة الحُكم بالطريقة التي مارسوها سابقا. هذه الظروف الذاتية توفّرت في الحالة التونسية.
المشكلة، في أن الظروف الموضوعية التي تقتضي وجود قِوى سياسية مُلتحمة بالجماهير وتملك برنامجا حقيقيا قادرا على كسْر النظام القديم واستبداله بآخر بديل، ليست متوفرة إلى حدِّ الآن. لكن لو رجعنا إلى كل الثورات التي حصلت في التاريخ، سنلاحظ دائما وجود مسافة بين الشروط الذاتية والشروط الموضوعية، وبالتالي، علينا أن ننتظر توفّر القوى السياسية القادرة على تحقيق أهداف الثورة وتأمين الانتقال الاجتماعي والاقتصادي، إلى جانب الانتقال السياسي. وفي حال عدم بروز مثل هذه القِوى، فإن الذي سيحصُل هو إعادة المنظومة القديمة مع بدلة مختلفة. وحتى المكاسب التي تحقّقت يُمكن أن يتِم التراجُع عنها. المؤكّد من وجهة نظري، أن الزلزال الذي حصل ما بين 17 ديسمبر 2010 و14 يناير 2011 لم يتوقّف نهائيا.
swissinfo.ch: سبق لك وأن دعوت وكتَبت نصّا شهيرا في عهْد الرئيس بن علي، أكَّدتَ فيه أن التحالف بين الإسلاميين والعِلمانيين ضرورة إستراتيجية لمواجهة الدكتاتورية. بعد الثورة، حصلت تجربة تصبّ في نفس الاتجاه الذي دعَوتَ إليه، والذي تمثَّل بالخصوص في تحالُف الترويكا، كيف تُقيِّم هذه التجربة وأنت كُنتَ جزءً منها، بحُكم موقعك كمستشار سياسي للرئيس السابق المنصف المرزوقي؟ وهل ترى أن المستقبل يُمكن أن يُـبشِّر بخوْض تجربة ثانية من نفس القبيل؟
عزيز كريشان: في المرحلة السابقة وصلتُ إلى قناعة بأنه لا يُمكن للمعارضة أن تهزم نظاما استبداديا أو أن تضعفه، إذا استمر التطاحن بين مكوِّناتها وفصائلها. وكانت هذه في البداية، فكرة بسيطة، لكني لم أعتبِر أن التِقاء الإسلاميين والعِلمانيين يُمكن أن يشكِّل ضرورة، إلا عندما لاحظت، خاصة ما بين 2005 و2006، أي بعد رجّة الحادي عشر من سبتمبر، أنه في عديد من البلدان العربية وجدت تجارب شبيهة بما حصل عندنا، وأقصد مبادرة 18 أكتوبر، التي جمعت بين حركة النهضة ومُعظم القِوى السياسية العلمانية.
حدث ذلك في الجزائر والأردن واليمن ومصر ولبنان والسودان. عندها أدرَكت بأن هذا التحالف لا يصلح فقط في مرحلة مواجهة الدكتاتورية، وإنما أيضا في مرحلة بناء البديل وإقامة نظام ديمقراطي.
الذين كانوا يفكِّرون مِثلي من داخل الدائرة العلمانية والحداثية، لم يكونوا أغلبية، ولكني أعتقد بأن التحالُف بين الطرفيْن، يجب أن لا يكون بقيادة الإسلاميين. وليس ذلك شماتة فيهم، وإنما لكوْن الإسلاميين هُم بالأساس جماعات محافِظة لا تستطيع أن تبني شيئا جديدا. بمعنى آخر، نظام البرمجة التي يعتمِدون عليه ،ليس ديمقراطيا، وهو ما يجعل المرجِعية الديمقراطية بعيدة عنهم.
بناءً عليه، أرى أن التحالُف الإسلامي العِلماني ضروري جدا، حتى لا تضيع تضحيات الشعب التونسي في حال التورّط في حرب دينية قائمة على فرَضِية وهْمية، وكأن لكلّ طرف دِين مختلف عن الآخر، ويجب أن ينتصر عليه بكل الوسائل. لكن إستراتيجية التحالُف، يجب أن تكون مُقترِنة بإستراتيجية صِراعية، أي أن لا تؤدي إلى طمس الخلافات القائمة بينهما.
بعد الإطاحة ببن علي، كتبتُ نصّا طالبتُ فيه الجميع بأن يتّحدوا. وبعد ذلك بأشهر، دعوت إلى إحياء جبهة 18 أكتوبر (جمعت في عام 2005 معارضين لبن علي من شتى التيارات السياسية – التحرير) واعتبرت أن الضرورة تقتضي خوْض انتخابات المجلس الوطني التأسيسيرابط خارجي، ليس فقط ببرنامج موحَّد، وإنما أيضا بقائمات موحَّدة. وأكّدت في شهر مايو 2011 على أن يخرُج الجميع من تلك الانتِخابات مُنتصرين، لأنه لو حدث خلاف ذلك، فسنعود من جديد إلى حلَبة الصِّراع بين القِوى السياسية، مما سيؤدي إلى ضَياع المهَام المطروحة على النُّخب والمجتمع. لكن لم يَسمَعني أحد، حيث اعتقَـد كلّ طرف بأنه الأصلح والأقدَر على النجاح بمُفرده.
بعد الانتخابات، تشكَّل تحالُف الترويكا، لكن بقية القِوى الديمقراطية لم تكُن جزءً منه. هذه القِوى التي تدّعي بكونها ديمقراطية، بقيت مشتَّتة ولم تنجح في التنسيق بين مختلف مكوِّناتها. ولو تمكَّنت قوى المعارضة يومها من بناءِ تحالُف بين أطرافها، لَـمَـا جعلت حكومة حمادي الجبالي تصِل إلى ما وصلت إليه من سوء الأداء.
وترتّب عن كل ذلك وضْع غريب. فحزب المؤتمر من أجل الجمهوريةرابط خارجي وحزب التكتّل، كان يعمل كلّ منهما داخل الترويكا ليكسب وِدّ حركة النهضة على حساب الطرف الآخر، مقابل الحصول على أكثر إمتيازات، وهو ما أدّى عمليا إلى أن تُصبِح الترويكا في ظاهِرها، متماسكة وفي داخلها صِراع وأزمة ثِقة وتركيز على الانتخابات القادمة، الرئاسية والتشريعية.
وعندما قبِلتُ بمُهمّة مستشار سياسي لدى رئيس الجمهوريةرابط خارجي، شعرت من خلال تعميق النِّقاش مع المرزوقي أنه كان مُدركا لهذه الوضعية غير الطبيعية، كما كان حريصا على أن يجعل من الرئاسة عامِلا أساسيا للمحافظة على وِحدة الترويكا والتمسّك بروح حركة 18 أكتوبررابط خارجي، وذلك رغم إدراكه بأن حِزبه كان يتّجه نحو مسلَك آخر.
هذا وقد بدا لي أن الرئيس المرزوقي كان راغِبا في جعل مؤسسة الرئاسة فوْق التّجاذُبات الحزبية، وتعمل على ضمان وِحدة البلاد، وليست أداة لتنفيذ ما تقرّره حركة النهضة. وقد استمرّ على هذا الموقِف حوالي سنة أو أكثر.
وقد خاض من أجل ذلك مَعارِك عديدة، من أهمّها معركة محمود البغدادي، رئيس حكومة العقيد القذافي، الذي تم تسليمه للسلطات الليبية، وكذلك رسالته الشهيرة التي وجّهها المرزوقي إلى أعضاء حِزبه في مؤتمرهم الأخير عام 2012، والتي تحدّث فيها عن هيْمنة حركة النهضة على الدولة، وبعدها موقِفه من حادثة سليانة، وكذلك حوادِث الاتحاد العام التونسي للشغل.
استمر المرزوقي على هذا التوجّه إلى أن استقال حمادي الجبالي من رئاسة الحكومة رابط خارجيوتم اختِيار علي العريِّض. بعدها مباشرة، بدأت المؤشرات تتوالى لتؤكِّد أن المنصف المرزوقي قد بدأ يغيِّر من منهجه السياسي. وكان أولى علامات ذلك، التصريحات التي أدلى بها ضدّ المعارضة في الدوحة واستعمل فيها كلمة المشانِق. وما فهِمتُه شخصيا، أن المرزوقي لم يكن خلال سنة 2012 في معركة مع حركة النهضة، وإنما كان في نزاع مع حمادي الجبالي، الذي كان يسعى لخوْض الانتخابات الرئاسية.
وبما أن إستراتيجية المرزوقي كانت بالأساس قائمة على تأمين دعْم النهضة له في الانتخابات الرئاسية، لهذا كان يسعى لإقصاء منافس له، لا يمكن الإبقاء عليه في هذا السباق، وهو حمادي الجبالي. وبما أن علي العريّض لم يكن له نفْس الطموح، عادت بذلك المياه إلى مجاريها بين المرزوقي وبين حركة النهضة، وعاد إلى انتقاد المعارضة ومهاجمتها. وهكذا لم يعُد الرئيس المرزوقي ابتداءً من سنة 2013 ضدّ الإستقطاب، ولم يعُد هدفه إخراج البلاد من حالة التجاذُبات الحزبية، وبالتالي، السَّعْي لتحقيق أهداف الثورة، وهكذا سقَط بدوره في لُعبة الاستِقطاب السياسي.
فيما يخصُّني، كانت علاقتي صعبة في تلك المرحلة مع حركة النهضة، حيث كُنتُ خائِفا جدا من تغوُّلها، وقد جسّد حمادي الجبالي هذا التغوّل بوضوح، عندما كان رئيسا للحكومة. ولهذا، كانت علاقتي بالنهضة علاقة صِراع، رغم أنني كُنتُ في الترويكا بقناعة. وقد كُنت متحالِفا مع المرزوقي ضدّ قيادة النهضة، ولكن بعد ذلك، تغيّر الأمر. حصل ذلك خلال أزمة صائِفة 2013 في مرحلة حكومة العريِّض، وذلك بعد الانقلاب في مصر وبعد اغتيال محمد البراهمي.
لقد عاشت البلاد يومها أزمة عاصِفة كادَت أن تُطيح بها وبمرحلة الانتقال السياسي. هناك أطراف من المعارضة كانت ترغَب في إعادة سيناريو مصر في تونس، وفي المقابل، شعَرت كوادِر النهضة وحزب المؤتمر بالخوف على حياتهم. هؤلاء أصبح هاجِسهم الرئيسي الإسراع في تصفِية خصومهم قبل أن يُبادر هؤلاء بتصفيتهم.
ويومها بدأ التفكير داخل هيئة التنسيق بين الترويكا، في إعلان حالة الطوارئ وإحالة المُعتصمين من نوّاب المعارضة ورؤساء أحزابهم، وكذلك عدد من الإعلاميين على محاكِم عسكرية. كل ذلك كان دليلا على أن الأجواء المُضطربة قد دخلت في حالة هوَس وجنون سياسي. وكنت يومها وحْدي من داخل الترويكا أواجِه هذا التيار، في حين كان أعضاء حزب التكتُّلرابط خارجي في حالة انتظار.
في تلك الظروف، بدأ راشد الغنوشي يفهَم خطورة المرحلة، وأخذ يدفَع نحو التراجُع إلى الخلْف، وعندها بدأت حركة النهضة تُعدِّل من سياستها، وأصبح ميزان القِوى لصالح حلّ سياسي وسِلمي للأزمة. وسيتِم ذلك عبْر إطلاق حوار مع بقية القوى السياسية، وتحديدا مع نداء تونس، لأن النهضة ونداء تونس هُما القوَّتان الرئيسيتان في البلاد. فماذا كان ردّ فعل الرئيس المرزوقي؟
لقد فكَّر بالطريقة التالية، لو اجتمع هذان العملاقان، ماذا سيكون مصيري السياسي؟ ومنذ ذلك التاريخ، أصبح المزوقي، وعن طريق حِزبه، يبحث عن الطُّرق والوسائل التي من شأنها أن تضع حدّا لهذا التقارب بين النهضة ونداء تونس، وأن تنسفه من الأساس. ولهذا كان معترضا على الحوار الوطني، وبلغ به الأمر إلى حدّ السعي لإحداث انقِسام داخل صفوف حركة النهضة، من خلال إجراء اتصالات مع المتشدِّدين فيها، إلى جانب ربْط علاقات مع الحركات السلفية..
من جهتي، رأيت أن ما أقدَمَت عليه قيادة حركة النهضة من تعديل لخِطابها وإستراتيجيتها، هو أمر إيجابي، يصبّ فيما نسعى إليه من ضمان الانتقال الديمقراطي. وبالتالي، أظهرت حركة النهضة في ذلك الامتِحان قُدرة عالية على التحكّم والنجاح.
وعندها، أصبح حليفي في ذلك الوقت، هو قيادة النهضة ضدّ المنصف المرزوقي، الذي كان مُعرقلا لذلك التطوّر. وحتى أكون صريحا وبعيدا عن أي شكْل من أشكال الغُرور، كانت الترويكا تتشكّل من ثلاث أحزاب، وكنت أنا أمَـثِّل شخصي.
swissinfo.ch: يعني أن الترويكا كانت رُباعي بوجودك؟
عزيز كريشان: ما يمكن أن أقوله في هذا السياق، أن الرؤساء الثلاثة كانوا يشعُرون بأن وجودي في تلك المرحلة ضروري لهُم جميعا.
وأقول لك سِرّا أنني بقيت في الرئاسة بين يوليو 2013 إلى بداية 2014 بطلب من راشد الغنوشي ومصطفى بن جعفر، وكان دوْري شبيها بقلْب الدّفاع ضدّ المهاجِم في كُرة القدم، أو بتعبير آخر، كنتُ أقوم بمهمّة رجل المطافئ، وذلك للحيلولة دُون إجهاض الحوار الوطني.
swissinfo.ch: ماذا عن اليوم؟
عزيز كريشان: الوضع اليوم مختلِف، وذلك في ضوْء هذه التجربة التي هي مُفيدة للجميع، وخاصة حركة النهضة. والإيجابي في هذا الوضع الجديد، أن حركة النهضة ليْست القوّة السياسية الأولى، وبالتالي، هي غير قادرة على ممارسة الهيمنة التي هي جُزء من طبيعتها. وبالنسبة لحزب نداء تونس، لن يستطيع أن يعود إلى ممارسات الإقصاء التي كانت سائدة من قبل.
ولهذا، أراهن على هذا التوازن القائِم حاليا، عسى أن يُساعد ذلك التونسيين على تحقيق خُطوات أخرى إلى الأمام. وقد كُنتُ صريحا وواضحا خلال الحمْلة الانتخابية التشريعية والرئاسية في اتِّخاذ موقِف ضد المنصف المرزوقي، وكتبتُ أيضا عن ضرورة قِيام حكومة وِحدة وطنية، وهو ما يدلّ على أنني بقيت متمسِّكا بنفس الفِكرة التي دعَوْت إليها مِن قبل سنوات عديدة، أي التوصّل إلى تحالُف إسلامي عِلماني واسع.
swissinfo.ch: هناك مَن يرى أن الدّعوة إلى تشكيل حكومة وِحدة وطنية، من شأنه أن يعطِّل العملية الديمقراطية القائمة على الاختِلاف والصّراع، فما رأيك؟
عزيز كريشان: يعتقد الكثير من التونسيين ومن النّخب السياسية، أن البلاد قد دخلت في الديمقراطية منذ 14 يناير وأن الديمقراطية هي المُنافسة على الحُكم بين أغلبية وأقلية، وهي اعتقادات خاطئة.
وبالرغم من أن تونس كادت أن تشتعِل فيها النيران أمام أعيُن هؤلاء، فإنهم لم يُدركوا بعدُ أننا لا نعيش في ظلّ نظام ديمقراطي، وإنما نحن في مرحلة انتقالية.
وعديد القيادات السياسية لم تستوعِب هذا الأمر. يعني لو اتّجهنا نحو قيام حكومة تتشكّل من نداء تونس وبعض الأحزاب الصغيرة، مع دفع حركة النهضة نحو المعارضة، هل سيساعد ذلك على التخفيف من حدّة الاستقطاب، أم أنه سيزيد من تغذيته؟ خاصة وأن الحكومة القادِمة أمامها تحدِّيات كُبرى، فهل يتوقّع هؤلاء أن تقوم حركة النهضة بتسهيل أداء هذه الحكومة.
ما أتوقّعه، أنه في حال الإصرار على هذا التمشي، فإن البلاد ستعود إلى أجواء الاحتقان ومنطق الإقصاء والتشنُّج. وقد يدفع ذلك بحركة النهضة نحو اللّجوء إلى توحيد الحِراك الإسلامي، بما في ذلك التحالف مع السلفيِّين. هل هذا الأمر من شأنه أن يُساعدنا على تحقيق الديمقراطية في البلاد؟
أتساءل ما هو الخطر من قيام حكومة وِحدة وطنية، أليْس في ذلك صيغة من شأنها أن تدفَع نحو تبنّي قيم مشتركة، وهو ما يجِب أن نسعى لبنائه. ويمكننا بعد ذلك أن نتبايَن.
أقولها بوضوح، يستحيل تحقيق الديمقراطية أو قيام نظام سياسي قارّ وسِلمي، إلا بتوفّر الحدّ الأدنى المُشترك، ومَن لا يُؤمن بهذا الأمر ويعمل ضدّه، فذلك دليل على انعدام روح المسؤولية لديه. نحن لا نزال في مرحلة التأسيس، وهذه المرحلة تقتضي الاستِمرار في مسار بناء المؤسسات الديمقراطية التي تحتاج إلى انخِراط أهَم القِوى السياسية في نحْتها والدِّفاع عنها، لأن الحرب داخل الديمقراطية تعني ضمَنِيا وجُود قواسم مشتركة مُعترف بها من قِبل الجميع، ويحرص الجميع على الدِّفاع عنها والالتزام بها. للأسف الكثير مِن هؤلاء لم يفهَموا بعدُ!!
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.