الجرائم الدولية وحرب أوكرانيا
يحتدم الجدل حول إمكانية تشكيل محكمة دولية أو أوروبية خاصة لمحاكمة كبار القادة الروس على جريمة العدوان على أوكرانيا. نلقي هنا نظرة على مختلف أصناف الجرائم الدولية وكيف يُمكن أن تنطبق على الحرب الدائرة منذ 24 فبراير 2022 في أوكرانيا.
ما هي الجرائم الدولية؟
يُطلق مصطلح جريمة دولية عادة على الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ولكن هناك أيضا جريمة العدوان، التي لم يصدر في سياقها حكمٌ إلا مرة واحدة في التاريخ، وكان هذا في محاكمات نورمبرغ (1945-1946)رابط خارجي التي أقامها الحلفاء المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية. وفيها تمت محاكمة ممثلين مختلفين لألمانيا النازية المهزومة بتهمة التآمر وتنفيذ غزو على دول أخرى، فضلاً عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
تعتبر الجرائم الدولية من أخطر الجرائم على الإطلاق، فهي لا تسقط بالتقادم، مما يعني أنه يمكن محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكابها من الرجال والنساء حتى بعد مرور عقود من الزمن. فعلى سبيل المثال، توصلت محكمة في ألمانيا في ديسمبر 2022 إلى أن امرأةرابط خارجي تبلغ من العمر 97 عامًا كانت تعمل مع قائد معسكر اعتقال نازي مذنبة بالتواطئ في قتل أكثر من 10500 شخص.
منذ محاكمات نورمبرغ وخاصة منذ تسعينيات القرن الماضي، تم بالفعل إنشاء العديد من المحاكم للنظر في بعض الجرائم الدولية (وإن لم تتناول هذه المحاكم جريمة العدوان بذاتها، التي يُمكن أن تنطبق أيضًا على دول أخرى مثل الولايات المتحدة). ومن الأمثلة على ذلك هناك المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (اختصارا ICTY) والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا (اختصارا ICTR)، فضلاً عن الدوائر الاستثنائية في محاكم كمبوديا (اختصارا ECCC). من ناحية أخرى، يُمكن لبعض البلدان، بما في ذلك سويسرا، محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية أمام محاكمها بموجب مبدإ “الولاية القضائية العالمية”. فعلى سبيل المثال، أصدرت محكمة سويسرية في يونيو 2021 حكماً على زعيم المتمردين السابق في ليبيريا أليو كوسيا بالسجن لمدة 20 عامًا بتهمة ارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك القتل والتعذيب والاغتصاب.
كذلك، فإن للمحكمة الجنائية الدولية (اختصارا ICC) في لاهاي، التي أُنشئت في عام 2002، أيضًا ولاية قضائية على الجرائم الدولية. وقد أدخلت “جريمة العدوان” في نظامها الأساسي في عام 2017. مع ذلك، فإنه ليس بإمكانها مُقاضاة هذا النوع من الجرائم إلا في إطار شروط تقييدية معينة وهي لا تنطبق على الوضع في أوكرانيا، نظرًا لأن روسيا ليست طرفًا في نظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية.
ما هي جرائم الحرب؟
جرائم الحرب هي انتهاكات للقانون الدولي الإنساني، الذي يُعرف أحيانًا باسم “قانون النزاع المسلح”. تركز اتفاقيات لاهاي، التي تم تبنيها في عامي 1899 و1907، على حظر بعض وسائل وأساليب الحرب من قبل الأطراف المتحاربة. وقد تم اعتماد العديد من المعاهدات الأخرى ذات الصلة منذ ذلك الحين. وتركز اتفاقية جنيف لعام 1864 واتفاقيات جنيف اللاحقةرابط خارجي، ولا سيما الاتفاقيات الأربع لعام 1949 والبروتوكولان الإضافيان لعام 1977، على حماية الأشخاص الذين لا يُشاركون أو توقفوا عن المشاركة في الأعمال العدائية، مثل المدنيين وأسرى الحرب. ومع ذلك، لا توجد وثيقة واحدة في القانون الدولي تقنن جميع جرائم الحرب.
يُعرّف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدوليةرابط خارجي جرائم الحرب على أنها “انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس 1949″، بما في ذلك القتل العمد والتعذيب والاغتصاب والنهب والترحيل والإبعاد أو النقل غير المشروعيْن. كما يشمل تعريف المحكمة الجنائية الدولية أيضًا تعمّد توجيه هجمات ضد مواقع مدنية، أي المواقع التي لا تشكل أهدافاً عسكرية.
وقد أدانت المحكمة الجنائية الدولية العديد من الأشخاص لارتكابهم جرائم حرب، بما في ذلك أمير الحرب الكونغولي السابق توماس لوبانغا (حكم عليه بالسجن 14 عامًا لارتكابه جرائم حرب تتعلق بالتجنيد الطوعي والإجباري للأطفال)، وجيرمين كاتانغا (12 عامًا لارتكابه جرائم حرب وبالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية) وبوسكو نتاغاندا (30 عامًا لارتكابه جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية). في عام 2016، حكمت المحكمة الجنائية الدولية على الجهادي المالي أحمد الفقي المهدي بالسجن تسع سنوات بتهمة ارتكاب جريمة حرب تتمثل في تعمّد توجيه هجمات ضد مبان دينية وثقافية في تمبكتو خلال شهري يونيو ويوليو 2012. وفي عام 2021، حكمت نفس المحكمة على الأوغندي دومينيك أونجوين، القائد السابق في “جيش الربّ للمقاومة” سيئ السمعة، بالسجن لمدة 25 عامًا لارتكابه جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل، والاغتصاب، والتعذيب، والاسترقاق.
ما هي الجرائم ضد الإنسانية؟
تُعرّف الجرائم ضد الإنسانيةرابط خارجي في النظام الأساسي للمحاكم الجنائية الدولية على أنها جرائم خطيرة “تُرتكب كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضد أي سكان مدنيين، مع العلم بالهجوم”. ومن بين الشخصيات سيئة الصيت التي أدينت بارتكاب مثل هذه الجرائم، المروّج للنازية يوليوس شترايشر (حكم عليه بالإعدام من قبل المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ وشنق في عام 1946)؛ والزعيم السابق لصرب البوسنة رادوفان كارادزيتش (الذي أدانته المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في عام 2016 بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وكذلك جرائم حرب وإبادة جماعية في سربرنيتسا، وحُكم عليه بالسجن المؤبد)؛ ونون تشيا، مفكر الخمير الحمر، المعروف باسم “الأخ رقم 2” في نظام بول بوت (حكم عليه بالسجن مدى الحياة من قبل المحكمة الجنائية المركزية في 2014، وتوفي في عام 2019 أثناء قضاء عقوبته).
وقد تشمل الجرائم ضد الإنسانية، من بين أمور أخرى، القتل والإبادة والاسترقاق والترحيل القسري أو نقل السكان والتعذيب والاغتصاب. ويتضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أيضًا جريمة الفصل العنصري.
ما هي الابادة الجماعية؟
صاغ المحامي البولندي رافائيل ليمكين مصطلح “إبادة جماعية” لأول مرة في عام 1944. وفي وقت لاحق، قاد ليمكين حملة من أجل الاعتراف بالإبادة الجماعية وتصنيفها كجريمة دولية. وتم تعريفها في اتفاقية الإبادة الجماعيةرابط خارجي لعام 1948 على أنها أفعال معينة “تُرتكب بنية التدمير الكلّي، أو الجزئي لجماعة قومية، أو إثنية، أو عرقية، أو دينية لمجرد كونها كذلك”. وتشمل هذه الجريمة قتل أفراد المجموعة، والتسبّب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لهم، وتعمد إلحاق الضرر الجماعي بظروف الحياة التي تهدف إلى تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، وفرض تدابير تهدف إلى منع المواليد داخل المجموعة، ونقل أطفال المجموعة قسراً إلى مجموعة أخرى.
يُشار أحيانًا إلى الإبادة الجماعية بـ “جريمة الجرائم”، كما أصبح مصطلح الإبادة الجماعية مشحونًا سياسياً، لأنه يشير، على الأقل من حيث المبدأ، إلى واجب المجتمع الدولي في المنع والمعاقبة. ومع ذلك، فإنه من الصعب إثبات ذلك في المحكمة، خاصة بسبب ضرورة إثبات النية وراء الجريمة. ولم تعترف المحكمة إلى الآن إلا بثلاث عمليات إبادة جماعية وقعت في رواندا (إبادة التوتسي الجماعية عام 1994)، والبوسنة (مذبحة سربرنيتسا عام 1995) وكمبوديا في ظل نظام بول بوت 1975-1979.
ما هي الجهود المبذولة حتى الآن لتحقيق العدالة لأوكرانيا؟
جلب الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022 والحرب المستمرة موجة غير مسبوقة من الردود القضائيةرابط خارجي، من قبل المجتمع الدولي وأوكرانيا نفسها. وعقدت أوكرانيا بالفعل بعض المحاكمات وأصدرت بعض الإداناترابط خارجي. وفتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقًا وأقدمت أكثر من 15 دولة، بما في ذلك سويسرا، على إنشاء وحدات لجمع الأدلة، لا سيما من طرف اللاجئين واللاجئات، استعدادا لمحاكمات مستقبلية محتملة أمام محاكم محلية أو دولية. كما شكل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في مارس 2022 لجنة تحقيق مستقلة بشأن أوكرانيا للنظر في الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي في أوكرانيا والحفاظ على الأدلة من أجل “الإجراءات القانونية المستقبلية”.
مع ذلك، قد يستغرق الأمر سنوات، أو حتى عقودًا، قبل أن تتم محاكمة كبار القادة الروس مثل الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف. وفي أكتوبر 2022، قال فيليب غرانت، مدير منظمة ترايل إنترناشونال غير الحكومية التي تتخذ من جنيف مقراً لها لقناة الإذاعة والتلفزيون السويسري العمومية الناطقة بالفرنسية RTS: “فيما يتعلق بالعدوان الروسي، إنها مهمة ستستمر بالتأكيد لعقود. ولكن على أي حال، نحن بحاجة إلى توثيق الأدلة وحمايتها، وزيادة الوعي بين الضحايا ومحاولة البدء في إعداد ملفات القضايا”.
من ناحية أخرى، تُشكل مسألة اعتقال الجناة المزعومين تحديًا كبيرًا. وفيما يتعلق بكبار القادة، هناك أيضًا قضية الحصانة، مما يعني أنه من المحتمل ألا يُحاكم بوتين، على سبيل المثال، ما لم يتم عزله من السلطة في روسيا أو رفع الحصانة عنه. وعلى سبيل المثال، لم تتمكن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا سابقًا من إلقاء القبض على سلوبودان ميلوسيفيتش إلا بعد تنحيه عن رئاسة صربيا. وقد اتُهم ميلوسيفيتش بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية خلال حرب البوسنة في تسعينيات القرن الماضي، لكنه توفي أثناء احتجازه لدى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة خلال محاكمته. وبالمثل، لم يُقدّم الرئيس الليبيري السابق تشارلز تيلور إلى العدالة إلا بعد الإطاحة به وهروبه إلى المنفى، وقد حكمت عليه المحكمة الخاصة بسيراليون المدعومة من الأمم المتحدة في عام 2012 بالسجن لمدة 50 عامًا بتهمة المساعدة والتحريض على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سيراليون المجاورة لليبيريا. كما أنّ المحكمة الجنائية الدولية لم تضع يدها بعدُ على الرئيس السوداني السابق عمر البشير، الذي وُجهت إليه الاتهامات في عامي 2009 و2010 بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية في إقليم دارفور. وقد أطيح به من السلطة عام 2019 وحكم عليه بالفساد في السودان، ولكن على الرغم من الوعود، لا يزال الحكام العسكريون للبلاد مترددينرابط خارجي في تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية.
المزيد
ما هي إيجابيات وسلبيات إنشاء محكمة لمُقاضاة روسيا؟
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، استمر بعض المحامين في المطالبة بإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة القادة الروس على ارتكاب جريمة العدوان، قائلين إن هذا الأمر ضروري، حيث أنه لا توجد محكمة مختصة حاليًا بمحاكمة هذه الجريمة، التي تنبثق عنها جميع الجرائم الأخرى. كما تمارس أوكرانيا وبعض الدول الأخرى، لا سيما في أوروبا الشرقية، الضغط أيضًا من أجل ذلك. ومع أن أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية أعربت في نوفمبر 2022 عن تأييدها لهذه الخطوة، ولكن هناك العديد من الأمور المجهولة والقضايارابط خارجي، بما في ذلك الشكل الذي قد تتخذه هذه المحكمة والولاية التي قد تتمتع بها.
في السياق، يُجادل البعض بأن المحكمة الخاصة لمحاكمة كبار القادة الروس بشأن العدوان سوف يُنظر إليها على أنها عدالة من جانب واحد وستفتقر إلى الشرعية ما لم تكن نابعة عن إجماع دولي، وهو أمر غير مُرجّح. وفي حال وصلت الفكرة بالفعل إلى مجلس الأمن الدولي، فمن شبه المؤكد أنها ستواجه حق النقض الروسي والصيني. وقد تكون بعض الدول الغربية غير مرتاحة للفكرة أيضًا، خشية أن تفتح الباب أمام محاكمات أخرى في المستقبل، مثلاً ضدّ الشخصيات الأمريكية أو البريطانية الرئيسية في العدوان على العراق أو أفغانستان.
إن التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ومقاضاة مرتكبيها أمر مُعقّد للغاية، في حين أن إثبات مسؤولية القادة الروس عن غزو أوكرانيا قد يبدو أمرًا بسيطًا. وفي هذا الصدد، تُحاجج كارلا ديل بونتي، المدعية العامة السويسرية السابقة لدى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا سابقا ولدى المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، بأنه قد تم إثبات ذلك بالفعل. ولكن البعض يشعر بالقلق من أنه إذا لم تتمكن محكمة خاصة من وضع يدها على كبار القادة الروس، فقد تُنفَقُ الكثير من الأموال على المحاكمات الغيابية أو للحصول على نتائج ذات مصداقية ضئيلة.
تحرير: إيموجين فولكس
ترجمة: ثائر السعدي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.