الدستور الجديد في تشيلي: درس يتعلم منه الجميع
تشكل الدساتير قواعد اللعبة الأساسية لأي مجتمع ديمقراطي. لذلك فإن الكيفية التي تكتب بها الدساتير والجهة التي تتولى هذه المهمة تعد من الأهمية بمكان. وبعد عقود من النزاع تسلك تشيلي الآن طريقاً جديداً، يمكنه أن يلهم العالم بأسره ـ بدورها، تتعلم تشيلي أيضاً من خبرات الدول الأخرى مثل سويسرا، وآيسلندا وفنزويلا.
حتى الآن كان الرابع من يوليو يوماً ذا معنىً خاص: فهو “يوم الاستقلال” في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن هذا العام ستضاف نقلة نوعية أخرى لهذه التاريخ: “حيث ستنعقد الجلسة الافتتاحية للجمعية التأسيسية لصياغة الدستور في الأحد الرابع من يوليو الساعة العاشرة صباحاً بمبنى البرلمان الوطني بمدينة سانتياغو”، مثلما أعلن الرئيس التشيلي سيباستيان بينيرا في نهاية شهر يونيو المنصرم. فبعد أكثر من ثلاثين عاماً سيتم إعادة تعديل دستور تشيلي الذي أصدره الديكتاتور أوغوستو بينوشيه في 1980 بالكامل، وهذا من خلال مجلس منتخب مباشرة من المواطنين والمواطنات. فضلاً عن ذلك سيكون للناخبين الكلمة الأخيرة بشأن الدستور الجديد في نهاية هذه العملية.
أما كيفية حكم الدول، فإن هذا ما لا يحدده الدستور وحده. فمن الناحية التاريخية نشأت أغلب الدساتير في سياقات استثنائية ومليئة بالنزاعات، مثل إنهاء احتلال، وانقلابات سياسية أو مراحل انتقالية نحو الديمقراطية. لذلك فإن وضع دساتير جديدة أو معدلة تماماً في إطار سياقات ديمقراطية مستقرة يعتبر حتى اليوم أمراً غير معتاد. وقد توصلت دراسة حديثة للخبير في الشؤون السياسية غابريل نيغريتو المقيم بمدينة سانتياغو، والتي شملت الفترة ما بين عامي 1900 و2015، إلى حوالي عشرين حالة مثل هذه ـ من بينها الدستور الفدرالي الجديد لسويسرا الذي صدر في تسعينيات القرن الماضي كمثال غير اعتيادي وسلمي وشامل. وهذا بالضبط ما تسعى تشيلي الآن لتحقيقه.
نظراً لما تكتسيه الدساتير من أهمية بالنسبة للديمقراطية، فإنه من المُدهش إلى حد ما أن المُراجعات الشاملة للدساتير الوطنية قد حدثت في حالات نادرة جدًا. خاصة إذا ما راعينا حقيقة أن الناس في جميع أنحاء العالم، يتزايد عدم رضاهم عن الأسلوب الذي تعمل به ديمقراطياتهم. والكثيرون يطالبون بالإصلاحات، ومن بينها إصلاحات دستورية. وأمام هذه الرغبة في التعديل، هناك في الكثير من الدساتير الوطنية قواعد جامدة، تحول دون التغيير من الناحية العملية.
العملية التشاركية في سويسرا
لكن هناك أيضاً استثناءات: ومن بينها سويسرا. هنا يخوّل للمواطنين والمواطنات طرح مبادرة تهدف إلى تعديل شامل أو جزئي لدساتيرها. ففي سويسرا يحق لإثنين في المائة من المواطنين الذين لديهم حق الانتخاب (وفقاً للفقرة 138 من الدستور الفدرالي) طرح مبادرة لتعديل دستوري شامل. فإذا ما قُبلت مثل هذه المبادرة في إحدى الاقتراعات الشعبية، فلابد من إجراء انتخابات (مباشرة) للبرلمان و(غير مباشرة) للحكومة. في النهاية لابد من أن يحظى الدستور المعدل كليةً بقبول المواطنين مرة أخرى. بصورة مشابهة تسمح الكثير من الولايات الأمريكية بعملية إصدار لدستور (جديد أو معدل) يتحكم فيها المواطنون.
بينما تجرى اقتراعات شعبية بشأن تعديلات دستورية حول العالم بصورة متكررة، فإن عدداً قليلاً من الدول فقط هي التي تسمح للمواطنين بالمبادرة بإجراء مثل هذه التعديلات.
طريق تشيلي الفريد نحو الديمقراطية
عودةً إلى تشيلي، حيث لا توجد فقرة بعينها في الدستور القائم يعود لها الفضل في انطلاق العملية التي بدأت حالياً من أجل تعديل الدستور بصورة شاملة. بل كان هناك اتفاق سياسي دفع قدماً بالعديد من الأحداث. ففي الخامس والعشرين من أكتوبر 2020 وافق أكثر من 78% من الناخبين التشيليين على مقترح اللجنة الدستورية لبرلمان تشيلي، بكتابة الدستور الوطني من جديد. وقد اختار الناخبون والناخبات في استفتاء ثانٍ جمعية منتخبة مباشرة لوضع الدستور، والتي يشغل الرجال والنساء فيها عدداً متساوياً من المقاعد، ومن شأن ذلك أيضاً ضمان تمثيل مناسب من النواب ينحدرون من السكان الأصليين في المجلس.
وبالفعل، انتخب مواطنو تشيلي في منتصف مايو الماضي 155 نائباً من بين 1300 مرشحاً، وبهذا أكدوا على إرادتهم في تخطي الوضع الراهن: ولقد حصد مرشحو الأحزاب السياسية سواء من اليمين أو من اليسار أصواتاً قليلة جداً مِمَّا سيعني أن القوى التقليدية في اليمين وفي اليسار لن تتمكن من رفض المقترحات المقبلة التي ستقدمها الجمعية التأسيسية للدستور، والتي سيغلب عليها بدلاً من ذلك مرشحون من بين صفوف المواطنين المستقلين.
بهذا أسند مواطنو تشيلي إلى البرلمان الجديد مهمة واضحة، ألا وهي: “جددوا سياستنا الخربة واجعلوا ديمقراطيتنا ديمقراطيةً مرة أخرى.” وصحيح أن تاريخ العالم قد شهد مثل هذه البدايات الجديدة، ولكن نادراً ما كتب لها النجاح بالفعل.
التعلم من أخطاء آيسلندا وفنزويلا
يجدر بنا هنا أن نذكر بعملية التعديل الدستوري التي بدأت في آيسلندا والتي طالب بها الشعب وأطلقتها الحكومة، وجاء هذا في أعقاب الأزمة المالية الكبرى قبل عقد من الآن: فبينما كانت عملية التعديل تشاركية جداً، وأدت عام 2012 أيضاً إلى اقتراع شعبي، إلا أن الأغلبيات المتعاقبة داخل البرلمان تجاهلت النتيجة بكل بساطة. أما أحدث محاولة لاتخاذ قرار بتعديل محدد، فقد فشلت قبل عدة أيام. ومثل هذه المشكلات كثيراً ما تنشأ عن الارتباط المفقود بين الحركات الشعبية، التي تلح على التعديل، وبين الأحزاب السياسية التقليدية، التي تخشى فقدان السيطرة. وبمجرد تخطي الأزمة، تعود السياسة الاعتيادية مرة أخرى ويفقد الشعب فرصة التدخل.
لكن المجازفة تكون أكبر في أنظمة رئاسية مثل تلك الموجودة في فنزويلا. هنا كثيراً ما تصبح النزاعات بين سيادة دولة القانون وإرادة الشعب واضحة للعيان. ففي فنزويلا وعد هوجو تشافيز عام 1989 بتعديل الدستور، وهو ما كان أحد مطالب المواطنين منذ أمد بعيد. إلا أنه لم يحقق أغلبية في البرلمان، كما أن الدستور القائم منذ عام 1961 لم يسمح بتشكيل لجنة تأسيسية لصياغة الدستور. وفي يوم توليه منصبه، وقَّع الرئيس الجديد على مرسوم، أطلق بموجبه استفتاء، ليزيل من خلاله “العقبة القانونية” التي تحول دون إصدار دستور جديد.
من يتحدث عن “تشيليزويلا” مخطئ
في سياق متصل، ادَّعت الأطراف الفاعلة في تشيلي التي ترفض التعديل الدستوري ـ خاصة الإعلام التقليدي والقوى السياسية ـ أن تشيلي بهذا الإصلاح الدستوري سوف تسلك طريق فنزويلا الكارثي، لذلك فإنهم يتحدثون عن “تشيليزويلا”. إلا أنهم مخطئون في تصورهم. فبينما استولى الحزب الحاكم في فنزويلا لعقود طويلة على زمام العملية الدستورية، وشغل أكثر من 90% من المقاعد في الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، قادت الانتخابات في تشيلي إلى جمعية تعددية على أعلى مستوى، بدون أي من قوى الرفض المنفردة.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن إصلاح الدستور في تشيلي يعتبر مطلباً شعبياً حصرياً، وليس مقترحاً حكومياً، إذ أحجمت النخبة السياسية لسنوات طويلة، إلا أنها في نهاية الأمر أيدت الطريق الجديد، وجاء هذا التأييد كرد فعل على موجة عدم الرضى العام، التي بدأت في نهاية عام 2019 في أعقاب الارتفاع المفاجئ لأسعار بعض تذاكر المواصلات العامة.
ختاماً، فمع افتتاح الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور اليوم الأحد، الموافق للرابع من يوليو، فإن هذا التاريخ ليس وحده ما سيعاد كتابته في نصف الكرة الجنوبي من جديد، بل ربما سيعاد كذلك اختراع الديمقراطية الحديثة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.