الديمقراطية في تونس.. “مسار صعبٌ لكنه غيرُ مستحيل”
لم يكن اختيار تونس لاحتضان وتنظيم الدورة الخامسة للمنتدى العالمي للديمقراطية الحديثة المباشرة رابط خارجي إجراء اعتباطيا. فالتجربة التي تمر بها تونس حاليا جعلت منها حالة استثنائية لفتت انتباه العالم منذ أن تمت الإطاحة بنظام بن علي المستبد، وأعادت بذلك الجدل حول الثورة الشعبية كأسلوب لفرض التغيير السياسي. وهكذا دخل التونسيون في عملية انتقال ديمقراطي صعبة وهشة، لكنها حققت إلى حد الآن ما فشل فيه آخرون في العالم العربي.
بقلم: صلاح الدين الجورشي – تونس
وفي لحظات الإختيار للنظام السياسي الجديد، تبنى عموم التونسيين الديمقراطية كمنظومة حكم، لكنهم لم يُدركوا – بعد مرور أكثر من أربع سنوات من مغامرتهم – حجم الرهان الذي انخرطوا فيه دون تخطيط مُسبق. بل إن النخبة التونسية لا تزال تستكشف حتى الآن تداعيات التحول الجاري، وتحاول جاهدة أن تهضم هذه الديمقراطية الناشئة.
فرصة لتبادل الرأي
الديمقراطية أسلوب في إدارة الشأن العام، لكن الديمقراطية “ديمقراطيات”. وقد وفر انعقاد هذا المنتدى العالمي فرصة لعديد السياسيين والمثقفين ونشطاء من المجتمع المدني وجزء من الطلبة لتبادل الرأي حول طبيعة النظام السياسي الذي حدد الدستور أهم ملامحه.
بدا واضحا أن الذين صاغوا الدستور التونسي انحازوا إلى الديمقراطية التشاركية. وهو ما أشار إليه أستاذ القانون الدستوري عياض بن عاشور في محاضرته التي افتتح بها فعاليات المنتدى حيث ذكر في معرض توصيفه للتجربة التونسية أنه “يُفضّل الديمقراطية التشاركية على الديمقراطية المباشرة لكونها أقرب إلى الواقع التونسي وهو ما يجعلها قابلة للتنفيذ أكثر من غيرها”.
لا يستطيع التونسيون الإنتقال سريعا وبدون مقدمات إلى الديمقراطية المباشرة، لكن بإمكانهم أن يقتربوا منها بشكل متدرج ووفق مسار طويل وصعب. وما تحقق إلى حد الآن يمثل إنجازا تاريخيا بالنسبة لشعب حُرم من ممارسة حقه في السيادة لفترة طويلة، وخاصة منذ تأسيس الدولة الوطنية. فتنظيم انتخابات حرة، والتوصل إلى صياغة دستور توافقي، هما خطوتان على غاية من الأهمية بالنسبة لشعب عربي صغير يتحرك في محيط إقليمي مضطرب يسوده حاليا عنف تتسع رقعته بشكل تصاعدي، لكن مع ذلك فإن ما حققه التونسيون يبقى في حاجة للحماية، وإلى هضم نتائجه من قبل معظم المواطنين على الأقل.
عند التأمل، يتضح أن ما تحقق لم يتجاوز – من الناحية العملية – عتبة الديمقراطية التمثيلية. لقد خرج المواطنون في ثلاث مناسبات خلال السنوات الأربعة ونصف الماضية للإدلاء بأصواتهم واختيار ممثلين لهم في المجلس الوطني التأسيسي، ثم في مجلس نواب الشعب، وأخيرا لانتخاب رئيس للجمهورية. وفي كل مناسبة يتحول المشهد إلى أقلية فاعلة في مقابل شعب يُتابع ما يجري على خشبة المسرح السياسي.
الثقة في تغيير الأوضاع والسياسات عن طريق صندوق الإقتراع لم تترسخ بالقدر الكافي لدى عموم المواطنين صلاح الدين الجورشي
إلى جانب ذلك، يمارس المواطنون ضغوطا متنوعة على الفاعلين السياسيين من خلال الإعلام وأشكال الإحتجاج واستطلاعات الرأي واللجوء إلى الإضراب والإعتصام. ولكن أهم مؤشر يدل على أن التونسيين لا يزالون يتدربون على الديمقراطية التمثيلية يتمثل في تراجع نسب مشاركتهم في المواعيد الإنتخابية المتتالية رغم قصر التجربة ومحدوديتها في الزمن. وهذا الإنخفاض الملحوظ في نسب المشاركة في الإنتخابات دليل على أن الثقة في تغيير الأوضاع والسياسات عن طريق صندوق الإقتراع لم تترسخ بالقدر الكافي لدى عموم المواطنين.
المطروح حاليا في تونس هو وضع آليات من شأنها أن تدفع بالتونسيين نحو موقع المشاركة الفعلية في الحياة العامة. وهذا ما يعمل على ترسيخه المجتمع المدني من خلال مختلف نشاطاته ومبادراته. فرغم العوائق التي يعاني منها المجتمع المدني المحلي إلا أنه أدى ولا يزال أدورا تعديلية هامة في أكثر من مناسبة. لكن الإنتقال إلى الشوط الثاني من الإصلاح السياسي سيكون حاسما في هذا الإتجاه.
فخلال السنة القادمة (أي 2016) سيشرع التونسيون في إرساء الحكم المحلي، وذلك من خلال الإنتخابات البلدية ثم انتخابات المجالس الجهوية. وهو باب هام في الدستور الجديد من المتوقع أن يحدث البدء في إنجازه منعرجا قويا وحاسما في بنية النظام السياسي التونسي، وذلك بفضل الصلاحيات الواسعة التي تم منحها للبلديات والمجالس. لكن في المقابل سيتعين على المواطنين الإرتقاء إلى مستوى الوعي بضرورة عدم وضع المصالح الفردية والمحلية في تناقض وتعارض مع المصالح الوطنية. فمن حقهم المطالبة بالإستفادة من الثروات الموجودة في جهاتهم، ولكن شريطة ألا يكون ذلك على حساب التوازنات الوطنية المترابطة. إذ هناك وطن، وضمن هذا الوطن المشترك تُوجد المناطق المحلية.
تحديات مُرتقبة
هذا الإنتقال من السلطة المركزية إلى السلطة المحلية لن يكون عملا يسيرا وبدون صعوبات. ومن بين التحديات التي ستواجه هذا المسار:
1. قدرة بقايا النظام القديم والمنظومة القديمة على مقاومة الإصلاح، إذ لا تزال هذه الأطراف تتمتع بنفوذ واسع في القرى والولايات (المحافظات) البعيدة عن العاصمة، وخاصة في المناطق المهمشة. هذه البقايا المستندة على أصحاب المصالح المحلية والتي تضررت من التغييرات الواسعة التي حصلت في بنية النظام السياسي ستحاول من خلال اللوبيات الصغيرة والمتشعبة تجميع قواها لاستعادة نفوذها بوسائل متعددة.
2. حرص الأحزاب الكبرى على افتكاك أكثر مقاعد ممكنة داخل البلديات والمجلس الجهوية. وهي بصدد الإستعداد لتجنيد أنصارها في كل مكان وتقديم نفسها على أساس أنها الأقدر على ضمان مصالح المجتمع المحلي. وإذ يبقى هذا الطموح مشروعا من الزاوية الإنتخابية والديمقراطية والحزبية، إلا أن من شأن هذا التنافس الحزبي أن يحُدّ من إمكانية صعود قوى مدنية في هذه الجهات يُفترض أن توفر فرصة للمواطنين للتأثير في السياسات المحلية.
3. الخشية من أن تنجح البنى القديمة السابقة لنشوء الدولة الوطنية في اختطاف السلطة المحلية المزمع بناؤها، وتتمثل هذه البنى القديمة بالخصوص في العشائر والأفخاذ إلى جانب العصبيات الجهوية، وهو ما من شأنه أن ينحرف بالسلطة المحلية ليحولها إلى أشبه بمراكز نفوذ تُفرغ هذه السلطة من مضامينها المدنية والديمقراطية.
لا شك في أن طريق تونس نحو الوصول إلى الديمقراطية الفعلية والمؤسساتية “لا يزال طويلا”، كما ورد في البيان الختامي رابط خارجيللمنتدى العالمي للديمقراطية المباشرة، لكن من المؤكد أن ما تعيشه البلاد من حراك في مختلف الإتجاهات وعلى جميع الأصعدة يؤشر على أن هذا البلد الصغير يمكنه أن يتغلب على مختلف المخاطر التي تهدد استقراره من كل جانب. فالديمقراطية ثقافة ومعاناة جماعية إلى جانب كونها حالة متحركة تقوم على التراكم وتعديل الزوايا باستمرار، وهو ما جعل من آلية التوافق ضرورة مرحلية وإستراتيجية على غاية من الأهمية والنجاعة.
الأفكار الواردة في هذا المقال لا تعبّر سوى عن آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر swissinfo.ch.
تستضيف swissinfo.ch من حين لآخر بعض المُساهمات الخارجية المختارة. وسوف ننشر بانتظام نصوصا مختارة لخبراء، وصانعي قرار، ومراقبين متميّزين، لتقديم وجهات نظر تتسم بالعمق والجدّة والطرافة حول سويسرا أو بعض القضايا المثيرة ذات العلاقة بهذا البلد. ويبقى الهدف في نهاية المطاف تفعيل الحوار ومزيد إثراء النقاش العام.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.