الركضُ وراء الأجانب الأثرياء.. رياضة عالمية
يجتذب عدد من الكانتونات السويسرية الأثرياء الأجانب من خلال منحهم مزايا ضريبية سخيّـة. ولكن دولا مُحيطة بالكنفدرالية، مثل بريطانيا والبرتغال، تقدّم أيضا للأغنياء عروضا مُثيرة حتى أنها أصبحت من ضمن الوِجهات المُفضلة لديهم. بل إن فرنسا، السبّاقة إلى التنديد بهجرة كبار دافعي الضرائب من رعاياها، تسعى هي الأخرى إلى إغراء الثروات الأجنبية.
من 21 إلى 23 نوفمبر 2014، ستواجه سويسرا فرنسا في ثاني مباراة نهائية لكأس ديفيس في تاريخها. الحدث سيتجاوز هذه المرة إطاره الرياضي ليكتسي بُعدا سياسيا خاصا: فريق المدرب الفرنسي أرنو كليمون، “دافع الضرائب المهاجر” السابق، سيكون مُكونا فقط من لاعبين يقيمون في سويسرا.
لكن نظام الضريبة الجزافية المُعتمد في سويسرا، والذي يحظى بشعبية كبيرة بين الفنانين والرياضيين الفرنسيين، أًصبح مُهددا بالزوال بعد إطلاق المبادرة الشعبية “أوقفوا المزايا الضريبية الممنوحة للميليونيرات” (الداعية إلى إلغاء الضريبة الجزافية في كافة أنحاء الكنفدرالية)، والتي سيُصوت عليها الناخبون بعد أسبوع فقط من المباراة النهائية التي ستكون “100% سويسرية” نوعا ما. ويذكر أن اهتمام هذا النظام الضريبي الخصوصي يتركز على حجم النفقات المعيشة للمقيمين من الأثرياء الأجانب فيما يغض النظر تماما عن الحجم الحقيقي لثرواتهم أو لمداخيلهم الأخرى في الخارج.
المزيد
أي مصير للضريبة الجُزافية في سويسرا؟
فما هو البلد الذي قد يجتذب جو-ويلفريد تسونغا، وريشار غاسكي، أو جيل سيمون إذا ما قرر الشعب السويسري يوم 30 نوفمبر الجاري دعم اليسار في معركته لتحقيق مزيد من العدالة الضريبية؟ “بلا شك بريطانيا أو البرتغال، فهما البلدان الأكثر جاذبية في أوروبا في الوقت الحالي بالنسبة للأشخاص الذين لا يمارسون فيهما نشاطا ربحيا”. هذه هي قناعة فيليب كينيل، المحامي الخبير في الشؤون الضريبية والمتخصص في انتقال الأثرياء من بلد لآخر بحثا عن أفضل الإمتيازات الضريبية.
نظام قريب من النموذج البريطاني
تُعتبر الضريبة الجزافية، بصيغتها المُعتمدة في سويسرا عام 1982 فريدةً من نوعها في أوروبا، إذا ما استثنينا إمارة ليختنشتاين المُجاورة. ولكن النظام البريطاني قريب منها جدا، لأن “صفة الساكن “غير المُقيم” (أي أن إقامته لا تتجاوز عددا مُعينا من الأيام سنويا في البلاد) تتيح مثلا لفنان فرنسي مستقر في لندن عدم إخضاع دخله المكتسب في الخارج إلى الضرائب شريطة ألا يُحوّله إلى بريطانيا. في المقابل، يمكنه العمل في هذا البلد ودفع الضرائب شأنه شأن أيّ مواطن بريطاني، وهذا ما لا تسمح به الضريبة الجزافية السويسرية”، مثلما يشرح فانسون سيمون، المسؤول عن القضايا الضريبية في رابطة الشركات السويسرية “economiesuisseرابط خارجي“، أحد أبرز الإتحادات الإقتصادية في البلاد.
وعلى الراغبين في الإستفادة من مثل هذا الوضع لأكثر من سبع سنوات دفع ضريبة جزافية تصل قيمتها إلى 30000 جنيه إسترليني سنويارابط خارجي، (تصبح قيمتها 50000 جنيه ابتداءً من السنة الثانية عشرة). وقد تمّ اعتماد هذه الضريبة عام 2012 على إثر العديد من الإنتقادات الداخلية التي وُجِّهت لـ 123000 من هؤلاء “السكان غير المُقيمين” في بريطانيا، وفقا لأرقام نشرتها صحيفة فاينانشال تايمز. وعلى سبيل المقارنة، يُناهز عدد المُستفيدين من الضريبية الجُزافية في سويسرا 6000.
وفي البرتغال، يُعفى الأجانب الذين لا يمارسون نشاطا مأجورا في البلاد من دفع الضرائب لمدة عشرة أعوام. ويوضح فانسون سيمون أن “هذا النظام الذي اعتُمد عام 2009، خلال الأزمة المالية، جذاب جدا بالنسبة لأصحاب الإيرادات (مستثمرون، مالكو عقارات، أرامل، مُساهمون في شركات،…) فهو يسمح باستقطاب أشخاص يمتلكون ثروة مُعينة، فضلا عن مُتقاعدين عاديين”.
حتى فرنسا تلتحق بالركب
في السياق، يُميّز فيليب كينيل بين نوعين من البلدان في أوروبا: فئة كرّست وضعا خاصا للرعايا الأجانب، وفئة فضّلت اعتماد نظام ضريبي جذاب لكافة الأِفراد الميسورين، بغض النظر عن جنسياتهم. ونجد في الفئة الأولى، فضلا عن بريطانيا والبرتغال، مالطا، وأيرلندا، وهولندا، والنمسا. وتتضمن الفئة الثانية لوكسمبورغ، وإيطاليا، وجميع بلدان أوروبا الشرقية بالإضافة إلى بلجيكا.
“شراء حق الإقامة”؟
في الأصل، خُصِّصت الضريبة الجزافية في المقام الأول للأثرياء الأجانب الذين قدموا لقضاء تقاعدهم في سويسرا. وجراء توقيع اتفاقية حرية تنقل الأشخاص مع الإتحاد الأوروبي، ألغي شرط الحد الأدنى لسن المتقاعدين: بات يمكن لكافة الرعايا الأوروبيين الذين لا يمارسون نشاطا ربحيا في سويسرا الإقامة في الكنفدرالية شريطة قدرتهم على تلبية حاجياتهم وحاجيات أسرهم.
ويبقى عمر 55 عاما كحد الأدنى للسّن صالحا للرعايا غير الأوروبيين. فباستطاعتهم الإقامة في سويسرا بدون ممارسة نشاط ربحي، شريطة توفرهم على علاقات شخصية خاصة بسويسرا، وعلى الإمكانيات المالية الضرورية.
غير أن بعض الإستثناءات تظل ممكنة، خصوصا إذا كانت “المصالح الكبرى للكانتونات في المجال الضريبي” على المحك، على النحو المنصوص عليه في المرسوم المتعلق بدخول سويسرا، والإقامة فيها، وممارسة نشاط ربحي. وقد تمت إضافة هذه المادة عام 2007 بناء على طلب كريستوف بلوخر (أبرز وجوه حزب الشعب السويسري، يمين شعبوي)، الذي كان آنذاك وزير العدل والشرطة.
وتعتبر هذه الممارسة في نظر المعارضين للضريبة الجزافية أقرب ما يكون إلى “شراء” حقّ الإقامة من قبل “عاطلين عن العمل وهميين” غير أوروبيين. ومن الأمثلة العديدة التي أبرزتها مقالات الصحف: ابنة الرئيس الأوزبكستاني لولا كاريموفا، ونجلة رئيس كازاخستان دينارا كوليباييفا، والملياردير الروسي فيكتور فيكسيلبيرغ، ومؤخرا الملياردير السابق والمعارض الروسي ميخائيل خودوركوفسكي.
swissinfo.ch
وقد تحوّلت بلجيكا إلى ملاذ آمن للكثير من الفرنسيين، بما أن بروكسل لا تفرض الضرائب لا على الثروة ولا على زيادة قيمة الأصول الخاصة. ورغم استيائها الشديد من ممارسات جارتيها البلجيكية والسويسرية اللتين حرمتاها من عدد كبير من دافعي الضرائب، فإن فرنسا ليست مثالية في هذا المجال وفقا لفيليب الذي يقول باستنكار: “يُعفى الأثرياء الأجانب المقيمون في فرنسا من ضريبة الثروة لمدة خمس سنوات. والأهم من ذلك هي المعاملة الخاصة التي تقدمها فرنسا لرعايا قطررابط خارجي، الذين يستفيدون من هذا الإعفاء مدى الحياة إذا ما غادروا البلاد رسميا كل خمس سنوات لمدة ثلاثة أعوام”.
أما من لا يريد دفع الضرائب تماما، فعليه الذهاب إلى بلدان صغيرة مثل إمارتي أندورا وموناكو. وقد اختار هذا الحل مُتسابق الفورمولا 1 لويس هاميلتون الذي غادر سويسرا عام 2012 ليستقر في إمارة موناكو رغم أن أسعار العقارات فيها تُعدّ من بين الأعلى في العالم. وهناك من يُفضل وجهات أكثر غرابة مثل جزر البهاماس Bahamas وبليز Belize. وخارج أوروبا، تحاول أيضا كل من كندا، والولايات المتحدة، والمغرب، وهونغ كونغ، وسنغافورة، وإسرائيل، والصين، واليابان، وتايلاند، جذب الأجانب الأثرياء بطريقتها الخاصة.
“قد لا تكون صفقة رابحة..”
بالنسبة لأنصار إلغاء الضرائب الجزافية، تثبت هذه المنافسة الــموجودة بالفعل بأن جاذبية سويسرا لا تعتمد فقط على قواعدها الضريبية، وبأنها لن تفقدها في حال إلغاء هذا النظام الخاص. واستنادا إلى تجربة كانتون زيورخ الذي ألغى الضريبة الجزافية عام 2010، يُقدر ماريوس برولهارترابط خارجي، أستاذ الإقتصاد في جامعة لوزان، نسبة الأشخاص المستفيدين من هذه الضريبية في سويسرا الذين قد يغادرون الكنفدرالية في حال تصويت الناخبين يوم 30 نوفمبر بـ “نعم”، بين 20 و50%.
ولا يريد البروفيسور برولهارت دعم هذا المعسكر أو ذاك، ولكنه يستنتج أن “التوقعات المُخيفة والمتشائمة للمعارضين في زيورخ لم تتحقق لأنه غالبا ما تحدث مغالاة في التكهن بقدرة هذه الفئة من دافعي الضرائب على التنقل. وسويسرا تمتلك ورقات رابحة أخرى غير الضريبة الجزافية [لاجتذاب الأثرياء]”. ولعل أبرزها جودة الحياة، والإستقرار، والأمن، والعروض الثقافية، ومعدل ضريبي عادي منخفض نسبيا، وهذه عوامل تجعل من سويسرا في الواقع بلدا مُحببا بالطبع للمُغتربين.
ويعتقد ماريوس برولهارت أن سويسرا ربما تحقق مكاسب من وراء إلغاء هذا النظام المثير للجدل، لأن خسارة المبالغ الضريبية التي ستنجم عن مغادرة فئة من الأجانب الأثرياء قد تُعوّض بالزيادة الضريبية التي ستدفعها فئة الأجانب الأغنياء الذين سيقررون البقاء في سويسرا، كما أن بعض الفوائد غير المباشرة ستكون أعلى أيضا: “ويشرح برولهارت ذلك قائلا: “إن النظام الحالي يشجع هؤلاء الأشخاص على التقليل من نفقاتهم في سويسرا [لأن القاعدة الضريبية تستند في الواقع إلى نمط حياة دافع الضرائب في سويسرا وليس دخله وثروته الحقيقيين] وعلى العيش بقدر أكبر من الرفاهية والترف في الخارج. وفي حال اعتماد نظام ضريبي عادي، قد تسقط كافة تلك الحوافز. وفي نهاية المطاف، ربما لا تمثل الضريبة الجزافية صفقة رابحة بالنسبة لبلادنا”.
تحدي البقاء ضمن البلدان المُفضلة
من جانبه، لا يريد فانسون سيمون إثارة مخاطر وهمية، ولكنه يخشى من هجرة أكثر من نصف دافعي الضرائب الأثرياء لأن “معظم البلدان الأوروبية لم تعُـد تفرض ضرائب على الثروة، أما في سويسرا فيمكن أن تشكل هذه الضريبة عبئا ثقيلا على الأجانب الأثرياء، خاصة في الكانتونات الروماندية (المتحدثة بالفرنسية) والمعنية أكثر بمبادرة 30 نوفمبر”.
أما فيليب كينيل الذي يتواصل يوميا مع المعنيين الرئيسيين، فيبدو أكثر قلقا وتشاؤما، إذ يقول: “إن جمال المناظر الطبيعية أو إمكانية السفر من باريس إلى بروكسل في ظرف ساعة وعشرين دقيقة من العوامل التي تدخل في عين الإعتبار لإتخاذ قرار الإنتقال للإقامة في سويسرا أو بلجيكا، ولكن شريطة أن يكون البلد مُدرجا على قائمة الدول التي توفر شروطا إطارية مواتية. إن عُـملائي قدِموا إلى سويسرا من أجل المزايا الضريبية، وهم سيُغادرونها على الفور في حال اختفاء تلك المزايا”.
كيف يعمل نظام الضريبة الجُزافيّة؟
يتركز اهتمام هذا النظام الضريبي الخصوصي على حجم النفقات المعيشة للمقيمين من الأثرياء الأجانب فيما يغض النظر تماما عن الحجم الحقيقي لثرواتهم أو لمداخيلهم الأخرى في الخارج. وهو غير مُتاح إلا للأشخاص الذين لا يُمارسون أي نشاط تجاري داخل سويسرا، إلا أنه بإمكان نجوم الرياضة والفنانين الإستفادة منه أيضا.
في عام 2012، قررت الحكومة الفدرالية تشديد القوانين المنظمة للضريبة الجُزافية نظرا لتصاعد المعارضة لهذه الإمتيازات الجبائية في صفوف الناخبين السويسريين. فابتداء من عام 2016، لن تقل قيمة الضرائب المستوجبة على المتمتعين بهذا النظام عن سبعة أضعاف القيمة الإيجارية للبيت أو الفيلا أو القصر الذي يُقيمون فيه على مستوى الكانتون والفدرالية (مقابل خمسة أضعاف قيمة الملكية في الوقت الحالي).
إضافة إلى ذلك، يتعين على المقيمين الأجانب الراغبين في الإستفادة من نظام الضريبة الجُزافية إقامة الدليل على توفرهم على دخل سنوي لا يقل عن 400 ألف فرنك. فعلى سبيل المثال، فإن أجنبيا يقتني مسكنا في سويسرا تقدر قيمته الكرائية بخمسة آلاف (5000) فرنك في الشهر سيدفع ضريبة لا تقل عن 420 ألف فرنك (5000 فرنك ضارب 12 شهر ضارب 7 أضعاف). ويُمكن أيضا احتساب النفقات الأخرى كالسيارات واليخوت وأجور المدارس وغيرها عند تحديد القيمة النهائية للضريبة السنوية المستوجبة.
يُشار إلى أنه بإمكان الأجانب الوافدين إلى سويسرا للمرة الأولى أو العائدين إليها بعد فترة غياب لا تقل عن عشرة (10) أعوام مطالبة السلطات الجبائية بتمتيعهم بنظام الضريبة الجُزافية.
(ترجمته من الفرنسية وعالجته: إصلاح بخات)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.