العدالة الإنتقالية تحقق اختراقات نسبية في معالجة مخلفات الصراعات
على الرغم من الجهود الكبيرة المبذولة، ظلت العدالة الانتقالية عاجزة عن تسجيل اختراق بالنسبة للحرب السورية وتداعياتها التي تضع منطقة الشرق الاوسط باكملها على كفّ عفريت. في المقابل، يعرف هذا الملف تطوّرات مثيرة في إفريقيا. بيير حزان المؤسس المشارك للموقع الإخباري والحواري الجديد "justiceinfo.net" المدعوم سويسريا يسلط الضوء على هذا الموضوع.
ومنذ إنشاء المحكمة الجنائية الدوليةرابط خارجي (CPI) في عام 2002، نمت عدالة دولية لمساعدة المجتمعات التي مزّقتها الحروب على إعادة بناء كيانها. بالموازاة مع ذلك، تكوّنت آليات مثل لجان الحقيقة والمصالحة لدعم العمل القضائي، وفي بعض الأحيان الحلول مكانه حتى، في محاولة لتضميد الجراح التي ظلت مفتوحة، ورأب الصدع الذي خلفته صراعات، هي صراعات داخلية في الغالب.
لتسليط الضوء على هذه القضية، أطلق بيير حزان، المتخصص في ملف الجرائم الجماعية بالتعاون مع فرانسوا سيرجنت، صحفي سابق باليومية الفرنسية “لبيراسيون”، وجون – ماري إيتّار، مدير عام مؤسسة إيرونديل، موقع ثنائي اللغةرابط خارجي (فرنسي / إنجليزي) يتركّز عمله على القضايا القانونية والسياسية والإنسانية خاصة.
والغرض في النهاية، مساعدة المعتدين والمعتدى عليهم على التعايش بطريقة سلمية بعد توقّف الاعمال العدائية وفقا لبيير حزان، الذي أجرت معه swissinfo.ch هذا الحوار.
swissinfo.ch: لماذا إطلاق هذا الموقع الآن؟
بيير حزان: أوّلا، نحن نشهد حاليا حالة من الإستقطاب الحاد والذي لا يصدّق بين تصوّر مثالي للعدالة الدولية والإنتقالية التي ينظر إليها كما لو انها عصا سحرية، رؤية لا اتفق معها، ورؤية أخرى ساخرة ومستهزئة، والتي برأيها هذه العدالة متلاعب بها سياسيا، وتقوم بدور الإعذار بالنسبة للضمير الغربي المتواطئ، وهذه أيضا تبدو لي غير صحيحة أيضا.
ومن هنا جاءت فكرة إطلاق هذا الموقع الإخباري والحواري للوقوف على الإمكانيات الحقيقية المتوفرة في هذا المجال، وعلى النجاحات والإخفاقات التي ميّزت مسيرة عمل آليات المصالحة هذه، وألا نتردد في قول الحقيقة عندما تبدو غير فعّالة ويثبت التلاعب بها. وهذا الموقع وسيلة إعلام مستقلة.
swissinfo.ch: مع ظهور داعش، نحن نشهد فظائع تقدّم بطريقة استعراضية واحتفالية. هل هو تحدّ جديد بالنسبة لحقوق الإنسان ودولة القانون؟
بيير حزّان: مجموعة داعش ليست إلا أحد أعراض عالم متغيّررابط خارجي يتميّز بظهور أشكال من التهديدات الجديدة. ومن هنا تأتي الاهمية المتجدّدة لفك طلاسم هذا العالم الذي يبدو انه فاقد للبوصلة. واليوم، نطلب من القانون إعطاء أكثر مما يستطيع. والصراعات تجد نهايتها إما عن طريق استعمال السلاح او من خلال المفاوضات. ولكن إذا كانت داعش على هذه الدرجة من القوة، فذلك أيضا لأنه ولمدة عقود طويلة، تم انتهاك بشكل منهجي سيادة القانون وحقوق الإنسان في العراق وسوريا. هذا الوضع اوجد ارضية خصبة لكي يصبح بالإمكان لداعش مثلا أن تمارس كل هذا العنف الفظيع.
موقع للفهم وليس لإصدار احكام
Justiceinfo.netرابط خارجي هو موقع ثنائي اللغة (الفرنسية/ الإنجليزية) يتركّز فيه الجهد على الردود القانونية والسياسية والإنسانية على الجرائم الجماعية والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان المرتكبة خلال الحروب وفترات الحكم الدكتاتوري.
هذا الموقع الإلكتروني للإعلام وللحوار يسلط الضوء بشكل خاص على العدالة الانتقالية المعتمدة اكثر فأكثر لمساعدة المجتمعات ضحية الحروب والإنتهاكات الخطيرة.
نشأ هذا المشروع نتيجة شراكة بين مؤسسة إيرونديل (جمعية سويسرية تنشأ محطات إذاعية مستقلة في مناطق الصراعات في افريقيا) ومركز أوكسفورد لبحوث العدالة الإنتقاليةرابط خارجي (OTJR)رابط خارجي ومبادرة هارفارد الإنسانيةرابط خارجي (HHI) وبدعم من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون رابط خارجي(DDCرابط خارجي) وبرنامج الامم المتحدة للتنمية بتونسرابط خارجي (PNUDرابط خارجي).
ومن خلال الجمع بين الإعلام والتحليل، والتقارير والفكر الأكاديمي والشهادات الحية، يقدّم هذا الموقع رؤية مستقلة حول المجتمعات بعد أن تسقط في العنف ثم تحاول النهوض من جديد.
swissinfo.ch: مؤخرا اعتقلت السلطات السويسرية ناصر أوريتش، القائد السابق للقوات المسلمة في سربرينتشا خلال الحرب التي امتدت بين 1992 و1995. وتتهمه صربيا بارتكاب جرائم حرب ضد مدنيين من صرب البوسنة خلال تلك الحرب. هل يتعلّق الأمر في هذه الحالة بسوء توظيف للعدالة الدولية؟
بيير حزّان: قضية ناصر أوريتشرابط خارجي هي أحدث حلقة في حروب الذاكرة المشتعلةرابط خارجي في منطقة البلقان. وهي قضية سياسية حد النخاع. وما هي الرواية التي ستكون لها الغلبة لأسباب ومعنى حروب البلقان في نهاية القرن العشرين؟
في منطقة البلقان، جميع الاطراف المتنازعة تسعى إلى توظيف المحاكم من اجل تعزيز رؤيتها لتاريخ الحروب في التسعينات. عمليا، قرار تسليم ناصر أوريتش من عدمه، يعود في النهاية إلى الدولة السويسرية وإلى القضاة الذين يجب ان يقوموا بعملهم. وهذه القضية مثيرة للقلق لأن هذا الشخص برّأته المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا سابقا.
ما هو مؤكّد أنه لم يكن هناك عصر ذهبي بالنسبة للعدالة الدولية. وكانت السياسة دوما مقترنة بهذه العمليات القضائية. فمحاكمات نورمبرغ كانت محاكمة المنتصرين للمنهزمين. ولابد من الإشارة إلى أن المحاكم العسكرية التابعة للحلفاء قد لعبت دورا هاما للغاية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بإضفاء الطابع الرسمي على القواعد الجديدة لحماية المدنيين. ونذكّر هنا بان تهمة “جرائم ضد الإنسانية” هي احدى المفاهيم التي نشأت مع محاكمات نورمبرغ.
swissinfo.ch: في علاقة بقضية ناصر أوريتش، هل يمكن أن نقول أن سويسرا سقطت في الفخ؟
بيير حزّان: أثناء جلسات محاكمته في لاهاي، خلصت المحكمة الجنائية الدولية إلى أن جرائم قد ارتكبت ضد المدنيين الصرب قرب سربرنيتشا. لكن سلسلة القيادة لم تصل إلى ناصر اوريتش نفسه، وفقا للمحكمة، وبالتالي أخلي سبيله. هل عُثِر على معطيات جديدة لم تلحق بالملف سابقا وأمكن ذلك الآن؟ من خلال دراسة هذه المعطيات الجديدة، إن وجدت، بالإمكان أن نحكم إن كانت سويسرا قد وقعت في الفخ أن لا!
المزيد
قـهر وغـــُبــار بعد الدّمــار
swissinfo.ch: مؤخّرا كان الرئيس السوداني عمر البشير الملاحق من قبل محكمة الجنايات الدولية في دولة جنوب افريقيا لحضور احدث قمة للإتحاد الإفريقي، فرصة انتهزتها إحدى المحاكم في البلاد للمطالبة بتطبيق طلب المحكمة الجنائية الدولية. هل هذا مؤشر على حصول تحوّلا في افريقيا، حتى وإن تمكّن الرئيس السوداني في آخر المطاف من العودة إلى بلاده؟
بيار حزّان: مع الملاحظة أن الرئيس البشير قد تسرّب عائدا إلى بلاده بهدوء عبر مطار عسكري. ومما لاشك فيه أن على جنوب افريقيا توضيح ما آلت إليه هذه القضية. ونحن نميل إلى تخيّل أن كل من في افريقيا معاد إلى المحكمة الجنائية الدولية. والحقيقة أن الصورة ليست بهذا الوضوح والحسم.
من جهة، لدينا عدد من رؤساء الدول الذين يسعون إلى استغلال شكل من اشكال التضامن الإفريقي باتهام المحكمة بممارسة نوع جديد من “القضاء الامبريالي”. وهم يحاولون بذلك اللعب على المشاعر القديمة المناهضة للاستعمار، لأنه في الحقيقة طويلا ما استخدم القانون كأداة لبسط الهيمنة من طرف القوى الاستعمارية. ومن السهل أن ينظر إلى محكمة يوجد مقرها في لاهاي بعين الريبة والشك من طرف شعوب متعلّقة جدا بسيادة أوطانها.
بعض الحالات الاخرى تظهر التقدّم المحرز. قريبا ستبدأ محاكمة الرئيس التشادي السابق حسين حبري المتهم بارتكاب الآلاف من عمليات القتل والتعذيب. وهذه هي المرة الاولى التي تقوم فيها محكمة أنشأها الإتحاد الإفريقي بمقاضاة رئيس أفريقي سابق. وأكثر من ذلك في بلد آخر هو السنغال. إنه تطوّر بالغ الأهمية، لم يكن بالإمكان تصوّر حدوثه قبل 10 سنوات.
كذلك اعتمدت جمهورية افريقيا الوسطى التي مزّقتها العام الماضي حرب اهلية قانونا يسمح بإنشاء محكمة جنائية خاصة بمشاركة دولية. في الوقت نفسه الذي طلبت فيه دعم المحكمة الجنائية الدولية عملت على إنشاء لجنة لتقصي الحقائق وإعادة بناء نظامها القضائي.
swissinfo.ch: هل يمكن القول إذن أن العدالة الانتقالية بصدد ترسيخ أقدامها؟
بيير حزّان: أعتقد أن الامر كذلك لأن الدول هي أكثر ضعفا، وأن هناك حاجة ملحة للمعايير والقواعد. ابتداءً من القرن التاسع عشر وحتى انتهاء الحرب الباردة، كانت الدول قوية جدا. أما الآن، التقدم التكنولوجي الذي لا يعترف بالحدود، وعمليات الخوصصة، والعولمة، كلها تضعف الدول التي أصبحت مترابطة على نحو متزايد. وأغلب الصراعات والنزاعات لا تتواجه فيها دول بل تحصل داخل الدولة الواحدة. وأزيد من 80% من الضحايا هم من المدنيين. وبمجرّد ما تنتهي العمليات العدائية، يطرح موضوع إعادة بناء النسيج المجتمعي بإلحاح؟ وبأي ادوات يتحقق ذلك؟ والجواب يمرّ دائما عن طريق العدالة الانتقالية، او لجان تقصي الحقائق، او مؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان، مع الإشارة إلى أن إعادة بناء المجتمعات عن عمليات العنف الجماعي هو من أصعب ما يكون.
وللمحكمة الجنائية الدولية الفضل الكبير في كونها احدثت زخما يدفع الحكومات إلى أخذ المبادرة حتى لا تفتح المجال لتدخّل العدالة الدولية، وللتذكير، هي الملاذ الأخير للضحايا. ومن هذه البلدان التي تكوّن لجان تحقيق خاصة بها، نجد تلك المنخرطة في عمليات عسكرية، مثل فرنسا وبريطانيا وإسرائيل.
المزيد
رواندا.. الطريق الطويلة نحو السلام والمصالحة
كثيرون ينتقدون المحكمة الجنائية الدولية لكونها لم توجه الإتهام خارج القارة الإفريقية. وهذا صحيح. ولكن من المحتمل أن يتجه عمل هذه المحكمة في المستقبل القريب إلى بلدان اخرى مثل جورجيا، وفلسطين، وإسرائيل، والعراق، وأفغانستان.
هو إذن نظام عدالة دولية لم يكتمل بعدُ. ولكن لأن أي من الولايات المتحدة، أو الصين أو روسيا هي جزء من هذا النظام، فإن ذلك يوجه ضربة موجعة للطابع الدولي للمحكمة الجنائية الدولية.
خلف هذه القضايا القانونية والسياسية، هذه الأنظمة القضائية والتصالحية هي تخص في المقام الأوّل المجموعات البشرية التي تحاول أن تتعايش مع بعضها البعض بعد أحداث دموية. وما يأمله الضحايا في المقام الأوّل هو الإعتراف بما عانوه، وأن تذكر قصصهم من أجل استعادة كرامتهم، وأن يعيش أبناؤهم حياة أفضل دون أن يلاقوا ما عاناه آباؤهم.
swissinfo.ch: في حالة سوريا، نشهد عودة لبشار الأسد على مسرح الاحداث. أليس من الوهم البحث عن السلام والعدالة في نفس الوقت؟
بيير حزّان: لقد كانت هناك محاولات على مستوى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لإحالة الملف السوري على انظار المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما دفع روسيا والصين إلى رفع الفيتو. أننا نواجه صراعا مروعا حوّل نصف السكان إلى لاجئين ونازحين، وحيث ترتكب جرائم جماعية كل يوم من دون أن يسمح للعدالة الدولية بالتدخّل.
وهذا هو واقع الامر، أي حرب لا تنتهي بسن قانون، بل إما عن طريق التفاوض او من خلال هزيمة أحد أطراف النزاع. والاعتقاد بأن القانون هو حل لتسوية صراع ما هو دليل على مثالية ساذجة.
(نقله من الفرنسية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.