“في سوريا، نتساءل أحيانا أين هي الإنسانية؟”
"الوصول غير المشروط إلى جميع مناطق الصراع في الجحيم السوري".. هو الحق الأساسي الذي تطالب به منذ أزيد من خمسة أعوام اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمات إنسانية أخرى. وبينما تتعثر المحادثات للتوصل إلى حل سياسي، يستمر تدهور الأوضاع بل يتفاقم على الميدان.
شهد يوم الأربعاء 3 فبراير 2016 تعليق محادثات “جنيف 3” بشأن سوريا. حدث ذلك بينما كان نظام دمشق يُحقق، مدعوما بضربات حليفه الروسي، اختراقا عسكريا هاما في منطقة حلب. وقد أدانت الولايات المتحدة وفرنسا الغارات التي استهدفت حسبهما “بشكل حصري تقريبا” جماعات المعارضة والمدنيين، حتى أنها كانت مسؤولة “جزئيا”، في نظرهما، عن وقف محادثات جنيف.
وفي ختام ستة أيام من الترددات والمراوغات والمناقشات التي لم يلتق خلالها أبدا وجها لوجه ممثلو النظام والمعارضة، وبعد عدد من المواعيد المُلغاة أو المؤجلة، أعلن مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا “وقفة” في عملية “جنيف 3” التي ربما تُستأنف لاحقا يوم 25 فبراير.
بعد فشل جنيف 1 و2، كان من المُفترض أن تجمع المحادثات الجديدة، التي انتُزعت تحت الضغط الدولي، مختلف الأطراف للنقاش، ولو بطريقة غير مباشرة، بُغية إطلاق عملية سياسية ووضع حدّ لحرب خلفت في ظرف خمس سنوات أكثر من 260000 قتيل وملايين اللاجئين والمرحّلين الداخليين.
عن الأوضاع الميدانية في سوريا، حاورت swissinfo.ch روبير مارديني، المدير الإقليمي للشرق الأدنى والشرق الأوسط باللجنة الدولية للصليب الأحمررابط خارجي. ولئن كان يأمل بطبيعة الحال في التوصل إلى حل سياسي، فإنه يشدّد على أن المطلب الأكثر إلحاحا هو إنقاذ العدد الكبير من ضحايا الحرب والسكان المُحاصرين.
swissinfo.ch : يستمر الصراع في سوريا منذ ما يقرب من خمس سنوات. ميدانيا، هل تميل المعارك إلى التهدئة أم أنها تحتدم بالأحرى؟
روبير مارديني: تأثير [الصراع] على السكان يظل مدمرا، لأن وصف الوضع بالـ “كارثي” ضعيف للأسف. أعتقد أنه من الصعب جدا اليوم العثور على عائلة سورية لم تتضرّر من هذا النزاع الذي لايزال لسوء الحظ في مرحلة نشطة جدا، ومكثفة جدا، حتى أنه يمكن نعتها بمرحلة تصعيد في ضوء تطورات الأشهر الأخيرة.
إن الحرب تستمر في القتل، والجرح، والتشويه، وتدمير البنية التحتية الأساسية، مثل محطات المياه، والمستشفيات، والمدارس، و[لازالت تتسبب في] نزوح الناس الذين غالبا ما يفرون المعارك ليس للمرة الأولى، بل الثانية، أو الثالثة، وربما الرابعة أو الخامسة.
swissinfo.ch: في الآونة الأخيرة، جرى الحديث كثيرا عن مضايا، إحدى المدن أو المناطق الواقعة تحت الحصار في سوريا. هل تعتبر محاصرة السكان إحدى سمات هذه الفترة من الصراع؟
روبير مارديني: للأسف، [هذه الممارسة] كانت موجودة دائما. وهي لا تخص سوريا لوحدها. تخطر ببالي أيضا مدينة تعز باليمن التي تشهد اليوم نفس الوضع تقريبا. وأيّا كانت الجهة التي تنفذ الحصار، فإن الأثر على المدنيين هو نفسه دائما. في الآونة الأخيرة، تحدثت وسائل الإعلام على نطاق واسع عن حالات مضايا، والفوعة وكفريا، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار بالنسبة للمجتمع الدولي.
لقد دخلت فرقُنا، مع متطوعين من الهلال الأحمر السوري تلك المناطق، وواجهت محنا لا تُطاق بكل بساطة: وجدت أناسا تحولوا إلى هياكل عظمية، أناسا جائعين، أطفالا، ونساءً، وعجزة، بين الحياة والموت. وفوق ذلك، وبغض النظر عن النقص في كلّ شيء – بما أنهم لم يروا قطعة خبز واحدة لمدة أربعة أشهر، ناهيك عن الرعاية الصحية المنعدمة تماما وهلم جرا – كان هؤلاء الناس يعتقدون بأن كوكبنا بأسره تخلى عنهم.
مفاوضات مباشرة بين سويسرا ودمشق
تُجري سويسرا منذ ثلاثة أعوام مفاوضات مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد بشأن القضايا الإنسانية. وتعتبر قناة التواصل هذه مع النظام “فريدة” من نوعها. هذا ما جاء على لسان إيف روسيي، كاتب الدولة السويسري للشؤون الخارجية، يوم الثلاثاء 9 فبراير 2016.
ففي تصريحات أدلى بها على موجات الإذاعة العمومية الناطقة بالألمانية، أكد إيف روسيي أننا “نحن الوحيدون” (الذين نتحاور مع سلطات دمشق حول هذه المسائل)، مشيرا إلى أن هذا الإنخراط يحظى بتقدير كبير من الجانب الآخر. كما أفاد أنه – وقبل كل لقاء من هذه اللقاءات الدبلوماسية – نُعدّ بالإشتراك مع منظمات الغوث الدولية “ما يُمكن تسميته بقائمة الشراءات” (أي الإحتياجات الإنسانية الضرورية).
الدبلوماسي السويسري الرفيع المستوى أوضح أن الحكومة السورية مُرتابة جدا تُجاه هذه المناقشات وأضاف: “نحتاج إلى الوقت. فخلال العام الأول، كانت (الأمور) صعبة جدا، جدا”، على حد قوله.
(المصدر: وكالة الأنباء السويسرية SDA – ATS)
نحن ندرك تماما في اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن عددا قليلا من الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية واللوازم الطبية، ولئن كانت ضرورية بالتأكيد وسمحت بإنقاذ أكثر من روح، فإنها تظل [مساعدات] متواضعة للغاية. ولا يكفي بالطبع القيام بذلك مرة واحدة. ولكي يكون [لتحركاتنا] تأثير، يتعين علينا القيام بها مرارا وتكرارا. الآن، هناك العديد من الحالات الشبيهة بمضايا في سوريا، حيث لا يزال المدنيون يدفعون ثمنا باهظا. ونتساءل أحيانا أين هي الإنسانية وسط كلّ هذا…
swissinfo.ch: اللجنة الدولية للصليب الأحمر تطلب إذن بوضوح وصول المساعدات الدولية بشكل منتظم وغير مشروط لجميع مناطق النزاع…
روبير مارديني: لقد تمّ تقديم الطلب بطريقة سُلطوية للغاية، لا لُبس فيها، وعلى أعلى مستوى في منظمة اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وتم أيضا نقلها عن طريق وكالات الأمم المتحدة. ونحن نطالب أيضا برفع عمليات الحصار التي اعتُمدت في العصور الوسطى لتجويع السكان ومنعهم من إشباع احتياجاتهم الحيوية.
إن مشاكل الوصول التي نواجهها على الميدان هي نتيجة لمجموعة من العوامل: كثافة الصراع، وتعدّد الجهات المسلحة، وحقيقة أن المجال الجوي هو أكثر ازدحاما اليوم، في ظل الغارات التي تجعل كل شيء أكثر تعقيدا. ولسوء الحظ، تظل أطراف النزاع مقتنعة بشدة بأن الحل الوحيد هو الحل العسكري. وبالتالي فإن الآفاق غير مُشجّعة كثيرا.
مع ذلك، فإن مطلبنا بسيط: في انتظار التوصل إلى حل سياسي، ما لا ينبغي التفاوض من أجله هو احترام القانون الإنساني الدولي. للأسف، رأينا أنه انتُهك من قبل جميع الأطراف في السنوات الخمس الماضية. ونحن نطالب بتحرك تقاربي حقا، وصادق، وجاد، من قبل أطراف النزاع أولا، ولكن أيضا من جميع الدول التي لها تأثير على ما يحدث في سوريا، فيما يخص أمور بسيطة مثل “لا تطلقوا النار على سيارة الإسعاف، أو المستشفى، والأطباء، والممرضات، ولا تقصفوا محطات معالجة مياه الشرب، والمدارس، أو المراكز الصحية”.
swissinfo.ch: على ذكر الغارات، لا توجد معلومات كثيرة عن تأثيرها الحقيقي، سواء تلك التي تشنها القوات الروسية أو تلك التي ينفذها التحالف. ألا يتسبب هذا القصف في إضافة طبقة من المعاناة على ما يعيشه السكان بالفعل؟
روبير مارديني: إنها تضيف طبقة من التعقيد في كل الأحوال. لأنه في نهاية المطاف، يعاني الإنسان العادي في سوريا، ولكن أيضا في العراق أو اليمن، من الآثار المجتمعة للغارات الجوية، والإشتباكات على الأرض، ومن وضع إقتصادي يتدهور يوما بعد يوم. لذلك أقول نعم، إنها مشكلة إضافية، ونحن نتطرق إليها أيضا في مناقشات سرية مع الأطراف المعنية.
إننا نُذكرها بأهمية احترام المبادئ الأساسية للإحتراز، والتناسب، والتمييز. بعبارة أوضح: نذكرها باتخاذ جميع الإحتياطات الضرورية لحماية المدنيين، ومحاولة حسن قياس الضربات وفقا للهدف العسكري، وقبل كل شيء، التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، من أشخاص وبنية تحتية.
swissinfo.ch: وماذا عن المناقشات مع تنظيم “الدولة الإسلامية”؟
روبير مارديني: يتمثل عملنا وعمل مندوبينا في الحفاظ على الإتصال مع جميع أطراف النزاع. ولكننا لا نُقـِيم اليوم حوارا منظما مع مجموعة “الدولة الإسلامية”. نحن نشعر بقلق كبير حيال الأوضاع الإنسانية في الأراضي التي تسيطر عليها، وحيث يعيش نحو ستة ملايين نسمة، بين سوريا والعراق.
نحن نساهم قدر المستطاع في الجهود الإنسانية في هذه المناطق، من خلال العمل مع متطوعين من الهلال الأحمر السوري، ومع مُتعاقدين، وسلطات محلية. في عام 2015، استطعنا القيام ببعض الأنشطة في مجال المياه الحيوي في هذه المناطق، بدرجة جيدة من الثقة في الأثر الذي خلفته تدخلاتنا. ولكن ينبغي التحلي بالتواضع، لأن هذه النجاحات محتشمة جدا بالنظر إلى الإحتياجات التي نقيّمها في هذه المناطق.
swissinfo.ch: يتركز الحديث اليوم على سوريا بالخصوص، هل يعني ذلك أن الوضع أقل خطورة في العراق؟
روبير مارديني: من الصعب جدا مقارنة الحالات والمعاناة بين بلد وآخر. ويمكن أن نتحدث عن اليمن أيضا. في العراق، نبلغ أحيانا مُستويات كثافة مماثلة تماما لما نشهده في سوريا. التغطية الإعلامية لما يحدث في العراق أضعف، ولكن البلد يواجه أوضاعا إنسانية مثيرة للقلق وكارثية بنفس القدر.
نحن نتحدث عن 3,4 مليون نازح منذ ديسمبر 2013. ونشهد على معارك عنيفة جدا بين قوات التحالف، والجيش العراقي، وبعض الجماعات المسلحة، وتنظيم”الدولة الإسلامية” حتى في مناطق تم “تحريرها”. ويُواجه الناس خطرا كبيرا عندما يتعين عليهم العودة إلى ديارهم، بما أنه يمكن النظر إليهم كأفراد دعموا “الدولة الإسلامية”. نحن بالتالي أمام حالات إنسانية صعبة للغاية في العراق، لكن تم نسيانها بعض الشيء من قبل المجتمع الدولي.
swissinfo.ch: انعقد مؤتمر الدول المانحة لسوريا يوم الخميس 4 فبراير الجاري في لندن. هل ستحث أزمة اللاجئين البلدان على الوفاء بالوعود المالية؟
روبير مارديني: يجب أن نفهم أولا، وبشكل موضوعي، أن الإحتياجات الإنسانية تتزايد عاما بعد عام. ولأن المزيد من البنية التحتية تتعرض للتدمير، تقل كميات المياه، وعدد المستشفيات، والمراكز الصحية، والأدوية … الإقتصاد يسير من سيء إلى أسوأ، ويؤثر ذلك بالتالي على القدرة الشرائية للسكان. احتياجات الفرد تتزايد وعدد المتضررين يستمر في الإرتفاع. فمن الطبيعي والمنطقي أن تتزايد أيضا احتياجات المنظمات الإنسانية.
ولكن المال، وإن كان مُهما جدا، لا يمثل المشكلة الوحيدة. في لندن، يتواجد صانعوا السياسات، وهناك تتلخص رسالتنا في التحلي حقا بأكبر قدر من الطموح لإيجاد حل سياسي للصراع. وأيضا لدعم الدول المجاورة لاستيعاب الملايين من اللاجئين الذين استضافوهم بسخاء، والذين يزعزعون استقرارها إلى حد كبير. إنها رهانات ضخمة، والمساعدات الإنسانية ليست كفيلة لوحدها بحل المشكلة.
وبخصوص المهاجرين في أوروبا، ولئن كانت الأرقام مُذهلة، فإنها تظل تافهة بالمقارنة مع عدد الأشخاص الذين تستضيفهم كل من لبنان، والأردن، وتركيا. إن أوروبا تتوفر على الإمكانيات لاستقبال الفارين من القتال في بلدانهم وتوفير الحماية التي يحتاجونها.
ويجب أن نكون واضحين جدا حول هذه المسألة: بالنسبة للمواطن السوري، كما هو الشأن بالنسبة لأي مواطن في العالم، لا يُؤخذ قرار مغادرة المنزل والبلاد بدون تفكير بل يكون دائما قرارا مؤلما جدا. إن الناس يذهبون عندما لا يتبقى لديهم أي خيار، وعندما يصبح الوضع لا يُطاق: قتال عنيف، ووضع اقتصادي لا يُحتمل، وغياب الأمن، وانعدام التوفر على الكهرباء، والماء، والرعاية الصحية، والتعليم للأطفال… هذه العوامل بالتحديد هي التي تدفع الناس إلى المغادرة.
تعهدات المانحين
أكثر من 10 مليار دولار! وفقا لرئيس الوزراء البريطاني، هذا هو المبلغ الذي تعهدت به الدول المشاركة في مؤتمر البلدان المانحة لسوريا الذي انعقد في لندن يوم الخميس 4 فبراير 2016. وقال ديفيد كاميرون: “إنه أكبر مبلغ على الإطلاق تمّ جمعه في يوم واحد ردا على أزمة إنسانية”.
وأضاف رئيس الوزراء البريطاني في مؤتمر صحفي أن المانحين تعهدوا بمبلغ ستة مليارات دولار لهذا العام وحده، وبمبلغ خمسة مليارات دولار أخرى يتم إنفاقها بحلول عام 2020. وكانت الأمم المتحدة وجهت نداءا لتخصيص أموال بقيمة 7,73 مليار دولار لتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحا لستة ملايين نازح وأربعة ملايين لاجئ في عام 2016. كما تطالب بلدان المنطقة التي تستضيف غالبية اللاجئين بمبلغ إضافي قدره 1,2 مليار دولار.
الجانب السويسري. شكر رئيس الكنفدرالية يوهان شنايدر-أمان مواطني الدول المجاورة لسوريا على تضامنهم مع المتضررين من الحرب الأهلية. وقال إنه يتعين على المجتمع الدولي تقديم الدعم لهم. ومنذ اندلاع الأزمة، تجاوزت قيمة المساعدات السويسرية في سوريا والبلدان المجاورة 250 مليون فرنك. وسترصد برن هذا العام 50 مليون فرنك إضافية لضحايا النزاع.
تصل تكلفة الحرب في سوريا وتأثيراتها على دول المنطقة إلى حوالي 35 مليار دولار، وفقا لتقديرات صادرة عن البنك الدولي يوم 4 فبراير الجاري. ويمثل هذا الرقم النقص في المداخيل الإقتصادية الذي تكبدته سوريا ومجموعة من خمس دول (وهي تركيا ولبنان والأردن ومصر والعراق)، تُعاني مباشرة وإن بدرجات متفاوتة، من النزاع السوري الذي أسفر عن مقتل زهاء 260000 شخص في غضون خمس سنوات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.