“لقد كان لتلك الأقلية كامل الحرية في الانفصال”
في المشهد العام للدول القومية، تصطدم اليوم النزعات الانفصالية والحركات المؤيدة لها بصورة دائمة مع سلطة الدولة. أما في سويسرا، فقد أتيحت لإقليم جورا الفرصة للانفصال السلمي والديمقراطي عن كانتون برن. وقد نجح هذا الانفصال بسبب البنية الخاصة لسويسرا، كما يكتب ضيفنا الكاتب أندرياس غروس.
تم بناء سويسرا انطلاقا من الأسفل ووصولا إلى الأعلى، فالبلديات تتشكل منها كانتونات، ومن ثم تُشكل الكانتونات مجتمعة الدولة الفدرالية. هذه الهندسة تترك للمناطق خصائصها الذاتية وتمنحها الحرية اللازمة لتأمين تماسُكها وانسجامها المشترك في دولة تتحدث بأربع لغات. كما سمحت بحدوث الانفصال (كما حدث في كانتون جورا) دون أن يُضطر أحد لفقدان ماء وجهه.
لماذا نجحت سويسرا في القيام بما لم ينجح في إنجازه الأسكتلنديون في المملكة المتحدة والفلمنكيون في بلجيكا وسكان جنوب تيرول في إيطاليا؟ في المقالة التالية، يُذكّر أندرياس غروس، الخبير في المسألة الجوراسية وفي شؤون الديمقراطية بالجذور التاريخية لهذه القضايا ويُلفت إلى أن جميع هذه الأقليات كانت بيادق بيد القوى الكبرى، وأنها لا زالت محكومة من أعلى إلى أسفل حتى يومنا هذا كما هو حال سكان مقاطعة “بروتاني” وجزيرة كورسيكا في فرنسا، وسكان إقليم كتالونيا في إسبانيا وحتى الأكراد في تركيا.
الشعوب كغنيمة حرب
قبل مائة عام لم تكن هناك دول تحكم أغلب شعوب أوروبا، بل كانت محكومة من طرف إمبراطوريات. كما أن جميع الحروب التي دار رحاها على مدار قرون، جعلت انتماء مختلف الشعوب لهذه الإمبراطوريات التي تداخلت مع بعضها البعض محل شك مستمر. ذلك لأن الشعوب كانت تُعتبر جزءً من غنيمة الحرب للطرف المنتصر. فإذا ما انتصر القيصر الروسي، فإنه كان يستحوذ على مناطق بولندية. أما إذا ما انتصرت بروسيا، فلابد من أن يصادق إقليم الألزاس (شرق فرنسا حاليا) على هذا النصر.
وبهذا فإن القوى الإمبريالية التي اتحدت في “التحالف المقدس” الذي كان يضم كل من روسيا وبريطانيا العظمى والنمسا وبروسيا، قد شرعت من خلال مؤتمر فيينا عام 1815 الذي تلي هزيمة فرنسا بقيادة نابليون، في إعادة توزيع غنائم الحرب التي استحوذ عليها المبراطور الفرنسي. حيث عاد إقليما لومبارديا والبندقية إلى قبضة أسرة هابسبورغ النمساوية؛ بينما خسرت الدانمارك النرويج التي آلت إلى حكم السويد.
وقد كانت القرارات الإمبريالية لمؤتمر فيينا فيصليةً أيضاً بالنسبة لتنظيم حكم الأراضي التي يضمها الاتحاد الكنفدرالي السويسري: إذ أصبح إقليم جورا، وهو الإقليم التي كان يشكل أبرشية بازل القديمة، خاضعا لحكم كانتون برن. وظاهرياً، بدا هذا القرار كنوع من التعويض مقابل عدم استعادة برن لسيادتها القديمة على كانتوني فو وأرغاو بعد تحريرهما من حكم نابليون.
لكن الهدف الأهم كان بالطبع محاولة القوى الإمبريالية داخل أوروبا ترسيخ وجود جار قوي على الحدود مع فرنسا، وذلك لوأد أية مطامع توسعية محتملة لفرنسا من البداية.
مؤيّدو حق تقرير المصير والديمقراطية
كان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن أحد الشخصيات البارزة في مؤتمر فرساي الذي عُقد بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، من أجل إعادة هيكلة أوروبا ما بعد الحقبة الاستعمارية، وكان أحد المنتصرين في الحرب الذي كان يسعى من خلالها إلى فتح الباب أمام الديمقراطية و”حق الشعوب في تقرير مصيرها”. وكان ويلسن يعني بذلك “الشعوب التاريخية” مثل الشعب البولندي، والتشيكي، والسلوفاكي، والبلجيكي، والإيطالي. ومع إدراكه للطبيعة متعددة القوميات لأغلب “الدول القومية”، كان ويلسن يفكر في المقام الأول في “الحق الديمقراطي للشعوب في تقرير مصيرها”.
من رحم الإمبراطوريات القديمة، نشأت “دول قومية” جديدة، مثل جمهورية تشيكوسلوفاكيا، ومملكة يوغوسلافيا. إلا أنها كانت منظمة ومحكومة بأسلوب الحكم الشمولي الملكي، أي مثل أي دولة قومية. ويعني هذا أن يسود أحد الشعوب، وهو على الأرجح “شعب الأغلبية”، بينما تشعر الشعوب الأخرى بأنها أقلية، حيث يتم تهميشها وقهرها، بل وبترها.
المزيد
“كل أسباب الحرب الأهلية كانت متوفرة”
عدم الحق في الانفصال
جدير بالذكر أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ونظراً لما عُرف حينها بعملية تصفية الاستعمار، فقد نجح حق تقرير المصير في أن يصبح المبدأ الأساسي في ميثاق الأمم المتحدة التي نشأت آنذاك. ويعني هذا، أن تلتزم جميع دول العالم بالوفاء بحق تقرير المصير وباحترامه. بهذا أصبح هذا الحق أحد حقوق الإنسان.
ولكن نظرا لأن القانون الدولي الحالي يدعم “وحدة جميع الدول وسلامة أراضيها”، ولأن العالم لم يستطع حتى الآن الاتفاق على تعريفٍ لمُصطلحيْ “الشعب” و”الأمة”، فإنه لا يُوجد “حق للشعب في الانفصال”. والنتيجة هي أن الطبيعة متعددة القوميات للكثير مما يسمى بـ “الدول القومية” أدت ولا تزال تؤدي إلى نشوء توترات ونزاعات محمومة إلى حدٍ ما، وهو ما قد يُسفر عنه نشوب حروب أهلية.
الفدرالية كحالة ناجحة
على الجانب الآخر، فقد حالف الحظ سكان إقليم جورا برغم وضعهم السيء. فقد شعروا في وقت مبكر ـ وأدرك أكثرهم حساسية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بالفعل ـ بأن إحالة حكمهم إلى برن بموجب مؤتمر فيينا يعتبر نوعاً من “الظلم”، والخسران. إلا أنهم رأوا لاحقاً أن الحظ لم يُجانبهم تماماً، حيث سرعان ما تحولت برن إلى كانتون داخل دولة اتحادية ذات طبيعة شديدة الفدرالية ـ إذ أصبحت سويسرا عام 1848 أول ديمقراطية مُستدامة داخل أوروبا.
فسويسرا كدولة اتحادية ديمقراطية كانت ترى نفسها ذات طبيعة فدرالية واضحة المعالم، حيث أن كانتوناتها ذاتها، كانت تعتبر نفسها اتحادات مستقلة بدورها، ومكونة من بلديات ذات سيادة نوعية.
إذن، فسويسرا مبنية من أسفل لأعلى؛ فالبلديات قد اتحدت في كانتونات، والتي اتحدت بدورها لتصبح أول دولة كنفدرالية في أوروبا، ذلك أن الكانتونات تحتفظ لنفسها حتى اليوم بحقها في حمل صفة “الدولة”، وما يرتبط بها من استقلال. وهذا الحظ لم يُحالف لا أبناء كتالونيا، ولا اسكتلندا، ولا المجريين من أبناء إقليم ترانسلفانيا برومانيا، ولا حتى الإيرلنديين الشماليين، ولا شعب كورسيكا: فجميع هذه الشعوب الخمسة تتواجد في دولٍ موحدة لا تزال بها سمات الامبراطوريات القديمة، حيث لا مكان في دساتيرها المركزية للحكم الذاتي المحلي أو لحق المحليات في تقرير المصير.
وكانت الخطوة الأولى الحاسمة، والتي نجح أبناء إقليم جورا عام 1950 في تحقيقها بعدما أعادوا تنظيم أنفسهم، هي: قبول الحكومة المحلية بكانتون برن بالمطالب التي رفعتها “لجنة موتييه للدفاع عن حقوق إقليم جورا”، تلك اللجنة التي تكونت عام 1947، حيث قامت هذه الحكومة بإجراء تعديل على دستور كانتون برن.
الحكم الذاتي: نعم، ولكن إلى أيّ مدى؟
في سياق متصل، وافقت أغلبية الناخبين الرجال في كانتون برن في أكتوبر من عام 1950 على هذه الإضافة لدستور الكانتون. بذلك اعتُبرت مطالب أبناء إقليم جورا بقدر من الحكم الذاتي مطالب مشروعة. ولكن ما المدى الذي ينبغي أن يصل إليه هذا الحكم الذاتي؟ وهنا حالف أبناء إقليم جورا الحظ مرة أخرى. ذلك لأن برن لم تكن بصفتها جزءً ذا سيادة من الدولة الاتحادية وثيقة الصلة بفكرة الحكم الذاتي وحسب؛ بل إن برن كانت تُعتبر الكانتون الرائد في ممارسة الديمقراطية المُباشرة أيضاً. ويعني هذا أن المواطنين في كانتون برن، شأنهم شأن مواطني الكانتونات الأخرى، يُمكنهم تقديم مقترحات لإجراء تعديلات دستورية (على دستور الكانتون).
1957، تمهيد الطريق للانفصال
بدوره، استغل “التجمّع الانفصالي لأبناء إقليم جورا”، الذي يمثل المنظمة التي خلفت “لجنة موتييه”، هذا الحق الديمقراطي أيضاً. فقد أطلق في سبتمبر 1957 مبادرة شعبية على مستوى الكانتون حول مسألة، ما إذا كان ينبغي على أبناء إقليم جورا إنشاء كانتون خاص بهم، أم لا.
ولكن إنشاء كانتون مستقل لم يُقابل فقط بالرفض من أغلبية واضحة من ناخبي كانتون برن بأكمله؛ بل إن الدوائر السبع الواقعة في إقليم جورا نفسه رفضت ذلك المقترح أيضاً، وإن جاء هذا الرفض بأغلبية أقل. ولم يلق هذا الكانتون المقترح تأييدًا يُذكر سوى من الدوائر الثلاث الواقعة في أقصى الشمال من إقليم جورا، ألا وهي كل من بورينتري، وسانيولاجييه، ودوليمون، وهي ذاتها تلك الدوائر ذات الأغلبية الكاثوليكية.
بهذا واجه أبناء إقليم جورا لأول مرة انقسامهم السياسي، بمعنى أنهم أصبحوا في مواجهة تنوعهم السياسي على نطاق مُصغر. وهو ذلك الانقسام الذي سيقومون بالتأكيد عليه في جميع الاقتراعات الشعبية التي شملت أبناء جورا من عام 1957 وحتى عام 2013: ذلك لأن أبناء إقليم جورا لم يرغبوا جميعاً في الانفصال عن برن. بل إن الدوائر الثلاث الجنوبية والبروتستانتية من هذا الإقليم وهي كورتيلاري، وموتييه، ولا نوفوفيل قد صوتت دائماً لأجل استمرار ارتباطها بكانتون برن.
إلا أن أبناء جورا لم يستسلموا. حيث لجأوا إلى العديد من الفعاليات، بل كذلك إلى العصيان المدني، وإلى استخدام العنف ضد بعض المنشآت، مِمَّا دفع الحكومة المحلية لكانتون برن إلى إعداد خطة “لحل مسألة إقليم جورا”. وقد اتصفت هذه الخطة بالطابع البلدي والفدرالي وكذلك بتقاليد الديمقراطية المباشرة التي تنطبع بها كل من برن وسويسرا بأكملها.
الاقتراع المتدرج
أما ثمن تقرير المصير الذي كان واضحاً للعيان منذ البداية، فكان: الانقسام الداخلي لإقليم جورا. فلقد قبلت أغلبية واضحة من أبناء كانتون برن بإدراج هذه الخطة في دستور الكانتون وذلك في ربيع عام 1970، حيث نصّت على إجراء اقتراع متدرج على مستوى الدوائر والبلديات، حول إنشاء كانتون جديد وترسيم حدوده بحلول عام 1978.
وفي الثالث والعشرين من يونيو عام 1974 وافق أبناء إقليم جورا في اقتراع محلي بأغلبية 36802 صوتاً مقابل 34057 صوتاً على الانفصال عن برن وإنشاء كانتون مستقل. هذا بينما أكدت الدوائر الجنوبية الثلاث من الإقليم في مارس من عام 1975 على رفضها للانفصال، وتفضيلها البقاء ضمن كانتون برن. أما في سبتمبر من العام نفسه، فقد اتخذت كل من البلديات الواقعة على حدود الكانتون الجديد، قرارها بشأن الانضمام إلى أي من الجانبين، برن أم جورا. ثم حان الموعد المُرتقب: ففي سبتمبر من عام 1978 أيّد 82% من الناخبين السويسريين رجالاً ونساءً إنشاء الكانتون الجديد، ليصبح الكانتون السادس والعشرين في الكنفدرالية السويسرية.
لحظة تغيير المواقف في موتييه
في موتييه، تلك المدينة القديمة التي تتميز بديرها، والتي تعتبر أهم بلدية في جنوب إقليم جورا، خسر الانفصاليون عام 1974 بفارق ضئيل. إلا أن موازين القوى قد انقلبت في ثمانينيات القرن الماضي. ومنذ ذلك الحين يحظَى مناصرو كانتون جورا بأغلبية ضئيلة في مجلس المدينة وفي حكومتها المحلية. برغم ذلك رفضت موتييه الانتقال إلى الكانتون الجديد في اقتراع تشاوري أجري عام 1998. فقط في نوفمبر من عام 2013 بدا الأمر وكأن هناك تغير في المواقف، حينما كانت موتييه هي البلدية الوحيدة في جنوب إقليم جورا، التي أعربت عن رغبتها في تخطي انقسام الإقليم وذلك بإنشاء كانتون جورا الجديد والكبير.
وفي نوفمبر من عام 2017 ظهرت نتيجة ذلك، حينما أيّد 51،7% من الناخبين بموتييه الانتقال إلى كانتون جورا، وذلك في اقتراع شعبي على المستوى البلدي. وفي هذه الحال كانت موتييه ستصبح ثاني أكبر مدينة في ذلك الكانتون، تالية لمدينة دوليمون، ومتفوقة على مدينة بورينتوري. إلا أن سلطات كانتون برن قامت بإلغاء نتيجة هذا الاقتراع بعد ذلك بعام واحد. وهذا لعدة أسباب من بينها، أنه قد تبين أن حفنة من الأشخاص قاموا بتغيير محل إقامتهم بصورة غير قانونية ليتسنّى لهم الإدلاء بأصواتهم. لذلك سيتم إجراء استفتاء يوم 28 مارس الجاري في بلدية موتييه للمرة التاسعة خلال واحد وسبعين عاماً، حول ما إذا كانت ترغب في الانضمام إلى كانتون جورا، أم لا.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.