الناخبون يُحددون مُستقبل وسائل الإعلام العمومي في سويسرا
في أعقاب حملة انتخابية متشنجة ومكثفة جداً، يقرر السويسريون يوم الأحد 4 مارس الجاري ما إذا كانوا سيُواصلون دفع رسوم الإذاعة والتلفزيون التي تُستخدم لتمويل وسائل الإعلام العمومي أم لا. ومع أن استطلاعات الرأي الأخيرة لم تمنح مؤيّدي المبادرة الشعبية االمعروفة اختصارا بـ "نو بيلاغ"، آمالا قوية بالنجاح، إلا أن النقاش المجتمعي الذي شهدته سويسرا على مدى عدة أشهر لن يتوقف عند الإعلان عن نتائج التصويت الفدرالي.
في الوقت الحاضر، تدفع كل أسرة رسوما إذاعية وتلفزيونية بقيمة 451 فرنكا في السنة، ستُصبح 365 فرنكا ابتداء من أول يناير 2019. أما الشركات والمؤسسات الإقتصادية، فهي ستدفع ابتداء من ذلك التاريخ رسوما سيتم احتساب قيمتها تبعا لرقم معاملاتها وستكون 365 فرنكا في السنة إذا ما كان رقم معاملاتها 500 ألف فرنك و35590 فرنكا إذا ما كان رقم معاملاتها مليارا من الفرنكات أو أكثر.
الأموال المتأتية من هذه الرسوم تُستخدم أساسا لتمويل أنشطة هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية رابط خارجي(SRG-SSR)، فيما يُخصص جزء صغير منها لدعم القنوات الإذاعية والتلفزيونية الخاصة التي تقدم خدمات عامة.
المزيد
المبادرة الداعية إلى إلغاء رسوم الإذاعة والتلفزيون: مُرادها وانعكاساتها
“لا أدفع إلا مقابل ما أستهلك”
المبادرة التي اشتهرت بـ “نو بيلاغ” No Billag – في إشارة إلى اسم الشركة التي تقوم باستخلاص الرسوم – صدرت عن الفروع الشبابية لحزب الشعب السويسري (يمين محافظ) وللحزب الليبرالي الراديكالي (يمين). وفي الواقع، يتسم نص المبادرة المعروض يوم الأحد 4 مارس على تصويت الناخبين السويسريين بقدر كبير من البساطة. فهي تنص على أنه لن يكون بإمكان الكنفدرالية مستقبلا فرض رسوم استقبال البث الإذاعي والتلفزيوني أو تقديم الدعم المالي لقناة إذاعية أو تلفزيونية أو استثمارها في زمن السلم. أما الإمتيازات (المتعلقة باستغلال القنوات الإذاعية والتلفزيونية) فسوف تُعرض للراغبين في المزاد العلني.
هذا التحول باتجاه عروض السوق البحتة يلقى دعماً كبيرا ممن يُوصفون بـ “الليبراليين المتشددين”. فهم يُدينون ما يصفونه بـ “الإنجراف الإحتكاري” لصالح هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية الضخمة الحجم والتي يُدفع لها بشكل سخي بفضل ضريبة مفروضة على الجميع. بالفعل، لا يعتقد المُدافعون عن المبادرة أن مقترحهم سيؤدي إلى الحكم بالإعدام على الإعلام العمومي ويذهبون إلى أن بإمكان هذا الأخير أن يحصل على التمويلات اللازمة من خلال المداخيل الإشهارية والإشتراكات. وبحسب رأيهم، فإن المشهد السمعي البصري المُحرَّر سيُوفّر حرية أكبر لوسائل الإعلام وللمستهلكين في آن معا، كما أنه سيُسهم في تنشيط الدورة الإقتصادية.
على عكس جميع الأحزاب السياسية المثلة في البرلمان الفدرالي، انضمّ حزب الشعب السويسريرابط خارجي (يمين محافظ) إلى المعركة. فهو يُراقب منذ سنوات هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية التي يعتبرها “مُخترقة” من قبل اليسار. كما تشترك قيادة الإتحاد السويسري للفنون والحِرَفرابط خارجي معه في الرأي. ففي شهر يونيو 2015، كادت أن تنجح في إقناع الناخبين برفض قانون جديد يقضي بتعميم الرسوم والحفاظ عليها في ظل شروط جديدة للشركات.
في الواقع، يُمكن لهذه المبادرة أن تُرضي أولئك الذين يكرهون الأساليب التي تتبعها شركة “بيلاغ، المُكلَّفة بتحصيل رسوم استقبال البث الإذاعي والتلفزيوني حتى هذه اللحظة. والأمر ذاته بالنسبة للجيل الذي يتابع مواقع إعلامية مجانية (مثل “20 دقيقة”) أو عروض “نيتفليكس”، وهو جيل اعتاد على استخدام وسائل الإعلام المتاحة على الإنترنت وعلى عدم دفع أي مبلغ مالي مقابل ما يستهلكه. وفي هذا الصدد، يرى أنصار المبادرة أن نظام الرسوم هذا قد تجاوزه الزمن. ففي عصر “نيتفليكس” وشبكات التواصل الإجتماعي، يفترض أن يتمكن الأفراد في المجتمعات المعاصرة من الإختيار بكل حرية ما الذي يقومون باستهلاكه وأن لا يتم إخضاعهم مستقبلا لرسوم إجبارية تُستخدم لتمويل برامج لا يُشاهدونها ولا يستمعون إليها في معظم الأحيان.
“الأكثر حدة” منذ 20 عاما
في بداية الأمر، كانت الـ “نعم” هي التي تتصدر نتائج استطلاعات الرأي. وبالفعل، انطلقت الحملة في وقت مبكر وكانت شرسة جداً، خاصة في الأنحاء المتحدثة بالألمانية من البلاد، حيث أطنبت وسائل الإعلام في تناول الموضوع ومناقشته. كما اشتعلت صفحات شبكات التواصل الإجتماعي إلى درجة حدوث تجاوزات في بعض الأحيان. وفي المرلة النهائية، أظهرت الإستطلاعات الأخيرة أن الـ “لا” هي المتقدمة بنسبة تتراوح ما بين 60 و65%.
دوريس لويتهارد، وزيرة الإتصالات في الحكومة الفدرالية تميّزت – طيلة الأسابيع الماضية – بمشاركتها الملفتة في واحدة من آخر معاركها الكبرى في مسيرتها السياسية. في الوقت نفسه، تضم جبهة الرفض لمبادرة “نو بيلاغ” كلا من اليسار والخضر، والحزب الديمقراطي المسيحي، وأحزاب يمين الوسط الصغيرة بالإضافة إلى غالبية الحزب الليبرالي الراديكالي (المستعدة لإصلاح خدمة الإعلام العمومي ولكن ليس لتفكيكها تماماً).
في الأثناء، يتوقع مراقبون أن تكون موجة الرفض للمبادرة أقوى في الأنحاء الناطقة بالفرنسية، لأنه من المحتمل أن لا تتمكن هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية – في صورة نجاح المبادرة – من تمويل برامج لفائدة سويسرا الروماندية (أي الناطقة بالفرنسية) بأموال دافعي الرسوم في سويسرا الناطقة بالألمانية. وبصفة عامة، فإن الأقليات اللغوية والمناطق النائية قد تكون الطرف الذي سيدفع ثمن مبادرة “نو بيلاغ”، ذلك أنه لا يُمكن تخيّل عرض إذاعي أو تلفزيوني تجاري بحت إلا في منطقة زيورخ، بحسب الحكومة الفدرالية.
من ناحية أخرى، ليست هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية المؤسسة الإعلامية الوحيدة التي تعتمد على الأموال المتأتية من الرسوم لكي تعمل، فهناك أيضا 21 إذاعة محلية و13 محطة تلفزيون محلي يستفيدون من قسم من هذه العائدات. وللعلم، يمثل مجموع وسائل الإعلام هذه 6800 وظيفة عمل، ويُزوّد 6700 وظيفة أخرى بطريقة غير مباشرة.
إضافة إلى ذلك، يعتبر المعارضون للمبادرة أيضا أن نهاية رسوم استقبال البث الإذاعي والتلفزيوني ستعني نهاية فكرة معينة عن سويسرا المتعددة الثقافات. فمن دون توفر مساعدة حكومية، فلن يكون من الممكن على الأرجح القيام بتغطية إعلامية للمناطق النائية أو التي يُتحدث فيها بلغلت أقلية. من جهة أخرى، سيُمثل إلغاء الرسوم ضربة قاسية للوسط الثقافي السويسري عموما وللقطاع السينمائي بوجه خاص.
أخيرا وليس آخرا، يقدم المعارضون حجة اقتصادية تتلخص في أن هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية التي يعمل فيها حوالي 6000 شخص تُعتبر أحد أكبر المُشغّلين في الكنفدرالية، لذلك فإن اختفاء هذه المؤسسة سيُمثل كذلك زلزالا اقتصاديا.
خدمة عامة
بشكل عام، يؤكد مناهضو المبادرة على ضرورة توفّـر خدمة إعلامية عامة في كافة أنحاء سويسرا. وفي سوق إذاعية وتلفزيونية محرّرة تماماً، فإنه من المحتمل أن يتم الحفاظ على البرامج المُربحة فقط. فيما يُتوقع حصول انخفاض في مساهمات هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية في مجال الإنتاج والإبداع الثقافي.
إضافة إلى ذلك، سيتم الحد من تقديم البرامج الرياضية في الإذاعة والتلفزيون. وقد تكون الإشتراكات الإنتقائية أغلى من الرسوم السنوية لاستقبال البث الإذاعي والتلفزيوني (تبلغ حاليا 451 فرنكاً، ثم ستصبح 365 فرنكا اعتباراً من 1 يناير 2019) التي تدفعها الأُسَر في سويسرا.
في حال تمَّ رفض مبادرة “نو بيلاغ” يوم الأحد 4 مارس، فلا يعني هذا بالضرورة انتهاء القضية وإعلاق الملف، نظرا لأن أنصار هيئة إذاعة وتلفزيون سويسرية “أكثر رشاقة” (أي تشتغل بميزانية أقل) تراودهم فكرة إطلاق مبادرة ثانية بهدف تخفيض الرسوم إلى النصف او إلى 300 فرنك. أما الحكومة الفدرالية، التي لا زال يتعيّن عليها إنهاء التنازل الجديد المتعلق بهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية، فسوف تقوم بدورها بطرح مشروع قانون جديد خاص بوسائل الإعلام الإلكترونية، وحينها ستقول هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية بنفسها ما الذي تعتزم تغييره على المديين القريب والبعيد.
خطّة بديلة؟
ليس هناك أدنى شك في أن التصويت بـ “نعم” على مبادرة “نو بيلاغ” سيتسبب بخلق انقسامات، ذلك أن الكنفدرالية ستحتفظ بحق التشريع في حين سيختفي تفويض الخدمة العامة من نص الدستور. ويرى كل من جيل مارشان، المدير العام لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية والوزيرة دوريس لويتهارد أنه لن يكون هناك خيار سوى تصفية الهيئة تماما.
خلال الحملة، سارع أنصار “نو بيلاغ” للرد بمضاعفة الخطط البديلة من أجل الحفاظ على هيئة إذاعة وتلفزيون سويسرية مُحجَّمة. وقالوا إنه من الممكن أن يأتي التمويل من اشتراكات انتقائية، ومن الإشهار، ومن الكانتونات أو حتى من مساعدات فدرالية مع أنُّ المبادرة تحظر ذلك بصريح العبارة.
البعض الآخر، قلّل من شأن قبول المبادرة، وأكد أن البرلمان سيجد حلاً بديلاً لهذا الغرض. وللعلم فإن الأحكام الانتقالية لمبادرة “نو بيلاغ” لم تحدد – حسب نص المبادرة المعروض على التصويت – سوى مُهلتين: إذ يَتعيَّن على الحكومة الفدرالية تطبيق أحكام التنفيذ الضرورية في الأول من يناير 2019 وإلغاء الحق بمنح حصة من الرسوم في اليوم الذي تدخل فيه الأحكام القانونية حيز التنفيذ.
“غريبة” ذات نكهة سويسرية فعلا!
على غرار سويسرا، يدور النقاش حول تمويل وسائل الإعلام العمومية في العديد من البلدان الأوروبية الأخرى التي تتابع باهتمام سير الحملة الإنتخابية ونتيجة التصويت على مبادرة “نو بيلاغ”. في الوقت نفسه، قد تثير المسألة الثانية المعروضة على تصويت الشعب يوم ألحد 4 مارس بعض الإهتمام خارج الحدود، ولكن في سياق قد يُنظر إليها باعتبارها “حادثة غريبة لا يُمكن حدوثها إلا في سويسرا”.
ففي حالة فريدة من نوعها في العالم أجمع، يصوت السويسريون كل خمسة عشر عاما للسماح مجددا للسلطات الفدرالية باستخلاص الضريبة الفدرالية المباشرة والأداء على القيمة المُضافة. وفي صورة رفض الشعب، فإن الدولة الفدرالية ستُحرم من ثلثي إيراداتها الضريبية، وسيتعيّن عليها حينئذ التوقف عن القيام بأغلب المهام الموكولة إليها (الدفاع والعلاقات الخارجية..).
إلا أن هذا السيناريو الكارثي يظل محض خيال، إذ يتميّز هذا التصويت بأقصى قدر من الهدوء، حيث لم يُعارض أي حزب مُمثل في البرلمان الفدرالي المرسوم المعروض على تصويت الناخبين ولم يدعُ أحد إلى رفض ما يُسمى “النظام المالي الجديد 2021”.
المزيد
هل سيسمح السويسريون للكنفدرالية بالإستمرار في تحصيل الضرائب؟
SWI swissinfo.ch هي إحدى الوحدات التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية ويتم تمويل نصف ميزانيتها من رسوم استقبال الإذاعة والتلفزيون التي تقوم بتحصيلها شركة Billag.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.