ميثاق الهجرة التابع للأمم المتحدة: ردة فعل قوية حول “قانون غير ملزم”
ربما كانت الضجة التي أثارها ميثاق الهجرة التابع للأمم المتحدة، ضجة سياسية إلى حد كبير، ولكنها مع ذلك تطرح أسئلة حول شرعية الاتفاقيات الدولية غير الرسمية.
أدى ميثاق الأمم المتحدة العالمي بشأن الهجرةرابط خارجي (الذي تمت الموافقة عليه في مراكش في 10 ديسمبر الماضي من قِبل 164 دولة) إلى سخط يثير الدهشة لا سيما وأن الوثيقة غير ملزمة، وتبدو كاتفاقية بين سادة أكثر مما تبدو كصفقة فاوست مع الشيطان.
فقد تراجعت الولايات المتحدة عن موقفها، بعد أن كانت واحدة من أبرز المحرضين على هذا الاتفاق. وطالب البرلمان السويسري، المنزعج من اعتبار أن الاتفاق ما يزال قيد التشاور، بأن تكون له الكلمة الفصل بشأنه، مما أجبر الحكومة على تأجيل التوقيع عليه. أما في بلجيكا، فقد أدت احتجاجات الشوارع وانقسامات ائتلاف الأحزاب إلى إسقاط الحكومة واستقالة رئيس الوزراء.
من الواضح أن المعارضة المفرطة، ترجع بدرجة أكبر إلى حدة الجدل السياسي بشأن الهجرة، أكثر مما ترجع إلى التأثير المباشر لأهداف الميثاق البالغ عددها 23 هدفاًرابط خارجي (بالإضافة إلى كونها غير ملزمة، فهي أبعد ما تكون عن الأهداف غير التقليدية). إن المخاوف من الهجرة آخذة في التصاعد، وبات الناس أكثر فأكثر، لا يخشون التطرّق إليها، كما باتت تشكل مادة تداول خصبة يجد العديد من السياسيين متعة في إثارتها.
لكن هذا الميثاق أثار أيضاً، لا سيما في سويسرا، مسألة التعاطي مع مثل هذه الاتفاقيات الدولية غير الملزمة – أو “القانون غير الملزم”، وهو مصطلح بدأ يتسلّل ببطء من الأوساط الأكاديمية إلى وسائل الإعلام. فهل ُتعتبَرُ مثل هذا التشريعات غير الملزمة، والتي غالباً ما يتم التفاوض بشأنها من قبل الحكومات (وأحيانًا الجهات الخاصة) ودون موافقة البرلمان، تهديداً للشرعية الديمقراطية؟
عن ماذا نتحدَث؟
بكل بساطة، يُنسَب القانون غير الملزم إلى الاتفاقيات التي يتناقش عنها في مكان ما، والتي تتأرجح ما بين مجرد التصريحات وما بين التشريعات أو المعاهدات “الحازمة” (الملزمة). لكن، يمكن أن يأخذ هذا القانون أشكالاً مختلفة على الساحة الدولية، كما يقول فالتر كالين، الأستاذ الفخري للقانون الدولي في جامعة برن.
يأتي ميثاق الهجرة كشكل لـ «خارطة طريق”، وذلك عندما تدرك الدول أن هناك مشكلة ما، لا يمكن حلها إلا معاً. وبالتالي فهي توافق على تحديد الخطوات الرئيسية اللازمة لمعالجتها. ومن الأمثلة الأخرى المعروفة على هذا الشكل، جدول أعمال الأمم المتحدة 2030 للتنمية المستدامة، واتفاقية باريس للمناخ.
وتشمل الأشكال الأخرى، المبادئ التوجيهية للجهات الفاعلة الخاصة (على سبيل المثال، المبادئ التوجيهية التي وضعتها منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية للمؤسسات المتعددة الجنسيات وحوكمة الشركات)، كما تشمل التفسيرات غير الملزمة للتشريعات الملزمة بمعناها الواسع (مثل القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء)؛ والمعايير التقنية المحددة لبعض الصناعات (أجهزة مراقبة الحركة الجوية، على سبيل المثال).
المزيد
لماذا نحتاج إلى الميثاق العالمي بشأن الهجرة؟
أما بالنسبة للوضع القانوني، فإن القانون غير الملزم (وبحسب الدولة المعنية) لا يحتاج عادة إلى مصادقة البرلمان – فهذه الخطوة تقتصر على المعاهدات الدولية الملزمة. ويقول كالين إنه عندما يتعلق الأمر بالتنفيذ الفعلي، فإن ذلك يعتمد على مستوى الرقابة التي يتضمنها الاتفاق: فبعض القوانين غير الملزمة تشمل آليات المراجعة الدورية، وبعضها الآخر يعتمد فقط على ضغوطات الدول فيما بينها.
فما الفائدة إذاً من إبرام هذه الاتفاقيات؟ حسنًا، فبالإضافة إلى رمزية وجود دولتك مع الدول الأخرى تحت سقف تنظيمي واحد في بيان ذي مهمة عالمية، فإن القوانين غير الملزمة أصبحت تشكل أكثر فأكثر الحلول الوحيدة التي تعترف بها الدول التي لا تجمعها قضايا مشتركة.
وفي الواقع كما يقول كالين، فمنذ تسعينيات القرن الماضي، أدى تفكك السلطة العالمية وتعقيدات القضايا العابرة للحدود الوطنية (كإدارة شبكة الإنترنت على سبيل المثال)، إلى “انتشار” القوانين غير الملزمة؛ وبدون قيادة “تأديبية” للولايات المتحدة وروسيا، ترغب جميع الدول في الحصول على حصتها من الكعكة. أضف إلى ذلك أن مثل هذه القوانين هي أكثر سهولة في التفاوض، ويمكن بسهولة التراجع عنها أيضا، كما أنها تستطيع التسلل واختراق البرلمانات الوطنية بدون صعوبة.
وفضلا عن الأثر الملموس لهذه القوانين، فإن “مجرد” إعداد جدول أعمال، يحتاج إلى صلاحيات قوية: فمن خلال تحديد معايير لأفضل الممارسات، يمكن أن يشكل القانون غير الملزم أساساً للخطاب المستقبلي، كما يمكن أن يكون نموذجاً للقوانين المتفرّعة الملزمة. وفي بعض الحالات، يمكن أن يتحول إلى قانون ملزم في حد ذاته -ولعل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 هو أفضل مثال ملموس على ذلك.
وعلى الأرجح، هذا ما يفسر شعور البعض بالقلق والتوتر عند السعي لإبرام اتفاقيات حول قضايا مثل الهجرة. فالمنطق السائد هو أنه، إذا تم الاتفاق اليوم على أساس مبادئ “خاطئة”، فستُبنى السياسة المستقبلية على هذا الأساس أيضاً. وإذا افترضنا السيناريو الأكثر تطرّفاً، كما يقول ألكسندر كاسيلارابط خارجي، المدير السابق لمكتب آسيا في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن الدول ستشعر بالقلق من أن تصبح الأهداف غير الملزمة لميثاق الهجرة خطوة نحو اكتساب “حق الهجرة” في المستقبل – وهذه الفكرة ليست مستساغة سياسياً في العديد من عواصم العالم.
وفي الضعف قوة
ولكن، هل كل هذا جديد حقاً؟ لا يعتقد ذلك ألكسندر فلوكيغر، أستاذ القانون العام في جامعة جنيف، حيث يستشهد بالكاتب الليبرالي بنيامين كونستانت، الذي ولد في لوزان في القرن التاسع عشر، والذي انتقد الطرق “الناعمة المحترفة وغير المباشرة” التي مارستها الحكومات على الرأي العام – في عام 1820.
إلا أن الفرق اليوم، كما يقول فلوكيغر، هو أن رجال القانون بدأوا يتنبّهون أكثر إلى إرساء مثل هذه المعايير “غير الرسمية”، بعد أن كانوا سابقاً ” ولفترة زمنية طويلة، قد تركوا مهمة دراسة كيفية توجيه الأعراف غير القانونية لسلوك الأفراد، لعلماء الاجتماع وعلماء السياسة وعلماء النفس “.
لقد أثار فلوكيغر بالفعل هذه النقاط في عام 2012، عندما كتب عن القانون غير الملزمرابط خارجي رداً على مبادرة سويسرية غير ناجحة آنذاك، تدعو إلى إعطاء الكلمة للشعب في التصديق على الاتفاقيات الدولية. وقال “إن النظام القانوني العالمي الجديد قد بدأ يتشكل”، ويمكن أن يكون تأثيره على المواطنين والشركات “مقيِّداً بشكل كبير، وفي بعض الحالات، بدرجة أكثر تقييداً من المعاهدات الدولية”. وأضاف فلوكيغر أن هذا النظام “غير الرسمي” يمكن أن يشكل تحدياً للديمقراطية، على الرغم من أن وضع القوانين الملزمة بالطريقة التقليدية سيحتفظ بشرعيته.
وفي حديثه مع swissinfo.ch، قال فلوكيغر: “عندما يصل الأمر إلى عملية تبلور القانون غير الملزم في قانون ملزم، يحافظ المواطنون والدول على السيادة الكاملة”. وعلى الرغم من أن عملية الانتقال من “غير الملزم” إلى “الملزم” تمثل شكلاً من أشكال “الداروينية السياسية” التي يتم فيها الابقاء على الأفكار الأكثر نفعاً، إلا أن هذا لا يمكن أن يحدث دون موافقة البرلمانات.
المزيد
معضلة منح الأولوية للقانون الوطني على القانون الدولي
وبالتالي، فإن القوة الرئيسية لمثل هذه الطريقة غير الرسمية تكمن في قوتها الفكرية أكثر مما تكمن في إمكانية تطبيقها المباشر؛ أو، على حدّ عبارة فلوكيغر: “قوتها تكمن في ضعفها”.
أما كالين فقد أعرب عن حذره من أن يؤدي انتشار القانون غير الملزم، إلى مزيد من المشاكل ذات التأثير السلبي على الديمقراطية، موضحاً أن هناك فرقاً كبيراً بين أن تمنح البرلمان كلمة أكثر جوهرية، وبين أن تتمادى وتضع مثل هذه المقترحات غير الملزمة للاستفتاء.
ويضيف: “هذا من شأنه أن يعطي الكثير من الأهمية للاستفتاء” وسيكون من الصعب أيضاً إدارته. كما أنه يتفق في الرأي مع وزيرة النقل السويسرية، دوريس ليوتهارد، المنتهية ولايتها، والتي قالت مؤخراً إن “القانون غير الملزم سيصبح في السنوات القادمة أكثر أهمية على المستوى الدولي المتعدد الأطراف”. في هذه الحالة، ما هي الاتفاقات التي سيتم طرحها على الناس وما هي تلك التي لن يتم طرحها؟
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.