دعوة لمزيد من الانفتاح على معاهدة التأهّب للجوائح والاستجابة لها
من الضروري أن تتيح منظمة الصحة العالمية المجال لمشاركة أكبر من قبل ممثلي المجتمع المدني، وذلك من أجل ضمان مراعاة مبادئ حقوق الإنسان أثناء المفاوضات الجارية بشأن ما اصطلح على تسميته بـ "معاهدة الجائحة".
على مدى الأسابيع القليلة الماضية، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بشأن خطط منظمة الصحة العالمية لتطوير “معاهدة الجائحة”، حيث يتكهن البعض بأن منظمة الصحة العالمية ستستخدم المعاهدة من أجل الإمساك بزمام الأمور و “السيطرة الكاملة”، وتجاوز قوانين الصحة العامة الوطنية، وفرض الإغلاق والقيود على السفر ولعب دور الرقابة.
ورغم أننا نتفهم هذه المخاوف، فإننا لا نشاطرها. فعلى صعيد الممارسة العملية، تعمل وكالات الأمم المتحدة، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية، كمنظمات تلتزم باحترام عضوية الدول الأعضاء، وهي بالتالي غير قادرة على فرض قوانين وسياسات تتنافى بشكل فاضح مع السيادة الوطنية. والجدير بالذكر هنا أنه بالرغم من أن الدول أطرافٌ في العديد من المعاهدات، إلا أن هذه الدول لا تحترم دائماً هذه المعاهدات. وحتى عندما تدعم الدول هذه المعاهدات، فهي تتمتع بسلطة تقديرية وبهامش من الحرية فيما يتعلق تحديداً بكيفية ضمان الامتثال للالتزامات التعهدية.
ومع ذلك، كان من المُمكن ولو جزئياً تجنب هذه الضجة التي أثيرت على وسائل التواصل الاجتماعي وما تضمنته من تهديد بشن حملة ضد المعاهدة المقترحة لو قامت منظمة الصحة العالمية بإجراء عملية التفاوض بشأن المعاهدة بانفتاح أكبر على مختلف الفئات المجتمعية من خلال عملية مشاورات عامة واسعة. في الواقع، وبصفتنا أعضاء في “تحالف المجتمع المدني لحقوق الإنسان في معاهدة الجائحة”رابط خارجي (التحالف)، كنا وما زلنا، منذ العام الماضي، نطالب بإجراء مشاورات كاملة وهادفة وفعالة بشأن المعاهدة.
من شأن المشاورات الواسعة أن تعزز قوة وفعالية أية قوانين مستقبلية، وأن تضمن احترام الدول لحقوق الإنسان وحرياته وحماية هذه الحقوق وتحقيقها. وفي حين يُعارض البعض المعاهدة المقترحة بناءً على إمكانية تهديدها للديمقراطية، فإننا نعتبر بأن الضرر الذي لحق بالديمقراطيات حول العالم باسم الكيفية التي تمّ على أساسها التعامل مع جائحة كوفيد-19 هو الذي يستلزم العمل على طرق أفضل وأكثر وضوحاً وتعزيزاً للمسار الديمقراطي.
ففي جميع أنحاء العالم، استخدمت العديد من البلدان الجائحة كذريعة لممارسة القمع من قِبَل الدولة أو تعميقه، بما في ذلك على صعيد تطبيق الشرطة للإجراءات والقيود الشاملة. وقام البعض من هذه الدول بتخزين اللقاحات والموارد الأساسية الأخرىرابط خارجي، مما ساهم في الحد من توفّرها لدى الفئات الشعبية في جنوب الكرة الأرضية والتي كانت بأمسّ الحاجة إليها. كما نفّذت بعض الحكومات أشكالاً جديدة كاسحة وشاملة من إجراءات المراقبة الرقميةرابط خارجي التي لا ترتكز على قواعد علمية صلبة، منتهكة بذلك حق الفرد في المحافظة على الخصوصية.
لكن كل هذه القضايا المتعلّقة بحقوق الإنسان، تبدو وللأسف غير مُدرَجة على جدول أعمال معاهدة الجائحة. ويُعزى هذا الأمر جزئياً إلى تهميش تمثيل المجتمع المدني. لقد جاءت خطوات منظمة الصحة العالمية في تعاملها مع حقوق الإنسان خجولة بطريقة صارخة ومخيّبة للآمال؛ فعلى سبيل المثال، وردت عبارة “حقوق الإنسان” مرة واحدة فقط خلال تقريررابط خارجي اللجنة المستقلة للتأهّب والتعامل مع الأوبئة (يُشار إليها اختصارا بـ IPPPR)، الذي أوصى بوضع معاهدة للجائحة، ثم وردت مرة أخرى فقط في الصفحة الأخيرة منه.
ومن المفترض أن ترتكز أي معاهدة مستقبلية بشكل أساسي على أهمية الأخذ بعين الاعتبار احترام حقوق الإنسان كائناً من كان وتحميها – بما في ذلك منتقدي هذه الحقوق. وهناك بعض الأمثلة التي توضح أهمية ومحوريّة حقوق الإنسان في مثل هذه المعاهدة.
أولاً، يجب أن تضمن المعاهدة في حالة حدوث جائحة، أن تكون جميع المعلومات والخدمات والمنتجات اللازمة المتعلقة بالرعاية الصحية (بما في ذلك اللقاحات) متاحة للجميع، ويسهل الحصول عليها، وبأسعار معقولة ومقبولة، و ذات نوعية جيّدةرابط خارجي. هذه المسألة هي بمثابة التزام قانوني يجب على الدول احترامه بموجب مجموعة من المعاهدات، بما في ذلك تلك المتعلّقة بالميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافيةرابط خارجي، والذي تُعدّ معظم البلدان طرفاً فيه. ومع ذلك، كما شهدنا خلال جائحة كوفيد-19، فقد فشلت البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء، في الاستثمار بشكل كافٍ في أنظمة الرعاية الصحية العامة، الخاصة بها. وأدى ذلك الأمر إلى الانتشار العالمي للفيروس وإضعاف النظم الصحية، وتسبّب في ملايين الوفيات التي كان من المُمكن تجنّب حدوثها.
ثانياً، يتوجّب على المعاهدة أن تحظر بوضوح جميع أشكال التمييز – من خلال نص واضح وصريح، وأن تعمل على تنفيذ الاجراءات المنصوص عليها على أرض الواقع – وأن تؤكد، بشكل خاص، على الحاجة إلى تعزيز المساواة بين الجنسين؛ فخلال جائحة كوفيد، تفاقم التمييزرابط خارجي ضد جماعات المجرمين والمهمّشين والمُعوزين، وكذلك فئات الأشخاص الذين ينتمون إلى مجتمع الميم أو إل جي بي تي (LGBTI) والأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن والمهاجرين وأفراد الشعوب الأصلية، على سبيل المثال لا الحصر. كما أن النساء أيضاً تحمّلن في ظل الجائحة عبئاً يفوق طاقتهن.
ثالثاً، يجب أن تضمن المعاهدة حماية المبّلغين عن المخالفات، بما في ذلك العاملين في مجال الرعاية الصحية، الذين يبلّغون عن تفشي المرض، وكذلك المدافعين عن حقوق الإنسان الذين عارضوا استجابات الدولة غير العادلة لجائحة كوفيد-19 خلال عمليات الإغلاق أو في ظل القيود الأخرى.
رابعاً، يجب أن تدعم المعاهدة وتعزّز حقوق العمال، بما في ذلك حقوق العاملين الأساسيين والعاملين في مجال الرعاية الصحية. وهذا أمر بالغ الأهمية بشكل خاص، نظراً إلى التداعيات الاقتصادية التي نجمت عن جائحة كوفيد-19، على صعيد التوظيف والوظائفرابط خارجي، وهي تداعيات تم الاقرار بوجودها من قِبَل الجميع وعلى نطاق واسع.
لقد لعبت فئات المجتمع المدني والجماعات الأهلية دوراً مفصلياً أثناء تفشي الجائحة، وبالتالي ينبغي الاستفادة من خبراتها والأخذ بملاحظاتها في هذا المضمار في عملية صياغة المعاهدة. فقد قامت المنظمات التي يقودها المجتمع الأهلي ومنظمات المجتمع المدني الأخرى بنشررابط خارجي المعلومات والاختبارات ووسائل الحماية الشخصية، ودافعت عن حقوق الأفراد الأكثر تهميشاً في المجتمع، بما في ذلك عمال الوظائف الخدماتية الأساسية. كما قدّمت بعض الجماعات الأغذية، والأدوية الأساسية وعملت على تأمين الخدمات الاجتماعية الأخرى التي فشلت الحكومات في تقديمها. وبشكل أساسي، رفعت هذه الجماعات المدنية الصوت مراراً وتكراراً ضد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي نتجت عن كيفية تعاطي الدولة مع الجائحة، والتي أتت غير مدروسة ومنافية لمفهوم الديمقراطية.
ولهذه الأسباب دعارابط خارجي التحالف منذ البداية إلى تطوير معاهدة الجائحة المقترحة من خلال آلية تشمل مشاركة كاملة ومتساوية وهادفة وفعّالة للمجتمع المدني والمنظمات التي يقودها المجتمع. هذه الآلية بإمكانها أن تُسهم في إكساب المعاهدة نوعا من الزخم والثقة العامة بفعاليتها، الأمر الذي نحتاجه فعلاً لتطوير مناهج ومقاربات مختلفة بشأن مسألة الصحة العالمية، ترتكز على حقوق الإنسان الأساسية.
وحتى الآن، ساهمت دعوتنا في تحفيز هيئة التفاوض الحكومية الدولية التابعة لمنظمة الصحة العالميةرابط خارجي المكلفة بالتفاوض بشأن المعاهدة، في عقد جلسات استماع عامة في شهريْ أبريل ويونيو 2022. ولكن لسوء الحظ، طبعت النقاشات خلال هذه الجلسات النظرة السطحية؛ ففي شهر أبريل، اقتصرت المساهمات من التقديمات الشفوية على بيانات مدتها دقيقتان، كما اقتصرت التقديمات المكتوبة على 250 كلمة (دون حتى إمكانية توفير روابط لمصادر أخرى). فكيف يمكننا اعتبار المشاورات بشأن المعاهدة فعّالة عندما تكون مقيّدة زمنياً ومحدودة للغاية، ولا تُرفع تقاريرنا إلى ممثلي الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية لأخذ العلم بها؟ وحتّى مع وجود مشاورات مماثلة من المفترض أن تجري في شهر يونيو، إلا أن هيئة التفاوض الحكومية الدولية لم تُعلن عن أي خطط ترمي لإجراء مشاورات على نطاق أوسع. لذلك قدّم التحالف مجموعة من التوصيات الواضحة إلى هيئة التفاوض الحكومية الدولية (INB)رابط خارجي من أجل معالجة مسألة آلية الصياغة التشاورية التي لا تلبّي الطموحات.
وفي الختام، وفي حين أننا لا نتفق مع وجهة نظر أولئك الذين يهدفون إلى رفض المعاهدة برمّتها، إلا أننا نتفق معهم بأن لديهم، مثلهم مثل جميع الفئات الأخرى في جميع أنحاء العالم، الحق في المشاركة في النقاش بشأن ضرورة إبرام المعاهدة. وفي حال تمّ الاتفاق على ضرورة إبرام هكذا معاهدة، فما هي حينئذٍ البنود التي يجب أن تتضمّنها وتشملها. وفي نهاية المطاف، من البديهي القول أنه لا يمكن التوصل إلى معاهدة من شأنها أن تعزّز حقوق الإنسان والمسار الديمقراطي، إلا إذا كانت للمعنيين في جميع أنحاء العالم ولا سيّما أولئك الذين ما فتئوا يُعانون من آثار وتداعيات جائحة كوفيد-19، كلمة يقولونها في وضع المعاهدة وصياغتها…
الآراء الواردة في هذا المقال لا تُلزم إلا أصحابها، ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر SWI swissinfo.ch.
تقوم swissinfo.ch بنشر آراء حول مواضيع مختلفة، سواء حول قضايا سويسرية أو مواضيع لها تأثير على سويسرا. يرمي اختيار المقالات إلى تقديم آراء متنوعة بهدف إثراء النقاش حول القضايا المطروحة. إذا كانت لديك رغبة في اقتراح فكرة لمقال رأي، يُرجى إرسال رسالة إلكترونية إلى arabic@swissinfo.ch
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.