سيادة القانون كمسألة مصيرية للديمقراطية المباشرة
في الولايات المتحدة الأمريكية، يلعب القضاء دوراً مهماً بعد إجراء الانتخابات، على العكس من ألمانيا التي يكون رأي القَضاء فيها مَسموعاً قبل بدء العملية الإنتخابية. وفي سويسرا، لم تتدخل المحاكم في هذه العملية (حتى الآن) إلّا بشكل نادر. بَيد أن العامل المُشترك خلف هذا التفاعل المُختلف بين الديمقراطية وسيادة القانون في الدول الثلاث، هو الصراع الدائِم على السُلطة .
من خلال جيش كامل من المحامين، أراد دونالد ترامب الذي فشل في تأمين إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، رَفع دعوى قضائية ضد النتائج التي أسفَرَت عن فوز الديمقراطي جو بايدن في أكثر من 3000 ولاية ودائرة انتخابية (مقاطعة). وبالفعل، كان مرشح الحزب الجمهوري لأعلى منصب في الولايات المتحدة قد أصَرَّ منذ ليلة الرابع من نوفمبر على “ضرورة احتساب كل صوت قانوني”.
الولايات المتحدة الأمريكية: قُضاة اتحاديون مناصرون للديمقراطية
“ليس هناك اعتراض على ذلك من حيث المبدأ”، يقول بول جاكوب، رئيس منظمة ‘المواطنون المسؤولونرابط خارجي’ (Citizens in Charge) الأمريكية المحافظة. “ففي الولايات المتحدة، تلعب المحاكم دوراً أساسياً بعد صدور قرار ديمقراطي”، يؤكد جاكوب، الذي مَثَلَت منظمته أمام المحاكم الفدرالية الأمريكية أكثر من مرّة. وكما يقول: “لقد وجدنا أن القُضاة الفدراليين أكثر مَيلاً لحماية حقوقنا الانتخابية وحقوق التصويت من المحاكم المحلية”. وهو يُرجع ذلك – من بين أمور أخرى – إلى حقيقة أن القُضاة في الولايات الاتحادية يجب أن يُعاد انتخابهم بانتظام، على عَكس القُضاة الفدراليين “الأمر الذي يخلق تبعية سياسية واختلالاً في التوازن بين الديمقراطية وسيادة القانون”، على حد قوله.
من جانبه، يقول جاستن ليفيتّ الباحث في القانون الدستوري الأمريكي، والذي يعمل كأستاذ في كلية لويولا للحقوق في لوس أنجلوس، أن ترمب “يتوقع أن تتعامل المحاكم مع هذه الانتخابات، كما يفعل هو في تغريداته”. ويضيف: “لكن الإجابة التي تأتيه من النساء والرجال الذين يرتدون ملابس القضاة هي: “عُذراً، نحن ملتزمون بالقانون”. مع ذلك، يحدث كثيراً أن تعلن محكمة ما بُطلان قرارات شعبية جاءَت نتيجة استفتاءات عامة بأثر رجعي . وتجدر الإشارة هنا إلى أن المواطنين في الولايات المتحدة، يتمتعون بحقوق الديمقراطية المباشرة في معظم الولاياترابط خارجي، ولكن ليس على المستوى الفدرالي.
“في ولاية كاليفورنيا، تُلغى نحو ثلث الاستفتاءات العامة بأثر رَجعي من قبل إحدى المحاكم”، كما كتبت اخصائية العلوم السياسية آنا كريستمانّ في كتاب *Direct Democracy and the Rule of Law (الديمقراطية المباشرة وسيادة القانون). وقد حصلت السياسية الألمانية على درجة الدكتوراه في هذا الموضوع في جامعة زيورخ، وهي عضوة في البوندستاغ (البرلمان الألماني)، ومُتحدثة باسم المُشاركة المَدَنية لتحالف الخضر منذ عام 2017.
ألمانيا: مُمارسة قانونية شكلتها التجربة التاريخية
التوتر القائم بين إرادة الشعب وسيادة القانون هو موضوع نقاش دائمٍ في ألمانيا أيضاً، وإن كان في ظل ظروف مختلفة تماماً عن تلك السائدة في الولايات المتحدة. “هنا في ألمانيا، تنشط المحاكم عادة قبل اتخاذ قرار ديمقراطي”، يقول ثيو شيلَّر، الأستاذ الفخري للعلوم السياسية في جامعة ماربورغ. “هذا يعود بشكل رئيسي إلى تجربتنا التاريخية بين الحربين العالميتين” كما يؤكد شيلَّر، الذي يُقَدِّم عرضاً مُثيراً حول ذلك في كتاب جديد ** يشير فيه إلى “الدور المُتناقض الذي تلعبه المحاكم الألمانية فيما يتعلق بحماية حقوق الشعب”.
نتيجة لذلك، تم إيقاف العديد من المُبادرات الشعبية في البلديات والولايات الاتحادية قضائياً قبل البدء بجمع توقيعات الناخبين حتى. ومثلما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، لا يتمتع الشعب الألماني أيضاً حتى الآن بحقوق الديمقراطية المباشرة على المستوى الفدراليرابط خارجي. “تواجه المبادرات التي تتناول القضايا المالية أو التي تسعى إلى توسيع نطاق الحقوق الشعبية وقتاً عصيباً على وجه الخصوص”، يلاحظ شيلر. لكنه يشير أيضاً إلى استعداد المحاكم التام لتمكين عمليات تشكيل الرأي الديمقراطي (المباشر) في قضايا أخرى – مثل البُنية التَحتية أو القضايا التعليمية. ووفقاً لدراسةرابط خارجي جديدة أجرتها جمعية “المزيد من الديمقراطية” (Mehr Demokratie)، تمت الموافقة على ما يقرب من 500 إجراء ديمقراطي مباشر على مستوى الولايات الاتحادية منذ الحرب العالمية الثانية.
بالمُقارنة مع التدخل اللاحق لدولة القانون في الولايات المتحدة الأمريكية، يرى شيلَّر وجود ميزة كبيرة في المُراجعة القضائية المُسبَقة التي تمارسها ألمانيا. وكما يقول موضحاً: “عندما نَجْمَع توقيعات المواطنين الذين يحق لهم التصويت ونُدلي بأصواتنا، فأن تأثير هذه التواقيع سيكون مُلزِماً بالفعل ولن يتم الإعلان عن بُطلانها لاحقًا”.
سويسرا: الشعب كصانع للدستور
على الرغم من الدور المُختلف جداً لسيادة القانون في الديمقراطية، فإن ألمانيا والولايات المتحدة مُتشابهتان في حقيقة عدم تمكُن المواطنين من العمل كمُشَرّعين دستوريين على المستوى الفدرالي – على العَكس من سويسرا تماماً: “هنا يجب أن يوافق الشعب والهيئات على جميع التغييرات الدستورية، لكن ليس لدينا محكمة دستورية” [حيث لا تمتلك المحكمة الفدرالية الحق في النظر في أحكام ومواد مرتبطة بالدستور أو قابلة للتنفيذ في سويسرا]، كما تؤكد المحامية نادية بيندَر براون، أستاذة القانون العام في جامعة بازل.
في الواقع، لمْ يحدث سوى مرة واحدة فقط في تاريخ سويسرا الحديث أن أعلنت المحكمة الفدرالية العليا بطلان نتائج أحد الاستفتاءاترابط خارجي في وقت لاحق. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك بعض الاعلانات السابقة حول بُطلان مبادرات شعبية على مستوى الكانتونات (من قبل المحاكم)، وعلى الصعيد الوطني (من قبل البرلمان في أربع قضايا).
ففي ربيع عام 2019، وفي سابقة هي الأولى من نوعها بسويسرا، ألغت المحكمة الفدرالية العليا في لوزان نتيجة الاستفتاء على مبادرة “ضد عقوبة الزواج” التي أطلقها الحزب الديمقراطي المسيحي في عام 2016، على أثر تقدُّم الحزب ذاته بطلب استئناف ضد نتيجة الاستفتاء بدعوى تضليل الناخبين. وبحسب المحكمة، يعود السبب في قرارها هذا إلى تقديم الحكومة السويسرية تفاصيل غير دقيقة في التوضيحات التي عرضتها في ما يُسمى بـ “كُتَيّب التصويت” الذي يُرسَل للناخبين مع ورقة التصويت”.
بيد أن التحدي الأكبر بكثير الذي يواجه سيادة القانون بالنسبة للديمقراطية السويسرية هو التضارب مع حقوق الإنسان على النحو المنصوص عليه في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها سويسرا، حيث “تستمر ستراسبورغ بانتقاد سويسرا بسبب قضايا تتعلق بالتمييز بين الجنسين”، كما كتبت سيبيلا بوندولفي في مقال نشر حديثاً على موقع SWI swissinfo.ch.
قواسم مشتركة: توتر بين مراكز القوة
على الرغم من اختلاف الممارسة في الدول الدستورية الفدرالية الديمقراطية المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وسويسرا، إلّا أن مناطق التوتر المَلموسة بين مختلف مراكز السُلطة مُتشابهة في النهاية: فبينما ترى الولايات المتحدة وألمانيا في سويسرا مصدر إلهام لإدخال حقوق الديمقراطية المُباشرة للشعب على المستوى الفدرالي، إلّا أن التأثيرات القانونية المُستَنِدة إلى النموذجين الأمريكي والألماني ملموسة بشكل مُتزايد في سويسرا أيضاً. و يشمل ذلك الإعلان اللاحق ببُطلان استفتاء شعبي، والدور المتزايد للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى مُقترحات لإجراء فحص تمهيدي أكثر فاعلية للمبادرات الشعبية بغية توافقها مع القانون الدولي، “وهو ما سيكون مَكسَباً للديمقراطية في سويسرا”، كما يقول شيلَّر بثقة. “فحينئذٍ سوف يتم التصويت على المبادرات القابلة للتنفيذ فقط”.
* الديمقراطية المباشرة وسيادة القانون: الديمقراطية المباشرة والأقليات، فيسبادَن، دار نشر ‘شبرينغَر’، فيسبادن 2012
** في الانتقال إلى الديمقراطية: دستور فايمار كمخطط لجمهورية ديمقراطية، بادن بادن (دار نشر نوموس) 2021
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.