في السعودية.. المحافظون “القدامى” يهزمون المحافظين “الجدد”
بعد أقل من شهرين من خلافته للملك عبد الله الراحل على رأس الدولة السعودية، ألقى الملك سلمان بن عبد العزيز يوم 10 مارس 2015 خطابا أعلن فيه عن خطته العامة للحكم وعن الخطوط العريضة لتوجهاته في إدارة شؤون المملكة. في الأثناء، كشفت القرارات السريعة والعديدة المتخذة في الأسابيع الماضية عن حدوث "تغييرات" مهمة داخل الدولة السعودية قد تكون لها تداعيات محلية وإقليمية.
رسميا حكم عبد الله بن عبد العزيز آل سعود المملكة السعودية طيلة عشر سنوات (2005-2015) قبل رحيله يوم 23 يناير 2015، غير أنه ساس المملكة في الواقع عشرين سنة، أي منذ أن تعرض أخاه غير الشقيق فهد لجلطة دماغية في أواسط تسعينات القرن الماضي. لكن على عكس عمليات التوريث السابقة داخل أسرة الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، التي كانت تتم بناء على قاعدة التوافق بين أبناء عبد العزيز وأحفاده، أحدث انتقال السلطة من عبد الله إلى أخيه غير الشقيق سلمان، الطاعن في السن (80 عاما)، رجة قوية في جهاز الدولة The establishment، إذ بات الملك للمرة الأولى صورة باهتة بلا نفوذ حقيقي، فيما استحوذ على سلطة القرار نجله محمد (34 عاما) وزير الدفاع ورئيس الديوان الملكي والمستشار الخاص للملك، مع ابن أخيه محمد بن نايف (55 عاما) الذي حل على رأس وزارة الداخلية بعد وفاة والده نايف في 2012، والذي صار اليوم وليا لولي العهد أيضا.
ظاهريا وشكليا تم اللجوء للقاعدة المتفق عليها، وهي توريث الحكم للأكبر سنا بين أبناء الملك عبد العزيز. لكن، بين إدخال الملك الراحل عبد الله إلى المستشفى في 31 ديسمبر 2014 والإعلان عن وفاته في 23 من الشهر الموالي اندلعت حرب ضروس بين جناحين من الأسرة: الأول ممثل بأولاد الملك عبد الله وولي العهد الراحل سلطان الذين كانوا يُصرّون على توزيع المواقع الحساسة بين أحفاد الملك عبد العزيز آل سعود، أو من يُطلق عليهم “الجيل الثاني”، أما الجناح المقابل فهو ممثل بالأميرين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان.
حكم برأسين؟
ثلاثة أسابيع طويلة ظل خلالها الملك عبد الله يحتضر، بينما كان خالد التويجري رئيس الديوان الملكي ينتظر أن يستفيق عبد الله لكي يوقع على قرارات تُحجّم الجناح المنافس. لكن الذي حصل هو العكس. فقبل الإعلان عن وفاة الملك ترتبت الأمور بحيث تم وضع التويجري وأنصاره في الإقامة الإجبارية (إلى تاريخ إعداد هذا التقرير) وتقررت تسميات واسعة في الدولة لإبعاد الجناح المقابل. ولوحظ أنه بعد أيام قليلة فقط من إعلان وفاة الملك، صدر 34 مرسوما ملكيا دفعة واحدة، مما يدل على أنها كانت جاهزة من قبل، وقد تضمنت تسميات وإعفاءات كثيرة ولافتة في المراكز المفتاحية للدولة السعودية. وبدل أن ينتهز سلمان اليوم الفرصة لإعادة توزيع الصلاحيات بين أمراء الأسرة، فضل مركزة السلطات بين يدي اثنين من الأمراء البارزين وهما محمد بن نايف وزير الداخلية والخصم اللدود للمعارضين الذي استهدفته “القاعدة” بعملية انتحارية فاشلة، وقد منحه عمه الملك الجديد سلمان قيادة اللجنة الوزارية للشؤون السياسية والأمنية، التي ستحدد السياسة العامة للدولة.
وكان محمد بن نايف قاد سياسة متشددة ليس فقط لملاحقة الجماعات المسلحة وخاصة “القاعدة”، وإنما أيضا لقمع المعارضين والنشطاء الليبراليين. وهو حاليا الرجل المفتاح في التنسيق الأمريكي الخليجي ضد الإرهاب، ولذلك فهو يحظى بمكانة خاصة في واشنطن. ربما لهذا السبب لم يكن غريبا أن الملك سلمان دفع به إلى الصف الأول كولي لولي العهد، لكي يكون أول ملك ينقل المشعل إلى الجيل الثالث متى ما رحل سلمان (80 عاما) وولي عهده الحالي مقرن (70 عاما).
هكذا يتجلى أن مفاصل أساسية من جهاز السلطة باتت بيد محمد بن نايف، فيما أمسك محمد بن سلمان (النجل الأصغر للملك) بالدفاع والمخابرات العسكرية والإقتصاد بما فيه النفط، بوصفه رئيسا لمجلس الشؤون الإقتصادية والتنمية. أكثر من ذلك أصبح محمد بن سلمان رئيسا للديوان الملكي، الذي يتولاه للمرة الأولى عضو من الأسرة الحاكمة.
السعودية والولايات المتحدة
لم يؤثر انتقال السلطة في السعودية على العلاقات الوثيقة مع الحليف الأكبر في واشنطن، فالسياسة السعودية حافظت على ثوابتها على الصعيدين الاقليمي والدولي. وشكل مجيء الرئيس أوباما إلى الرياض للتعزية والإجتماع مع الملك الجديد سلمان، مؤشرا إلى الحرص على استمرار التحالف الذي تعزز في الحرب المشتركة على “داعش”. ولوحظ أن الرجل القوي في الفريق الحاكم الأمير محمد بن نايف زار أخيرا واشنطن وتركزت محادثاته هناك على ملفات اقليمية مشتركة منها اليمن وسوريا والعراق وكذلك المفاوضات بشأن النووي الإيراني.
أمراء… كانوا أقوياء
وبالتوازي مع توزيع السلطات بين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان أبعد الملك الجديد أمراء بارزين منهم خالد الفيصل، الابن البكر للملك فيصل من وزارة التربية وعزل ابني الملك عبد الله اللذين كانا يتوليان إمارتي الرياض ومكة. وفي تصريحات لـ swissinfo.chن قال الباحث في مركز “بروكينغز” والخبير في الشؤون السعودية غريغوري غاوس Gregory Gause تعليقا على هذا الانقلاب داخل القصر: “كانت السلطة مشتتة بين أمراء الأسرة واليوم جمع الملك السلطات بين يدي أميرين مما يسمى بالجيل الثالث لعائلة (آل سعود)”. وأضاف غاوس “في نظام كانت السلطة السياسية فيه موزعة بين أعضاء عديدين من الأسرة طيلة عقود فإن مركزة النفوذ ستجعل كثيرين يُقطبون حواجبهم تعجبا”، مُتسائلا “كيف سيكون مستقبل العلاقات الأمريكية السعودية، التي مرت بأزمات دقيقة (11 سبتمبر 2001، الإجتياح الأمريكي للعراق، الربيع العربي…) في ظل القواعد الجديدة للعبة؟”.
وتوجهتُ بالسؤال إلى أكاديمي سعودي عريق فضل عدم الكشف عن هويته، لأسأله هل أن ما حصل كان “ثورة داخل القصر” أم “انقلابا أبيض”؟ فلم يُحبّذ أيا من التعبيرين، ورد بأن الذي حدث هو انتصار للمحافظين القدامى على المحافظين الجدد في وقت قياسي شبيه بالحرب المباغتة. ولكن من هم المحافظون الجدد؟ يقول الأكاديمي إنهم ممثلون بجناح الملك عبد الله الذي وضع بصمة خاصة على الحكم منذ توليه العرش جعلته مختلفا عن سلفه فهد المتسم بالتشدد، ومتميزا أيضا عن وزير الداخلية ولي العهد الراحل نايف.
لاشك أن عبد الله هو أحد المدافعين البارزين عن عرش آل سعود. كما أن العلاقات الوثيقة التي ربطها مع العلماء والفقهاء جعلت هؤلاء يرون فيه ذائدا عن نقاوة الإسلام. إلا أن طبعه الوفاقي جعله يبتعد عن المغالاة فلا يتخذ مواقف متشددة ولا يخضع لضغوط الصقور، ومنهم الأمير نايف. لذا يرى مُحللون أنه لولا عبد الله لما تم الإقرار في سبتمبر 2011 بحق المرأة السعودية في الإنتخاب والترشح خلال الإنتخابات البلدية المقبلة، ولا بتسمية السيدات ضمن أعضاء مجلس الشورى للمرة الأولى في تاريخ المملكة. وارتدت أيضا الشابة السعودية أروى الحجيلي (25 عاما) في عهده لباس المحامية للمرة الأولى سنة 2013 بعد اعتراضات قوية من المتشددين. وكان الملك عبد الله تلقى في 2012 عريضة وقعت عليها 3000 من خريجات القانون، وقرر على إثرها السماح بتسجيل المحاميات في قيد المحاماة. كما بدأت إجراءات إصلاحية أخرى تأخذ مجراها مع استمرار حملات قمع المعارضين في الوقت نفسه، والتي انتقدتها المنظمات العربية والدولية المدافعة عن حقوق الإنسان في مناسبات عديدة، آخرها الحكم بالحبس عشر سنوات مع ألف جلدة على المدون الشاب رائف بدوي (31 عاما).
نهاية الخلاف مع قطر؟
يبدو أن الخلاف بين قطر والسعودية، الذي كاد يشل مجلس التعاون الخليجي، صار جزءا من الماضي. فقد لاحظ المراقبون أنه خلافا للزعماء الخليجيين الذين زاروا الرياض تباعا للإجتماع مع الملك الجديد، حظي أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بمعاملة خاصة، فبعد اللقاء الرسمي مع أركان القيادة السعودية دعاه الأمير محمد بن نايف إلى لقاء في مزرعته الخاصة بحضور الأمير محمد بن سلمان. والجدير بالذكر في هذا المضمار أن محمد بن نايف هو الذي كان صلة الوصل مع قطر طيلة الفترة الماضية، وهو الذي ساعد في ترطيب الأجواء لعودة السفراء الخليجيين إلى الدوحة بعدما كانت استدعتهم دولهم. وفي معلومات من مصادر مطلعة أن الرياض “لم تطلب من الدوحة تغيير موقفها من نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي”.
مطالب الأجيال جديدة
لقد طفا الصراع بين الملك عبد الله والمتشددين (أو المحافظين القدامى إن صح التعبير) على السطح عندما أقدم على الحد من سلطات موظفي “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وهي عبارة عن شرطة دينية تتمتع بسلطات موسعة في مجال الإعتقال والتفتيش والتحقيق.
غير أن السؤال الأكبر الذي يتعيّن على الفريق الحاكم الجديد مواجهته هو ماذا سيقدم للشباب المتأثر بالحراك الإصلاحي في العالم العربي؟ فقد برزت في السعودية مجموعات شبابية جديدة بدأت تدير الخطاب الإحتجاجي بمنهجية وأساليب مبتكرة. وتعتبر السعودية من أكثر الدول العربية حضانة للتقنية، وشبابها يعتبرون أيضا من أكثر المستخدمين لهذه التقنية بصورها المختلفة. وتصل نسبة الذين هم دون الثلاثين الى 60 بالمئة من السكان. ويتجاوز عدد مستخدمي الفيسبوك في البلد الثلاثة ملايين مستخدم، 75 في المائة منهم بين سن الخامسة عشرة والتاسعة والعشرين، فيما يُقدر عدد مستخدمي الإنترنت في المملكة بأكثر من 13 مليون مستخدم (يقدر عدد السعوديين بحوالى 26 مليوناً).
أما موقع “تويتر” فقد تحول إلى ساحة حوار وجدل حقيقيين في مختلف القضايا السياسية والدينية والإجتماعية، إذ أن مرتاديه من الشباب يتابعون بصورة مستمرة تغريدات الشخصيات الدينية والسياسية، ولا يبخلون بمشاركاتهم وردودهم عليها. ذلك هو الجيل الجديد الذي تجاهل المؤسسات التقليدية ليفتح نوافذ على العالم الخارجي بوسائله الخاصة. ويذهب مراقبون إلى أنه على الحكام الجدد المتشددين أن يقرأوا ألف حساب لتطلعاته ومطالبه، لأن الأسلوب الأمني والقبضة الحديدية لم يعودا مُجديين لاحتواء هذا الجيل الذي شب عن الطوق… بلا رجعة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.