في سوريا.. سكان مُهددون لا يهابُون ركوب الأخطار
بينما تواجه أوروبا موجة من اللاجئين، سلّط تقرير جديد صادر عن لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة الضوء على المعاناة التي لا حدود لها التي يلقاها المدنيون في سوريا، خاصة النساء والأطفال، الذين "أصبحت صحتهم العقلية مهدّدة على نحو متزايد"، على حد قول أحد الخبراء الدوليين.
وأشار المحققون، ومن بينهم السويسرية كارلا ديل بونتي، الذين أنجزوا تقريرهم ما بين 10 يناير و10 يوليو 2015 إلى أن “الأطفال السوريين قد عانوا من بشاعة الحرب. فعدد لا حصر له من بينهم قد تعرّض إلى نفس الإنتهاكات التي تعرّض لها الكبار، دون أي اختلاف أو تمييز. وتواصل أطراف النزاع تجنيد الاطفال والإستعانة بهم في تنفيذ الأعمال العدائية. وبسبب التعرّض المتكرّر للعنف وانعدام الأمن، بدأت تظهر على الاطفال في جميع أنحاء الجمهورية العربية السورية أعراض الصدمات النفسية، التي تشتمل على الإضطرابات النفسية والسلوكية، والحالات النفسية التي تعقب الصدمات. وتُضعف المدّة الطويلة التي استغرقها هذا الصراع قدرة هؤلاء الاطفال على التحمّل”.
حرب مجنونة
تفصّل سينوب تشاكريان، الأخصائية في الأمراض العقلية لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر هذا الوجه المظلم من الحقيقة الذي يشير إليه التقرير فتقول: “كل هجوم جديد، وكل حادثة قتل تزيد عدد الأشخاص المصابين بصدمات نفسية، وخاصة الأطفال. جزء كبير من المدنيين يبدون صمودا أمام هذا الوضع، ولكن كلما استمرّ الصراع، كلما زاد خطر الإنهيار أمام هذا الواقع”.
وحول مدة الحرب، يبدو تقرير الأمم المتحدة متشائما حيث “لا يبدو أن أي طرف من الأطراف المتحاربة على وشك الإنهيار. كما لا يوجد طرف في وضع يسمح له بتحقيق نصر عسكري حاسم. وبعد أزيد من أربع سنوات من القتال، حصلت جميع الأطراف على ما يكفي من الدعم، وحققت مكاسب في الميدان، وقدرة على التحرّك للصمود عدّة سنوات”.
كما كان للمنافسة بين القوى الإقليمية عواقب أخرى، مثل التفاقم الهائل للبعد الطائفي المتولّد عن تدخّل المقاتلين الأجانب والمتطرّفين الدينيين. ذلك أن الأطراف المشاركة في النزاع السوري “فقدت تدريجيا السيطرة على مُجريات الأحداث بسبب العديد من العناصر الخارجية المتباينة والتي تحجب البعد الداخلي للنزاع”.
استهداف المستشفيات عمدا
من بين العواقب الأخرى لهذا الصراع انهيار النظام الصحي الذي أصبح في أسوإ حالاته، ذلك أن “الإستخدام المستمر من قبل الحكومة السورية للقصف الجوي العشوائي أدى إلى تدمير المستشفيات، والمشافي الميدانية، والعيادات، والمعدّات الطبية ومخازن الأدوية، وتسببت في غلق مؤقت أو دائم للمرافق الصحية”.
في المقابل، يشدد محققو الأمم المتحدة على أن جميع الأطراف مسؤولة عن هذا الوضع، ويقولون: “لقد تعرّض العاملون في المجال الطبي إلى هجمات، وفي كثير من الأحيان استهدفوا كجزء من إجراءات أوسع نطاقا ضد المنشآت والبنى التحتية في المجال الصحي”.
بالإضافة إلى هذه الهجمات العشوائية، تفاقم ما يُعرف بـ “الدولة الإسلامية” الوضع أكثر فأكثر في المناطق التي تسيطر عليها: “فالقواعد التي تفرضها “داعش” للفصل بين الجنسيْن تحد من فرص حصول النساء والفتيات على الرعاية الصحية. وقد فرّ الكثير من الأطباء في المناطق التي تسيطر عليها هذه المنظمة خلال عام 2013، وهناك عدد قليل جدا من النساء الطبيبات في المنطقة. ونتيجة لذلك أصبح عدد المتخصصين في معالجة النساء قليلين جدا”.
استمرار الكابوس بعد النزوح
لم يبق إذن من حلّ سوى الهروب من هذا الجحيم. ووفقا لهذا التقرير الأممي، فإنه “بعد وصول العدد إلى 4 ملايين لاجئ وحوالي 7.6 مليون نازح، أصبح نصف الشعب السوري مقتلعا من أرضه”.
على الرغم من أن أعدادا متزايدة منهم يحاولون الوصول إلى أوروبا، فإن الغالبية العظمى منهم يواصلون حياتهم في المخيمات في سوريا أو في البلدان المجاورة. وما يدوّنه التقرير عن هذه المرافق صادم، حيث يُشير إلى أن “هذه المخيمات عادة ما تكون أماكن غير آمنة. فحاجة أفراد الأسرة من الإناث، وارتفاع تكلفة رعاية الأسر الكبيرة أدّيا إلى زيادة نسب الزيجات المبكّرة في المخيّمات. ولهذا الأمر عواقب سلبية على مستوى التعليم، والرعاية الصحية، وعلى نوعية حياة النساء والفتيات الشابات في سوريا”، كما يقول التقرير.
ومثلما لاحظت الأخصائية النفسية سينوب تشاكاريان، فإن توفير الأمن يُعتبر الشرط الأوّل للحيلولة دون تفاقم أوضاع الصحة العقلية لضحايا هذه الحرب التي تسببت في مقتل أزيد من 230.000 شخص، وفقا لإحصائيات للمرصد السوري لحقوق الإنسان.رابط خارجي ورغم أن التقرير يشير إلى أنه “من حيث الصحة العقلية، لا يوجد من حيث المبدأ أفضل من البقاء في المنطقة حيث العقليات والثقافات متقاربة”.
ورغم أن الهروب نحو أوروبا يضيف مشكلات نفسية وصدمات جديدة للضحايا، بما في ذلك في أوروبا نفسها “عندما يجد هؤلاء أنفسهم منبوذين أو لا يجدون الإستقبال الذي كانوا ينتظرون. مع ذلك تبقى امكانية العيش في مكان آمن أفضل وسيلة لوضع حد لدوامة العنف والهزّات النفسية”. وللحصول على ذلك “يرهن الآلاف من السوريين حياتهم بأيدي المهرّبين والمتاجرين لخوض رحلة محفوفة بالمخاطر في قوارب بدائية متهالكة لعبور البحر الأبيض المتوسّط. ومنذ 2011، غرق أزيد من 2000 لاجئ سوري في البحر خلال محاولتهم العبور إلى أوربا بحثا عن الأمن”، كما يُورد التقرير.
لا يمكن لأوروبا أن تتهرّب من مسؤوليتها
الفشل في حماية اللاجئين السوريين على المستوى الدولي يتحوّل الآن إلى أزمة في جنوب أوروبا. ومن الضروري بالنسبة للبلدان المعنية أن تحترم مبدأ عدم الإعادة القسرية والإيفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي العرفي والإنساني. لكن هذا النداء الصادر عن لجنة التحقيق، ولئن بدأ يجد بعض الآذان الصاغية، إلا أنه لايزال يقسم الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي.
اعتبرت كارلا ديل بونتي المدعية العامة السابقة لدى محكمة الجنايات الدولية يوم الخميس 3 سبتمبر 2015 في جنيف أن تقاعس مجلس الأمن الدولي إزاء ما يحدث في سوريا هو بمثابة “العار”، كمت نددت بالإفلات التام من العقاب في هذا البلد.
وفي حديث إلى وسائل الإعلام خلال عرض محتوى التقرير العاشر للجنة التحقيق الأممية حول انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، قالت القاضية السويسرية السابقة: “أشعر بإحباط كبير”. وأضافت المدعية العامة السابقة أنه “كان بالإمكان أن تكون العدالة خطوة أولى مهمة، ولكن تسود في سوريا حالة شاملة من الإفلات من العقاب”.
للتذكير، طلبت لجنة التحقيق مرارا وتكرارا من مجلس الأمن التوجّه إلى محكمة الجنايات الدولية للبت في الأحداث التي تشهدها الأراضي السورية، إلا أن هذا لم يحدث منذ أربع سنوات حيث هددت روسيا، التي لا تزال مخلصة ومتمسّكة ببشار الأسد، باللجوء إلى استخدام حق النقض ضد أي محاولة من هذا القبيل.
(المصدر: وكالة الأنباء السويسرية)
(نقله من الفرنسية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.