كيف تتعامل الدولة الأكثر اقتراعًا في العالم مع التصويت عبر البريد
في سويسرا، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 90٪ من بطاقات الاقتراع تُرسل بواسطة البريد، وهو رقم ارتفع باطراد على مدى عقود. في ظل الظروف السائدة بسبب جائحة كوفيد – 19، هل سارت الاقتراعات الأخيرة التي شهدتها الكنفدرالية كالمعتاد؟
“الناخبون السويسريون سيصوّتون على المشروع “الفلاني” يوم الأحد”.. “سيتوجّه المواطنون إلى صناديق الاقتراع في نهاية هذا الأسبوع لتقرير مصير المبادرة “العلانية”.. صحيح، أننا معتادون – نحن معشر الصحفيين – على استخدام هذه القوالب التعبيرية الجاهزة لتأجيج التوتر عشية إجراء الاستشارات الشعبية، لكنها لم تعد تعني الكثير في يوم الناس هذا.
ذلك لأنه في جميع الحالات، تم إرسال 90٪ وأكثر من بطاقات الاقتراع بواسطة البريد قبل حلول “يوم التصويت”. لذلك، فإن الأمور قد حُسمت بالفعل إلى حد كبير، أما النتيجة فهي تنتظر بكل بساطة انتهاء عمليات احتساب الأصوات في مكاتب البريد والمقرات التابعة للبلديات.
كان هذا هو الحال، على سبيل المثال، في أوبرفينترتور، أحد مراكز عـد الأصوات التابعة لبلدية فينترتور، في كانتون زيورخ. ففي يوم السبت 26 سبتمبر الماضي، جمع يورغ بيلفيلّر، المسؤول عن العملية “القوات” التابعة له، أي حوالي ثلاثين شخصا يؤمّنون عملية الفرز توزعـوا بشكل ثنائي حول الطاولة الكبيرة التي تم وضعها في بهو الكنيسة البروتستانتية.
ليس هناك ما يثير الدهشة في ظل أجواء تتسم بالجدية والمثابرة. يقوم المدققون – وهم متطوعون يُدفع لهم مبلغ معيّن – بتصفح حزم من الأوراق ثم يُتابعون شركاءهم وهم يقومون بدورهم بتقليب نفس الحزم من الأوراق. هذا هو ما يسمى بمبدأ “الأعين الأربعة”، الذي يساعد على تحسين مستوى الدقة ومنع الاحتيال. البعض يتبادل أطراف الحديث، والبعض الآخر يضع سماعات في الرأس، والجميع يرتدون أقنعة صحية.
إنها المرحلة الموصوفة بـ “الانتقالية”: في حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، انتهى المدققون للتو من التحقق من أحد العنصريْن اللذين يتشكل منها نظام التصويت البريدي السويسري وهي “بطاقات الناخب”، التي يجب أن تصاحب بطاقات الاقتراع، والمذيّلة بتوقيع الناخب أو الناخبة كدليل إثبات للهوية. إثر ذلك، يبدؤون في فرز بطاقات الاقتراع بأنفسهم. هذه المرة، تخضع خمس مسائل مطروحة على المستوى الوطني ومسألتان معروضتان على مستوى الكانتون لحكم الناخبين. يستخرجون البطاقات من المغلفات ويقومون بفحصها ثم يُصنفونها.
لكن يورغ بيلفيلّر يُشدد مذكّـرا: “لكننا لا نقوم باحتساب الأصوات!”.
لا زلنا في يوم السبت، وسينتظر التعداد الفعلي للأصوات بعض الشيء. في الوقت الحالي، يقومون بسحب بطاقات الاقتراع الباطلة (التي لا يُمكن قراءتها، غير ذات الصلة، البيضاء) ويقسّمون البطاقات السليمة (“نعم” أو “لا”) إلى أكوام. وستتم عملية عدّ الأصوات في الغد يدويا وبواسطة آلة لعدّ الأوراق النقدية.
عدة صناديق بلاستيكية كبيرة موضوعة على الأرضية، وأكوام من بطاقات الاقتراع مصفوفة على مشهد الكنيسة الذي استُخدم لهذه المهمة في هذه المناسبة. بعد استراحة بعشر دقائق تتم العودة إلى العمل. كل شيء منظم للغاية.
كم مرّة عاش يورغ بيلفيلّر أجواء اقتراعات من هذا القبيل في هذه الأماكن؟ لا يتذكر عددها بدقة.
المزيد
نادرا ما يكون التصويت عن طريق البريد سهلا.. لماذا؟
منظومة تشتغل بشكل جيّد
يشكل الرجل مع فريقه واحدًا من آلاف التروس التي يتشكل منها النظام الوطني الذي يسمح بالتسيير السلس لـ “آحاد التصويت”، وهي المواعيد الدورية لممارسة الديمقراطية المباشرة في سويسرا.
عمليا، يسمح هذا الإعداد والفرز في المراحل الأولى من العمل بالسير بسرعة في اليوم المحدد. إذ يتم إغلاق باب الاقتراع عند الزوال ويبدأ الإعلان عن النتائج الأولى على الفور. وعلى الرغم من وجود العديد من الاقتراعات الوطنية والكانتونية والبلدية، فإن النتائج النهائية ستكون متاحة في غضون ساعات قليلة.
يوضح ستيفان زيغلر، المسؤول عن الاقتراعات والانتخابات في كانتون زيورخ، الأكثر اكتظاظًا بالسكان في سويسرا، أن العملية بدأت قبل أربعة أشهر تقريبًا. إذ تتلقى الكانتونات – المسؤولة عن التنظيم اللوجيستي – من السلطات الفدرالية في برن قائمة القضايا المطروحة على المستوى الوطني التي سيتم التصويت عليها وتبدأ في إعداد الكتيبات الإعلامية الموجّهة للمواطنين. بعد مرور ثمانية أسابيع، تبدأ البلديات في طباعة بطاقات الاقتراع، وفقا للسجلات الانتخابية. إثر ذلك، يستلمها المواطنون عبر البريد قبل ثلاثة أو أربعة أسابيع من تاريخ التصويت، وإثر ذلك يمكنهم إعادتها أو إيداعها في مقر بلديتهم حتى آخر لحظة تقريبا.
يقول ستيفان زيغلر: “إنها عملية راسخة للغاية. فلا توجد شروط مُسبقة للتصويت بواسطة البريد. كل ما في الأمر أن يصول المظروف ببساطة إلى صندوق البريد الخاص بالشخص”.
تم اعتماد التصويت بالبريد لأول مرة في أواخر سبعينيات القرن الماضي، في محاولة لتحسين نسبة الإقبال المنخفضة على التصويت، وتم ترسيخه في القانون السويسري في عام 1994. ومنذ عام 2006، قامت كل الكانتونات (وعددها 26) بتخصيص خدمة للعمل في هذا المجال.
يلاحظ أوفيه سيردولت، أستاذ العلوم السياسية بجامعة زيورخ أن “الأمور تسير بشكل جيّد، لذلك لا توجد الكثير من النقاشات حولها”. في الأثناء، تدعي الكانتونات أن ما يقرب من 90٪ من المواطنين يصوتون الآن عن طريق البريد بل أورد البعض منها أرقامًا تصل إلى 97٪ (كانتون أرغاو، سنة 2017). في السنوات الأولى التي طبق فيها التصويت بالبريد، دارت نقاشات حول مسألة الأمن، كما هو الحال الآن بخصوص التصويت الإلكتروني، يتذكر أوفيه سيردولت. لكن بمرور الأعوام، حظي النظام بقبول واسع، بفضل مستوى الثقة العالي لدى السويسريين “تُجاه الدولة وتُجاه النظام البريدي”.
أما بالنسبة للترفيع في نسبة المشاركة، فقد تم تحقيق الهدف بشكل جزئي فقط. فقد قدرت دراسة أجريت عام 2007 الزيادة بنحو 4.1٪ بين عامي 1970 و2005، بمتوسط 43٪. وبالتالي، فإن ضعف نسبة الإقبال العام على المشاركة لا يُعزى إلى الإزعاج المحتمل الذي يُصاحب الذهاب إلى مركز اقتراع في صباح يوم شتوي، بل ناجم عن تواتر الاستشارات الشعبية والتعقيد الذي تتسم به القضايا التي سيتم الحسم فيها.
أما أولئك الذين ما زالوا يستمتعون بالشعور الذي يُصاحب تحولهم شخصيا إلى مكتب اقتراع وإدخال بطاقة الاقتراع في الصندوق – مثل يورغ بيلفيلر في بلدة أوبروينترتور – فالخيار لا يزال قائما ومن غير المرجح أن يختفي في وقت قريب.
التصويت في أجواء “كوفيد”
ولكن هذه المرة، ومع استمرار انتشار الوباء، أرادت بعض الجهات التشجيع على مزيد التصويت عبر البريد. ففي مدينة برن، تم وضع ملصقات رسم عليها حمام زاجل لحث المواطنين على “البقاء بصحة جيدة والتصويت عبر البريد”.
وفي هذه الحالة على الأقل يبدو أن التجربة نجحت، حيث أعلنت السلطات البلدية في المدينة أن التصويت عبر البريد قد ارتفع من 87.7٪ في الاقتراع السابق الذي أجري في شهر فبراير 2020 إلى 93.3% هذه المرة.
من الصعب أن تتشكل لدى المرء فكرة عن الموضوع على المستوى الوطني، لأنه لا تُوجد الكثير من الإحصاءات حوله، خصوصا وأن النّسبَ الأولية مرتفعة جدا بالفعل. في يوم الأحد 27 سبتمبر الماضي، سجلت نسبة المشاركة الإجمالية في التصويت زيادة كبيرة وناهزت 60%، وهي واحدة من أعلى النسب التي تُسجّل منذ عقود. وتُظهر الأرقام المتاحة عن التصويت البريدي زيادات هامشية مقارنة بالاقتراع الأخير، حيث ارتفعت من 90 إلى 92.6٪ في كانتون زيورخ، ومن 93 إلى 93.5٪ في كانتون تيتشينو، أما في مدينة بازل فقد ارتفعت النسبة من أقل من 95٪ بقليل إلى حوالي 96٪ (!).
في أوبرفينترتور، كان التأثير الرئيسي للوباء ملموسا في عملية احتساب الأصوات أكثر مما هو في عدد الأصوات. فقد زاد عدد المغلفات التي تم استلامها بالبريد بنسبة 1.5٪ لتصل إلى ما يزيد قليلاً عن 90٪ من إجمالي الأصوات التي تمّ الادلاء بها وهو أمر طبيعي تمامًا، كما يلاحظ يورغ بيلفيلّر. أما ظروف العمل فكانت أقل طبيعية حيث عادة ما يكون هناك ضعف عدد الأشخاص هنا، ولا يحتاجون إلى الجلوس متباعدين عن بعضهم البعض، ولا أن يكونوا مُرتدين لقناع بطبيعة الحال.
إضافة إلى ذلك، يتواجد هنا عادة أشخاص من جميع الفئات العمرية، لكن المدير يجول بنظره حوله ويقول: “هذه المرة، لا يوجد سوى الشباب. لم نرغب في المغامرة باختيار أشخاص قريبين من السن الذي يُعتبر فيه المرء مُعرّضا للخطر”.
مع ذلك.. فليس كل شيء مثالي
بطبيعة الحال، فإن نظام التصويت عبر البريد له أيضًا عيوبه، مثل الديمقراطية السويسرية نفسها. ولكن بالمقارنة مع النقاشات الجارية في البلدان الأخرى، فإن المشاكل هنا “محدودة النطاق للغاية”، كما يقول أوفي سيردولت.
عمليات الاحتيال نادرة، لكنها حدثت من قبل. في العام الماضي، استجوبت الشرطة موظفًا يعمل في مكتب انتخابي في جنيف للاشتباه في إتلافه لبعض بطاقات الاقتراع وقيامه بإضافة أخرى. وفي برن، تم الإعلان عن بطلان 300 بطاقة اقتراع متعلقة بالانتخابات المحلية لعام 2016 بعد أن اكتشف المحققون أنها حررت كلها بنفس خط اليد.
مشكلة أخرى محتملة هي “التصويت الأسري”. هل يحدث بشكل متكرر أن يقوم ربّ الأسرة بملء بطاقات الاقتراع لجميع أفراد أسرته؟ أم أن شخصاً ليست لديه إمكانية التمتع بسرية غرفة الاقتراع يُجبر على التصويت بطريقة معينة؟ هنا يلاحظ أوفيه سيردولت: “في الثقافة السياسية السويسرية، نفترض أن هذا لا يحدث، حتى وإن كان ذلك يحصل في بعض الأحيان.. لكنه سؤال لا يُطرح، أي أنه مجهول”.
الطوابع البريدية هي مشكلة أخرى.. ثانوية بلا ريب ولكنها متكررة. ففيما تقوم بعض الكانتونات بإرسال مظروف الإرجاع حاملا لطابع بريد مُسبقا، يترك البعض الآخر للناخبين مهمة دفع رسوم البريد بأنفسهم. هل يؤدي هذا الأسلوب إلى عزوف البعض؟ ليست هناك أدلة واقعية على ذلك، على الرغم من أن السؤال طرح في دوائر مختلفة ووصل إلى البرلمان الفدرالي في العاصمة برن.
وأخيرًا، هناك مسألة المغتربين، الذين ليس بإمكانهم – في ظل غياب التصويت الإلكتروني – ممارسة حقوقهم كمواطنين إلا عن طريق المراسلة.
تقول جيزايل فريتش، المتحدثة باسم منظمة السويسريين في الخارج، إن التصويت عبر البريد “يتجاوزه بشكل متزايد” نظرا لأن المغتربين يتنقلون كثيرًا ولأن بعض الخدمات البريدية الأجنبية ليست موثوقة مثل تلك الموجودة في سويسرا. تبعا لذلك، تعددت حالات المواطنين الذين لا يتلقون ملفات التصويت الخاصة بهم، أو الذين يستلمونها في وقت متأخر لا يسمح لهم بالمشاركة في الاقتراع. وهو ما يرقى إلى مستوى التمييز “الفعلي”، حسب فريتش.
لذلك ستواصل هي ومنظمتها الضغط من أجل اعتماد التصويت الإلكتروني، المُجمّد حاليًا بعد اكتشاف ثغرات أمنية في الأنظمة التي كانت مستخدمة في عدد من الكانتونات حتى الآن.
في أوبرفينترتور، لا وجود لهذه النوعية من المشاكل. فالمظاريف تصل مُرفقةً بعدُ بالطوابع البريدية لإعادة إرسالها، ولم تُسجّل أي حالات احتيال منذ عشر سنوات، والسيد يورغ بيلفيلر راضٍ تماما عن سير العمليات. في عشية يوم السبت، تم بالفعل استلام ما يقرب من 7000 بطاقة اقتراع، مما يعني أن نسبة المشاركة ستتزيد عن 50٪ في هذه الدائرة التي يبلغ عدد سكانها 14000 نسمة. البطاقات البيضاء (أي الخالية من أي تصويت) نادرة، ومع ذلك يتم استدعاء المسؤول أحيانًا للحسم في مدى وضوح هذه الكتابة أم تلك.
إذن ما هي أكبر مشكلة يُمكن أن تنشأ هنا؟ يُفكر يورغ بيلفيلر لبرهة من الزمن، لكن دون أن يعثر على إجابة حسبما يبدو، فيما يصل أحد زملائه، وقد\ بدت على ملامحه الحيرة، ملوّحا ببطاقة اقتراع تتعلق بالانتخابات السابقة التي أجريت خلال فصل الصيف.
الكثير من الممارسة الديمقراطية، هل هي مُثيرة للحيرة أيضًا؟
(نقله إلى العربية وعالجه: كمال الضيف)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
اكتب تعليقا