“البرلمان بالقرعة عصيّ على الفساد وناجع”
حتى في الديمقراطيات المباشرة، كما في سويسرا، يُـمكن أن تُـهيْمن المصالح الأنانية للسياسيِّين، وِفق تيمو ريغ، المتخصّص في السياسة الألمانية، ولذلك دعا إلى إنشاء برلمان قصير الأمد، يتألّف من مواطنين يُختارون بالقُرعة. وتُـعتبر هذه الدّعوة بمثابة ردٍّ على وِجهة نظر ليو جونينغ، التي نُشرت على موقعنا مؤخرا، والتي تَعتَبر الديمقراطية المباشرة "غيْر قابلة للتطبيق".
بقلم: دانييل فارنر
أما عُيوب الديمقراطية المباشرة، فكثيرة، منها: أنها ضيِّقة الأفُق لكون التصويت، إما نعم وإما لا، كما يُـمكن للإستفتاءات أن تفتح الباب بوجه الشعبوية – التي تُخاطب عاطفة الناخب لا عقْله – والتضليل. وإذا كانت نسبة المشاركة في التصويت ضعيفة، فقد تُسيْطر الأقلية على الأغلبية، ثم لا يمكن بعد ذلك، تحميل المواطن المسؤولية، طالما أن مُعظم القضايا المطروحة معقّدة وأكبَر من أن تستوعِبها العامة …إلخ.
ولهذا السبب، يحتدم الجدل في سويسرا حول حدود الديمقراطية المباشرة، لاسيما بعد التصويت الشعبي لصالح مبادرة “الحد من الهجرة الجماعية” (في 9 فبراير 2014)، الذي جعل البلاد في مرمى الإنتقاد العالمي، وهو السبب نفسه الذي حدا بالحزب الحاكم في ألمانيا، حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي، إلى رفض اعتماد إجراء استفتاءات شعبية على الصعيد الوطني وجعل عُلماء السياسية يثنون على الديمقراطية التمثيلية والنيابية والحزبية.
وفي نفس الوقت، تفترض جميع النقاشات أن مُبتَغى الديمقراطية، هو تحقيق السعادة للمواطنين وحماية الأقليات وتوفير الأمن وتأمين المستقبل وحماية العالم، وباختصار، مصلحة الجميع، وهذا للأسف، محضُ هراء.
فسواء تعلق الأمر بالديمقراطية التمثيلية أم تلك المباشرة، فكلاهما شكل من أشكال الهيْمنة، والهيمنة دائما ما تكون وليدة الأنانية، وهي تعني السيطرة على الموارد لأجْل المصلحة الشخصية، ولا يُوجد ما يدعو إلى الإعتقاد بأن الإنسان يختلِف في هذه الحقيقة عن غيْره من الكائنات الحيّة (المتعددة الخلايا من نباتات وحيوانات وفطريات) الموجودة فوق كوكب الأرض.
سلسلة “وجهات نظر”
تستضيف swissinfo.ch دوريا بعض المُساهمات الخارجية المختارة. وسوف ننشر بانتظام نصوصا مُختارة لخبراء، وصانعي قرار، ومراقبين متميّزين، لتقديم وجهات نظر تتسم بالعمق والجدّة والطرافة حول سويسرا أو بعض القضايا المثيرة ذات العلاقة بهذا البلد. ويبقى الهدف في نهاية المطاف تفعيل الحوار ومزيد إثراء النقاش العام.
مصالح شخصية
إذا أردنا أن نطرح اليوم سؤالا حول الإصلاحات الديمقراطية، فأول شيء يجب أن نسأل عنه هو: مَن المُستفيد منها؟ وفي مصلحة مَن تصُبّ؟ والواقع، أن الإصلاحات نادِرا ما تكون في مصلحة “الشعب” أو “المجتمع” أو “الأقليات”، والأساس أنها تخدم أصحابها، وفي عِلم الأحياء، فإن الإيثار هو مجرّد وسيلة لتحسينِ وضْعي الخاص، بتقديم الدّعم لمَن يُساعدني على تحقيق النجاح، ولا يُوجد شيء هكذا بدون مصلحة.
ولو عُدنا إلى أصول الديمقراطية منذ 2400 سنة، لَـوجدْنا ما يُعين على إصلاح هذا الخلل، حيث كان يتم تعيين صنّاع القرار عن طريق القُرعة، وليس أخذ رأي الكل في كل شيء (الديمقراطية المباشرة) أو إحالة سلطة اتِّخاذ القرار بالكامل إلى “نخبة” مُنتَخَبة، تعمل نيابة عن جميع المواطنين (الديمقراطية التمثيلية)، وهي طريقة فعّالة وقادرة على مجابهة جميع الإنتقادات، التي تقوم على أساس أن الدّول الحديثة أصبحت مُترامية الأطراف، إلا أن هذه الفكرة العظيمة، هي عدو لدود للسّلطة، ولذلك تمّ إخفاؤها بسرعة زمَن الإمبراطورية اليونانية القديمة.
وفي الوقت الحاضر، أصبح لا يُشار إلى “الديمقراطية العشوائية”، أي نظام اختيار ممثلي الشعب عن طريق القُرعة، إلا عرَضا، وفي أحسن الأحوال، تأتي في ذيْل أو حاشية صفحات المُذكّرات المُعَدّة للنِّقاش، ونظرا لكونها تقف على مسافة واحدة من الجميع ولا يمكن تطويعها للمصالح والحسابات الشخصية والفردية، لذلك لا تجِد لها عُشّاقا ولا يلتفت إليها أحد، وهناك على المستوى المحلي مجموعات استشارية مُشَكّلة عن طريق القرعة، مهمّتها منحصرة في صياغة مقترحات غيْر مُلزمة.
ويُطلق على اللّجان المشَكّلة بالنظام العشوائي أو القرعة، إسم “لجنة إعداد دراسة” أو “لجنة تحكيم”، تتشكّل من 25 مواطنا يتِم اختيارهم عشوائيا لمهمّة استشارية، مدّتها أسبوع، وتُطرح عليهم قضايا واضحة ومحدّدة ويُزوّدون بكل ما يلزمهم (معلومات ووثائق ومراجِع وإمكانية القيام بالزيارات الميدانية وإجراء المقابلات.. إالخ)، يكون في خدمتهم مرافقون مستقلّون يقومون بالمهمّة التنظيمية، وتُدار الحوارات ضِمن مجموعات عمَل صغيرة، قِوامها خمسة أفراد، تتشكّل وتتغيّر من وقت إلى آخر، وكل ذلك بالقرعة، ولا وجود لشخص يُدير الحِوار ولا لمؤثرات خارجية، وكل ما في الأمر أنهم مواطنون يتحاورون فيما بينهم، وكل مجموعة خماسية تُجري تصويتا فيما بينها، وعند الإنتهاء من كل مسألة، يجري التصويت عليها من قِبل الـ 25 مستشارا، وإذا لزم الأمر لضمان شفافية التصويت والإحصاءات، فيمكن تزويدهم بمستشارين آخرين يقومون بعمل مُوازٍ، ولكنه مستقل تماما.
من مزايا هذه الطريقة: أنه بإمكان المواطنين المختارين بالقرعة، التوصل إلى قرارات جيدة مع إمكانية أكبَر للحصول على توافُق في الآراء، كما أنه لن يكون بينهم مَن عنده برنامج مُسبَق أو حسابات مسبَقة، لأن الإختيار جاء بدون ترشيح، ومدّة التفويض كلّها خمسة أيام وتنتهي، ولا مجال للتمديد.
ثم إن المواطنين المُختارين بالقرعة يدركون مسؤوليتهم، فهُم يمثِّلون الجميع من دون ميول شخصية، ويقومون بتدارُس وتقييم مقترحات الخبراء أو الحكومة أو جماعات الضغط، واقتراح أفضل وسائل رقابية ممكنة، وهي مهام مختلفة تماما عن مهام السياسيين المنتَخَبين وعن قرارات المبادرات الشعبية، كما أن المشاورات ضِمن مجموعات صغيرة تختلف تماما عمّا لو كانت في قاعة كبيرة وعبْر ميكروفونات أو مُنتديات على شبكة الإنترنت.
قواعد واضحة
يمكن إضفاء الطابع المؤسسي على الفِكرة، كأن نُطلق عليها تسمية “برلمان شعبي”، ونختار له كل أسبوع 200 شخص، عشوائيا، فيجتمِعون فيما بينهم ويستمعون للخبراء ولمُمثِّلي جماعات الضغط، ويُوزّعون أنفسهم على مجموعات صغيرة ويطرحون الأسئلة ويدرسون المقترحات ويقدّمون التعديلات ويتركون للحكومة مهمّة تحسين المشروع، ثم في نهاية العملية، يعتمدون توصيات واضحة أو سَنّ قانون أو تعديله أو إلغائه أو رفضه.
وبالتأكيد، فإن النتيجة ستكون مختلفة تماما عن البرلمان القائم، والذي هو تمثيلي أو نيابي، بينما “البرلمان الشعبي”، فهو نموذج مصغّر لكامل الكيان الوطني. فهو يضم كل المدارس الفِكرية، وكل البيئات، وجميع المِهن والفنون والهوايات، لم ينس شخصا ولا شيئا، ويمارس نشاطه ضمن إطار مالي وإداري مناسِب، ويمكنه دراسة كل ما يهُم المواطن أو يتقدّم به المواطنون، وليس فقط المسائل التي تحظى بجمع 100 ألف توقيع، وسيكون هدفه الوحيد، اتخاذ القرارات المناسبة والوصول إلى حلول، من دون حسابات شخصية ومصالح فئوية ولا حملات انتخابية ولا وعود كاذبة… فالديمقراطية العشوائية، كامِلة ومكتمِلة الأوصاف، وتجمع بين أفضل ما في الديمقراطيتيْن، البرلمانية الشعبية.
أما عن المستفيد، فالكل تقريبا مستفيد، ما عدا أصحاب السلطة الحالية، وإذا كانت الأحزاب وجماعات الضغط ترغَب في صون مكانتها وجلال قَدْرها، فعليها وِفقا لنظام الديمقراطية العشوائية، أن تكسب رضا الشعب عن رُؤاها وخُطَطها المستقبلية، كي يُمكن للممثلين المختارين بالقُرعة أن يمنحوها الثقة، بعد دراسة متأنية. أما التخفّي خلف ضعف الإقبال على صناديق الإقتراع والإستمرار في المطالبة بالسلطة، فأمر سهل.
الأفكار الواردة في هذا المقال لا تعبّر سوى عن آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر swissinfo.ch. أما العناوين الفرعية فقد تمت إضافتها من طرف swissinfo.ch
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.