الوطن والمال العام من وجهة نظر سويسرية
بعد أن رفض الناخبون السويسريون المقترح الداعي إلى تأمين دخل اساسي غير مشروط لكل المقيمين فوق أراضي الكنفدرالية من الميلاد وحتى الوفاة، تعددت الآراء والتقييمات للحدث داخل سويسرا وخارجها. في المقال التالي، يطرح الكاتب السعودي عبد العزيز السماري وجهة نظر تتعلق بكيفية التعاطي مع المال العام واختلافها من جغرافية إلى أخرى.
بقلم: عبد العزيز السمّاري، الرياض
عند الحديث عن الفساد في الشرق العربي نحاول في كثير من الأحيان أن نتجاوز جوهره، من خلال تناول الهوامش في القضية العامة؛ وذلك لأن الفساد لا يمكن تناول شؤونه بموضوعية بدون طرح جدي لقضية حماية المال العام، التي في حقيقة الأمر تمثل الموضوع الأهم في قضايا الأمن الإجتماعي والسياسي في مختلف دول العالم. وأي محاولة لتجاوز مثل هذه الحقيقة يُعد فسادًا في الرأي والعقل.
لفت نظري رفض 78 في المائة من الناخبين السويسريين مقترح منح الدولة للمواطن دخلاً مجانيًّا إضافيًّا. وكان المقترح الذي طرحت الحكومة تصويتًا شعبيًّا بشأنه يدعو إلى صرف دخل شهري يقارب 2500 فرنك للراشدين، و625 فرنكًّا للأطفال، دون قيد أو شرط لمن بلغوا سن الرشد في البلاد، سواء كانوا يعملون أو لا يعملون. وواجه المقترح معارضة من جميع التيارات السياسية في البلاد والبرلمان
سلسلة “وجهات نظر”
تستضيف swissinfo.ch من حين لآخر بعض المُساهمات الخارجية المختارة. وسوف ننشر بانتظام نصوصا مُختارة لخبراء وصانعي قرار ومراقبين متميّزين، لتقديم وجهات نظر تتسم بالعمق والجدّة والطرافة حول سويسرا أو بعض القضايا المثيرة ذات العلاقة بهذا البلد. ويبقى الهدف في نهاية المطاف تفعيل الحوار ومزيد إثراء النقاش العام.
الدرس السويسري
اختلف معارضو المقترح في الأسباب؛ فقال بعضهم إنه سوف يفصل بين العمل الذي ينجزه المواطن وما يحصل عليه من مال؛ وهو ما من شأنه أن يلحق أضرارًا بالمجتمع. وبرر آخرون موقفهم بأنه سيؤثر على الإنتاجية والإبتكار. ورأى غيرهم أن ذلك سيكون له ردة سلبية على قوة المال العام في الدولة، وعلى الخدمات الإجتماعية في بلادهم.
أتمنى أن ندرك من خلال الدرس السويسري المتحضر أهمية مبدإ المحافظة على المال العام، وخطورة الحصول على مال بدون عمل؛ فالمال العام لا يجب إهداره، ولو كان بالتوزيع العادل على المواطنين مثلما حدث في سويسرا، وأن المال العام ليس غنائم ومكاسب، يحصل عليها أقربهم أو أقدرهم على الوصول إليه.
شتان بين التجربتين؛ فقد كان – وما زال – الهم الأكبر والأول عند بعض النخب العربية أن يصطادوا المال العام من خلال مواقعهم السياسية والإجتماعية المميزة، على طريقة الشاعر العربي القديم: «إذا مت ظمآنًا فلا نزل القطر»، والشاعر الحديث الذي قال «إليا صفى لك زمان عل يا ضامي».
لن تتبدل أحوالنا ما لم ندرك ما توصل إليه العقل الأوروبي في تقدير نعمة الوطن، ثم نتخلص من تلك الأنانية البشعة، التي تهدد الأمن الوطني والرخاء والإستقرار الأبدي
نحن نعاني من أزمة ثقة في المجتمع العربي؛ فالوطن عند بعضنا حالة مؤقتة لجمع المال، ثم الهرب بالجمل وما حمل، على طريقة لا تختلف عن سابقتها «أنا ومن بعدي الطوفان»؛ ولهذا كان للوطن في الشرق العربي عمر لا يتجاوز المائة والعشرين عامًا، ثم يتحول إلى أطلال وخراب، بينما وصل أعمار الأوطان في الغرب إلى أكثر من قرنين أو ثلاثة قرون منذ بدء العصر الحديث.
انعدام فكرة الوطن
ما يحدث في الأوطان العربية نسخ مكررة لنفس الأساليب القديمة، التي تصل إلى نفس النتائج. والضحية الوطن الجميل والمثالي، الذي ما زلنا نحلم به كل ليلة، ولكن عندما نعود إلى عالم اليقظة نركض مسرعين خلف مشاعر الأمل مرة أخرى؛ وذلك لئلا نصاب بالكآبة والإحباط والذعر من المستقبل المتوقع.. كلما تداولت الألسن قصة ميلاد ثراء فاحش جديد، أشبه بقصص الخيال في عوالم الأساطير وقصص ألف ليلة وليلة.
لن تتبدل أحوالنا ما لم ندرك ما توصل إليه العقل الأوروبي في تقدير نعمة الوطن، ثم نتخلص من تلك الأنانية البشعة، التي تهدد الأمن الوطني والرخاء والإستقرار الأبدي، وذلك بجعل مبدإ الحفاظ على المال العام نظامًا فوق الجميع، وأنه مبدأ ثابت وشريان رئيسي في حياة الأوطان.
وإن لم نفعل ذلك ستستمر الدورات العصبية المتوالية في حياة الوطن العربي، التي خلاصتها الصراع من أجل الخروج من مشروع الوطن المؤقت بأكبر قدر مُمكن من المال، قبل أن يتحول في نهاية الأمر إلى أرض محروقة ومتنازع عليها. والله المستعان
(سبق أن نُشر هذا المقال في صحيفة الجزيرة السعوديةرابط خارجي يوم 9 يونيو 2016)
الأفكار الواردة في هذا المقال لا تعبّر سوى عن آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر swissinfo.ch. أما العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية فقد تمت إضافتها أو تحويرها من طرف swissinfo.ch
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.