النّكبة المستمرّة
عندما تحقّق لديّ الوعي، وجُلت بنظري عبر التّاريخ، صحَّتني مقولة "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، الّتي كان أوّل من أطلقها سنة 1853 قسّ يُدعى أنثوني آشلي كوپَر[1] (ت 1885)، ثمّ ردّدها من بعده كثير من الصّهاينة؛ فإنّ تلك الأرض، التي أفرغَها من شعبها صاحبُ هذه المقولة، ومن تبنّاها من بعده من الصّهاينة والمتصهينين، هي وطني الأوّل فلسطين، مسقط رأسي، أرض الآباء والأجداد – لقد محَوْا من على وجه الخريطة شعباً كاملاً، بحاضره آنذاك، ومستقبله، بأحلامه وآماله، وما زادوا له إلّا آلامَهُ!، تجاهلوا وجوده، ولم يسألوه عن رأيه عندما خطّطوا،... لا بل قالوا له بعدما نُفِّذَت ضِدَّه جرائمُ بأشكال وألوان مختلفة: "أنت قاتل"! – كما أفصحَ عن ذلك شاعرُنا الرّاحل محمود درويش!
أمّا سنة 1897، فإنّها تحمل ذكرى أوّل مؤتمر صهيونيّ في مدينة بازل السّويسريّة، سنة 1897م، الّتي يفتخر النّمساويّ ثيودور هيرتسل (ت 1904)، بأنّه أسّس فيها “دولة اليهود”[2]. ويحتفل الصّهاينة ومؤيّدوهم في هذه السّنة (2017) بالذّكرى الـ120 لهذه المناسبة. أمّا أمثالي من أبناء وبنات جلدتي، فإنّنا نُحْيِيى فيها ذكرى البشائر المشؤومة لنكبة الشّعب الفلسطينيّ!
“إنّ السّلام الدّائم لن يحدث بدون تحقيق العدالة”
وقبل قرن من الزّمان، أي في سنة 1917، صدر وعد بالفور (ت 1930)، ليحمل في طيّاته شُؤْماً جديداً على فلسطين وشعبها، حيث وعدت من خلاله حكومةُ بريطانيا العظمى الصّهاينةَ بإنشاء وطن ليهود أوروبا فيها، بدلَ أن تسعى لرفع الظّلم عن أبناء وبنات الطّائفة في بلادهم الأوروبيّة، لتبدأ الخطوة السّياسيّة الأولى في سحب الأرض من تحت أقدام الشّعب الفلسطينيّ، الّذي لم يظلم اليهودَ مثلهم؛ وهكذا وعد “من لا يملك”، بإهداء أرض فلسطين، لغير أصحابها، زوراً وبُهْتاناً وإفكاً.
ثمّ يأتي الانتداب البريطانيّ (1920-1948) مخوَّلاً من قِبَل عُصبة الأمم، بإدارةِ شؤون فلسطين إلى أن تنالَ استقلالَها! إلّا أنّ بريطانيا، الّتي خرجت في السّنة الماضية (2016) من الإتّحاد الأوروبيّ بسبب “كثرة المهاجرين الأغراب إليها”، كانت قد فتحتْ آنذاك أبوابَ الهجرة والتّوطين لليهود من جميع بقاع الأرض إلى فلسطين؛ وها هي الأمم المتّحدة تصدر قراراً من جمعيّتها العموميّة، بتقسيم فلسطين – بدلاً من استقلالها – فتمنح، سنةَ 1947، 54% من أرض فلسطين لـ 33% من السّكان، وجلّهم مهاجرون أوروبيّون يملكون 7% من الأرض، فتنشبُ حرب، يحتلّ فيها الصّهاينة 78% من أرض فلسطين التّاريخيّة، ويُطرد أكثر من ثلثي الفلسطينيّين إلى الشّتات، ويُهَجَّر قسم آخر ممن تبقّى في داخل البلاد، ليصدر بحقّهم فيما بعد قانون “الحاضر غائب” المُضحك في نصّه، واللّئيم في فحواه؛ فأنت موجود إن شئت الزّواج مثلاً، وغائب إن فكّرت باسترجاع بيتك وأرضك الّتي لا تبعد عن مكان إقامتك سوى بضعة كيلومترات.
المزيد
ردّ فعل يهود سويسرا كان داعما ومتحفظا
وهكذا يبدأ التّنفيذ بإفراغ البلاد من سكّانها الأصليّين، ثمّ يُبنى سورٌ عنصريّ غير مرئيّ من قوانين حكم عسكريّ، يمنع معظم من تبقّى من السّكّان الأصليّين من دخول أراضيهم الزّراعيّة، لتبدأ عمليّة نهب ما تبقّى من الأراضي؛ وهكذا يُقْضَم 97% من أراضي من يُسمَّوْن أحياناً: “عرب الـ48″، وهم فلسطينيّون، ومواطنون إسرائيليّون إسميّاً، هاجرتْ إسرائيل إليهم، فحرمتهم من أملاكهم، ليسقط معظمهم في هوّة الفقر وما يترتّب عليها.
وتبدأ الصّورة بالإكتمال بعد سنة 1967، حيث ضمّت الدّولة العبريّة القدسَ ومحيطَها ومستعمراتٍ أقيمتْ حولها وأخرى في الضّفّة الغربيّة، وما زالت تُقام وتوسَّع مستعمراتٌ جديدة كلَّ يوم، ويبنى سور عنصريّ جديد – هذه المرّة من الإسمنت، وبارتفاع 9 أمتار أحياناً، يفصل أطفالاً عن مدارسهم، وفلّاحين عن أراضيهم … وتصادِر حكومة نتانياهو جميعَ أملاك الشّعب الفلسطينيّ الّذي طُردَ خارجَ البلاد سنة 1947، أو هرب سنة 1967، ولا يُسمح للمُهجّرين في الدّاخل، ناهيك عن اللّاجئين في الخارج، بالعودة إلى أراضيهم وأملاكهم. وما زالت الحكومات الإسرائيليّة تهدِمُ الآلاف من بيوت الفلسطينيّين، وتهدم بعض القرى في النّقب، أحياناً عشرات المرّات: والمجتمع الدّوليّ يتفرّج، أو على الأكثر يتأفّف! … أمّا الدّعم المادّيّ والعسكريّ والإقتصاديّ والدّبلوماسيّ فإنّه ما زال ينهمر بغير حساب ولا مُحاسبة من الدّولة الأعظم: أمريكا، بالإضافة إلى كثير من الدّول الأوروبيّة، الّتي أعتَبِرُها شريكاً أساسيّاً في هذه “النّكبة” المستمرّة.
إنّ آلام النّاس في وطني الأمّ وفي مخيّمات الشّتات تزداد يوماً بعد يوم، والسّياسة الإسرائيليّة تجاههم تتلخّص بمقولة: “لا أرحمُك، ولا أسمح لأحد أن يرحمَك، ولا حتّى لرحمةِ ربّك أن تنزل عليك!” … والمجتمع الدّوليّ يتفرّج!
الموقف السّويسريّ
إنّ أكبر جالية سويسريّة في قارّة آسيا – وعددها يناهز الـ12 ألفَ شخص – موجودة في إسرائيل! ولقد كانت هنالك قنصليّة سويسريّة في القدس، ووكالة قنصليّة في تل أبيب، حتّى قبل أن تنشأ دولة إسرائيل. ولمّا حصل اعتراف سويسرا بإسرائيل في 25/01/1949، أقامتْ قنصليّةً في تل أبيب، تحوّلتْ سنة 1958 إلى سفارة. لكنّ العلاقة مع الحركة الصّهيونيّة كانت قد بدأت منذ سنة 1897، وذلك في مدينة بازل، الّتي تُكتَب أحياناً حسب لفظها الفرنسيّ: “بال”؛ وهي المدينة الّتي ما زِلتُ أسكن فيها منذ أكثر من نصف قرن. ولقد أقامت الحركة الصّهيونيّة 22 مؤتمراً عالميّاً، عُقِد منها 15 في سويسرا. ثمّ إنّ سويسرا قامت برعاية المصالح الإسرائيليّة في دول عديدة، من ضمنها: هنغاريا (1967-1989)، وإيران (1958-1987)، كما وساهمت في انضمام “ماغين دافيد أدوم” (ترس، أو نجمة داود الحمراء) إلى مؤسّسة الصّليب الأحمر، والهلال الأحمر. هذا بالإضافة إلى العلاقات التّجاريّة والثّقافيّة والعلميّة، وحتّى العسكريّة مع إسرائيل!
لكنّ الموقف الرّسمي السّويسريّ، ومن ورائه الصّحافة بأشكالها المرئيّة والمسموعة والمكتوبة، بدأت بعد حرب 1967 تتحفّظ، وبعد الإجتياح الإسرائيليّ للبنان ومذبحتي صبرا وشاتيلا، وإعادة احتلال الضّفة، والحرب على غزّة، وبناء السّور الفاصل العنصريّ، بدأ يظهر شيء من الإنتقاد ضدّ السّياسات الإسرائيليّة، خصوصاً بالنّسبة لحقوق الإنسان، أحياناً خجولاً، وأحيانا واضحاً!
أمّا الدّور الأبرز فكان لنشاطات مؤسّسة الصّليب الأحمر، الّتي ساهمت بالتّخفيف من ثقل الظّلم والإجحاف عن بعض المظلومين في السّجون الإسرائيليّة، ولاجئي الشّتات، إلّا أنّ المعاناة اليوميّة للشّعب الفلسطينيّ: كلّ ساعة وكلّ دقيقة وكلّ ثانية … ما زال مستمرّاً وبازدياد!
أمَلي الآن أن تعترف حكومات الدّول الأوروبيّة، بمساهمتها في النّكبة الفلسطينيّة، كما فعل المستشار الألماني السّابق، المرحوم: هيلموت شميدت، معترفاً بالمسؤوليّة غير المباشرة لألمانيا في نكبة الفلسطينيّين، فأسكته حينها بيغين، تأكيداً لمقولة: “ولا أسمح لأحد أن يرحمَك…”، وأن تجدَ هذه الدّول، بالإضافة للولايات المتّحدة، الجرأةَ الكافية للإعتراف بدولة فلسطين ومن ثمّ دعمها اقتصاديّاً وعلميّاً وسياسيّاً، وحمايتها من لؤم نتنياهو وزمرته، حتّى يستعيد الشّعب الفلسطينيّ حرّيّته وكرامته وحقوقه؛ إذ إنّ السّلام الدّائم لن يحدث بدون تحقيق العدالة.
[1] Anthony Ashley-Cooper, 7th Earl of Shaftesbury.
[2] نشر كتابه بالألمانيّة في 14 فبراير 1986 بنفس العنوان: Der Judenstaat
الأفكار الواردة في هذا المقال لا تعبّر سوى عن آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر swissinfo.ch.. أما العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية، فقد تمت إضافتها أو تحويرها من طرف swissinfo.ch
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.