كيف تعلمت سويسرا من أخطائها مع أسرى الحرب السوفيات
على مسرح العلاقات الدولية، يُعتبر القيام بما هو أخلاقي أكثر أهمية - وغالباً أكثر صعوبة - من القيام بما هو مناسب، كما يقول طالب التاريخ ماكس سترومر الذي يكشف كيف تعامل السويسريون في الثمانينيات، مع أحد عشر من أسرى الحرب السوفيات.
خلال عطلة عيد الميلاد في عام 1979، تذرّع الاتحاد السوفياتي بمعاهدة الصداقة المبرمة بينه وبين أفغانستانرابط خارجي، لتبرير الغزو المسلح للحدود الأفغانية التي سيطر عليها حزب ماركسي معارض للحكومة الوطنية في كابول. وأعقب ذلك صراع دام عشر سنوات بين الاتحاد السوفياتي والمتمرّدين الأفغان المعروفين باسم المجاهدين. وبحلول 24 أغسطس 1982، قام مندوبو اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تتخذ من جنيف مقرّاً لها، بتحديد هوية 338 جندياً سوفياتياً احتجزهم المجاهدون في سجن بولي شارخي في كابول.
وفقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949، تتمتع اللجنة الدولية بمهمة توفير الحماية والمساعدة الإنسانية لضحايا النزاع المسلح. واقترحت اللجنة الدولية آنذاك، نيابة عن “جميع الأشخاص المُحتجزين في القتال”، إبرام اتفاقرابط خارجي يتم بموجبه إطلاق سراح أسرى حرب السوفيات من سجن “بولي شارخي”، ووضعهم تحت الإقامة الجبرية في بلد مُحايد كسجناء سياسيين، لمدة عامين، قبل إعادتهم إلى الاتحاد السوفياتي.
قبل عام 1982، لم تكن سويسرا منخرطة بشكل مباشر في النزاع الأفغاني، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما وصفته ليليان ستادلر، الباحثة السويسرية التي تعدّ أطروحة الدكتوراه في جامعة أكسفورد، بالنهج القائم على “رد الفعل” في مجال السياسة الخارجية. وكان لا بد من أن تتغير طبيعة موقف سويسرا من الصراع، عندما تم نقل 11 من أسرى الحرب السوفيات بنجاح من أفغانستان إلى الثكنات العسكرية الواقعة على جبل زوغبيرغر Zugerberg في كانتون تسوغ تحت إشراف السلطات السويسرية.
وتشير ستادلر في أطروحتها للدكتوراه، إلى أن إدوارد برونر وزير الدولة السويسري آنذاك، اعترف أولاً بمفاوضات الأسرى هذه في خطاب متلفز مسجل مسبقاً في 29 أكتوبر 1983 محاولا أن يشرح لجمهور تنتابه الريبة، سبب اشتراك سويسرا في المفاوضات. وقال برونر في هذا الخطاب: “هذا الإجراء هو بادرة جديدة على استعدادنا للعمل في المجال الإنساني، ويعكس رغبة تنبع من حيادنا ومن عراقة تقاليد بلدنا”.
أسرى الحرب: شرفاء، أم خونة؟
بحلول 8 يوليو 1983، تم فرض مسألة الإعادة إلى الوطن على جميع الأطراف المشاركة في الاتفاق، عندما فرّ يوري فاتشينكو، أحد أسرى حرب السوفيات الأحد عشر، من منشأة زوغربيرغ، لطلب اللجوء السياسي في ألمانيا الغربية بسبب خوفه من أن تتم إعادته إلى الاتحاد السوفياتي. وكشف تقرير سنوي للجنة الصليب الأحمر الدولية لعام 1983 أن اللجنة افترضت في الأصل أن أسرى الحرب سيعودون تلقائياً إلى الاتحاد السوفياتي بعد فترة الإقامة الجبرية التي استمرت عامين في سويسرا.
وفي مقالها “توسيع نطاق القانون الإنساني الدوليرابط خارجي” تناولت الباحثة شارلوت كار-غريغ، الفرق الصارخ بين كيفية اعتبار أسرى الحرب من قبل المجتمعات الغربية من جهة، والمجتمع السوفياتي من جهة أخرى. ففي الثمانينيات، كان الغرب ينظر إلى أسرى الحرب الذين تم إطلاق سراحهم على أنهم “مواطنون شرفاء”، بينما كانت السلطات السوفياتية وعبر التاريخ، تعتبرهم “خونة”.
ذكريات ستالين
وبحلول أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، كان لسويسرا ماض دنيء فعلاً باستضافة أسرى الحرب السوفيات، مما يجعل هذا الفصل من التاريخ الدبلوماسي ذا حساسية خاصة في الذاكرة السويسرية. ونشرت صحيفة نيويورك تايمزرابط خارجي في عام 1983، كيف تمت إعادة 9000 جندي سوفياتي في نهاية الحرب العالمية الثانية إلى بلدهم بطريقة قسرية؛ عندما تم “ترحيلهم” بشكل جماعي إلى القوافل السيبيرية، وكان من المحتمل أن يلاقوا حتفهم على أيدي قوات الأمن التابعة لجوزيف ستالين.
وعلى الرغم من أن اللجنة الدولية قد سهّلت اتفاقية أسرى الحرب السوفيات المبرمة عام 1982، إلا أن القرارات المتعلقة بسياسة الإعادة إلى الوطن قد آلت في نهاية المطاف إلى سويسرا، كونها الدولة المحتجزة. وساهمت دراسة أجريت عام 1982، حول ما قامت به سويسرا تجاه الجنود السوفيات في عام 1945، في إحياء الجدل الدائر حول إعادة هؤلاء إلى وطنهم خلال الحرب العالمية الثانية، مما فرض ضغوطاً إضافية على برونر وزملائه في الحكومة الفدرالية. ووفقاً لتقرير إخباري صدر في شهر مايو 1985 في صحيفة “24 ساعة” السويسرية، فقد أعلن الوزير الفدرالي بيير أوبير أمام البرلمان السويسري، أنه لا ينبغي إجبار أسرى الحرب السوفيات على العودة إلى بلدهم الأصلي.
استخلاص العبَر من الماضي، وتقبّل العواقب
إلى جانب فاتشينكو الذي فر إلى ألمانيا، طلب اثنان من أسرى الحرب الآخرين يوري بوفاريتسين وفيكتور ساينشوك البقاء في سويسرا بعد فترة الإقامة الجبرية. وقامت الحكومة السويسرية بمنحهم تصاريح إقامة لمدة سنة قابلة للتجديد بدلاً من القيام بإجراءات طلب اللجوء السياسي.
ولم يكن قرار السماح للمواطنين السوفيات بالبقاء في سويسرا، بموجب تصاريح إقامة قابلة للتجديد، مناسباً من الوجهة السياسية. فوفقاً لأبحاث كار-غريغ، فإن سويسرا لم ترغب في أن يُنظر إليها على أنها “قناة أو منبر للمعارضين”. لكن خيارها في استقبال أسرى الحرب السوفيات بعد فترة الإقامة الجبرية، أثار حفيظة الاتحاد السوفياتي وأدّى إلى “برودة” في العلاقات السوفياتية-السويسرية. أما بالنسبة إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن موقف اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية الساخط، قد “أضرّ” باتفاقية عام 1982 ووضع مصير ما يقرب من 300 أسير حرب على المحك، في سجن بولي شارخي في أفغانستان.
وفي مواجهة هذه التحديات، جاء قرار سويسرا بالسماح لبوفاريتسين وسانشوك بالبقاء في سويسرا، بمثابة جهد مثير الإعجاب، للتوفيق بين الدبلوماسية وبين الضرورات الأخلاقية.
وفي مذكراته التي دوّنها في عام 2003، كتب برونر، “في رأيي، لم نكن [في إشارة إلى سويسرا]، لنتمكن في ثمانينيات القرن الماضي، من القيام بما قمنا به في عام 1945 مع السوفيات عندما لجأوا إلينا”. ويُظهر هذا التعليق الثاقب لكبير الدبلوماسيين في سويسرا آنذاك، كيف لعب الاعتراف بأخطاء الماضي دوراً مهماً في قرارات السياسة السويسرية.
تقوم swissinfo.ch بنشر آراء حول مواضيع مختلفة، سواء حول قضايا سويسرية أو مواضيع لها تأثير على سويسرا. يرمي اختيار المقالات إلى تقديم آراء متنوعة بهدف إثراء النقاش حول القضايا المطروحة. تعبّر الأفكار الواردة في هذه المقالات عن آراء مؤلفيها فقط ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر swissinfo.ch.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.