تمويل السياسة في سويسرا يؤمّنه الخواص
في عام 2019، الذي شهد تنظيم انتخابات برلمانية، حصل العاملون في السياسة السويسرية من النساء والرجال على ما يقرب من 100 مليون فرنك من التبرعات. وفي عام 2020، الذي شهد بدوره تنظيم عدة اقتراعات (كما هي جميع الأعوام في هذا البلد)، بلغ مجموع التبرعات 50 مليون فرنك. لقد تمَّ مؤخراً نشر كتاب يوضح بأن القطاع الخاص في سويسرا هو الذي يُموّل السياسة.
كتب الخبيران الاقتصاديان بيتر بومبيرغر ودانيال بياتزا أنه «لغاية الآن، كان من الصعب الوصول إلى المعلومات التفصيلية حول المال في السياسة وأصله والمستفيدين منه وفيم يتم استخدامه. ولم يكن بإمكان الصحفيين ومعاهد الأبحاث الحصول على تلك المعلومات إلا بشق الأنفس من هنا وهناك لإلقاء القليل من الضوء حول هذا العالم المُظلم». بيتر بومبيرغر هو رئيس اقتصادي سابق في مصرف يو بي إس، ودانيال بياتزا كان مسؤولاً عن الشؤون المالية للحزب الديمقراطي المسيحي [الذي أصبح يُسمّى الآن حزب الوسط]. هذان الخبيران، من ذوي الميول الليبرالية، هما إذن من المطلعين على دواخل الأمور، ويشددان على أن كتابهما «من يُموّل السياسة السويسرية؟» (باللغة الألمانية) الصادر للتو عن دار NZZ Libro للنشر، لم يأت استجابةً لطلب من جهة ما.
سويسرا.. حالة فريدة من نوعها
لدى قراءة الكتاب، هناك أربع استنتاجات ظاهرة للعيان:
أولاً: مع حصة تقارب 90% من التبرعات الخاصة في تمويل السياسة، تُعتبر سويسرا حالة فريدة من نوعها في أوروبا، باستثناء بريطانيا التي تعرف ظروفاً مماثلة. في حين أنَّ لدى النمسا المجاورة نموذجاً معاكساً تماماً، مع حوالي 80% من التمويل من قبل الحكومة.
ثانياً: يأتي ثلثا التبرعات السياسية من أموال الأفراد الخاصة. وليس، كما يعتقد الكثير، من الشركات. أما الثلث الأخير، فيأتي من منظمات غير حكومية. ويضع الكاتبان في هذه الفئة الجمعيات الأمّ والفرعية للقطاع الاقتصادي والنقابات واللجان التي تتشكل أثناء الانتخابات والتجمّعات التلقائية الأخرى.
ثالثاً: المستفيدون الرئيسيون من هذا التمويل هم الجمعيات الاقتصادية والاجتماعية. أما الأحزاب السياسية فلا تحصل إلا على الخُمُس.
رابعاً: تحصل المنظمات غير الحكومية، يسارية كانت أو يمينية، على مبالغ مماثلة من أجل نشاطاتها السياسية.
إذا كانت الأرقام المصرح عنها للسنة الانتخابية 2019 صحيحة، فمعنى ذلك أنَّ كل شخص من بين الخمس ملايين شخص الذين يتمتعون بحق التصويت ويعيشون في سويسرا تبرع بعشرين فرنك وسطياً للجهات العاملة في السياسة. أو على العكس: أنفقت الجهات العاملة في السياسة 20 فرنكاً لكل مواطن ومواطنة من الذين حاولوا حشدهم لدعمهم في الانتخابات.
إلا أنَّ هذه الاستنتاجات – المُفاجئة جزئياً – تنطلق من فرضيّة قد لا يتفق معها الجميع بالضرورة، حيث استبعد المؤلفان تمويل نظام الدعم المهني للفاعلين السياسيين من الرجال والنساء. ذلك أن حساباتهم (في المسح الذي قاما به) لم تأخذ بعين الاعتبار أولئك الأشخاص، العاملين في الأحزاب أو المنظمات ذات الطابع السياسي، أي الذين لا يتواجدون في مناصب يتم فيها صناعة القرارات بشكل مباشر.
التبرعات القليلة تُغيِّر المُعادلة
لقد اعتمد المؤلفان على نظرية أكثر شمولية. وبحسب رأيهما، ازدادت التبرعات المُقدَّمة للسياسة في الآونة الأخيرة. ومن المتوقع استمرار هذا المنحى في المستقبل المنظور. إلى وقت قريب، كانت التبرعات الشخصية الكبيرة مهمة للغاية. ولكن في المستقبل، يُمكن أن تصبح الاحتمالات الجديدة للتمويل الجماعي، مع تبرعات بمبالغ صغيرة، حاسمة. ووفقاً للكاتبين، فإن الجهات الفاعلة التقليدية قد تتجاوزها الأحداث في هذه الحالة.
الشفافية، نعم ولكن أي شفافية؟
لقد لاحظت السلطات أيضاً هذه المتاجرة بالسياسة. ففي عام 2021، وبعد سنوات من الجدال، صارت هناك أغلبية برلمانية تدعو إلى جعل تمويل الأحزاب السياسية على الأقل أكثر شفافية. فاعتباراً من الآن، يجب أن يتم التصريح عن التبرعات المُقدَّمة للأحزاب أو للسياسيين من الرجال والنساء اعتباراً من 15 ألف فرنك فما فوق. وبهذا، يكون البرلمان قد استجاب لدعوات المجلس الأوروبي المتكررة، بالإضافة إلى المبادرات الشعبية التي تمت الموافقة عليها في العديد من الكانتونات. ومع ذلك، تفادينا إجراء تصويت وطني حول مبادرة من أجل الشفافية، لأنه تمَّ سحبها.
كما دعا بومبيرغر وبياتزا أيضاً إلى مزيد من الشفافية، حتى وإن كان ذلك باستحياء. ويتوجّه الخبيران بالاقتصاد نحو مفهوم يصفانه «بالشفافية العملية». ومعنى ذلك أنه ليس من الضروري الكشف عن التدفقات المالية إلا إذا كانت تؤثر على قرارات الناخبين والناخبات. الشرط المُسبق: يجب أن يكون للتبرع لمرة واحدة أهمية كافية في الميزانية الإجمالية. وبشكل ملموس، ينبغي أن تُطبَّق الشفافية «على التبرعات التي تتجاوز نسبة معينة من الميزانية، أو التي ترافقها متطلبات واضحة» كما كتب المؤلفان.
سرية التصويت وسرية الانتخاب وسرية المال
بالنسبة للخبيرين الاقتصاديين، كون الأفراد يضخَّون أموالاً في السياسة وبالتالي يُمارسون تأثيراً ما هو، من حيث المبدأ، أمر غير سلبي، لا بل إيجابي. حيث يرى بومبيرغر وبياتزا في هذه التبرعات إمكانية ثالثة بالنسبة للمجتمع المدني والجهات الفاعلة فيه للتعبير عن رغباتهم في إطار نظام ديمقراطي. وبذلك، يكون التمويل بعدد آليات النظام السياسي السويسري، بالإضافة إلى الانتخابات وعمليات الاقتراع.
هذا ما نفهمه جيداُ من الكتاب عندما يضع المؤلفان شروطاً مستقبلية لتمويل السياسة. فمن وجهة نظرهما، يجب على سبيل المثال أن يحمي القانون خصوصية المتبرعين، بنفس الطريقة التي يحمي بها سرية التصويت والانتخابات. وعلى جميع الجهات العاملة في السياسة أيضاً أن تلتزم بنفس قواعد الشفافية. ويرفض الخبيران الاقتصاديان رفضاً قاطعاً فكرة تمويل الدولة للعالم السياسي.
الأحزاب السياسية، هل سيعفو عليها الزمن قريباً؟
تكمن قوة هذا الكتاب في كشفه عن أرقام ظلت مخفيّة عن الأعين لمدة طويلة. وتعتبر هذه الخطوة مهمة مقارنة بتقديرات الباحثين ووسائل الإعلام التي تمَّ نشرها حتى الآن.
وعلى الرغم من ذلك، ومع مراجعة عام انتخابي واحد فقط، تظل المعطيات غير كافية. في الواقع، وبالنسبة للاقتراعات الوطنية، فإن الكثير من الأمور تتوقف على الموضوع المطروح على التصويت. فموضوعات السياسة الخارجية والاقتصادية تؤدي إلى حملات انتخاب تتسم بطابع تجاري أكبر. أما الموضوعات الغريبة والمشحونة بقدر كبير من الرمزية أيضاً للتعبير فلا تحتاج للتعبير عنها بشكل كبير. وقد شهد عام 2020 الذي تمت مراجعته، على سبيل المثال، التصويت حول مسؤولية الشركات متعددة الجنسيات، الذي انتشرت حملته الانتخابية بشكل مرئي للغاية، والذي اجتذب عددا كبيرا من التبرعات الصغيرة.
والشيء الجديد حقاً، هو أنَّ مساحات جديدة لتسويق السياسة بدأت في الظهور على شبكة الانترنت. وسيستغرق الأمر دون شك عدة سنوات لقياس التأثيرات المترتبة عنها بشكل كامل. ومع ذلك، يعتقد بومبرغر وبيازا أن هذه هي القضية الأكثر أهمية، بل يشتبهان في أن الجهات الفاعلة تقليديا مثل الأحزاب السياسية قد تتخلف عن الركب وأن تتفوق عليها قوى المجتمع المدني.
وفي نهاية المطاف، يخشى الكاتبان من احتمال رؤية الأحزاب مضطرة لطلب المزيد من المساعدات من الدولة. وهو ما سيُمثل برأي الخبيريْن الاقتصادييْن الليبرالييْن “الخطيئة الأصلية”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.