الإعلاميون في ليبيا يدفعون ضريبة الحرب الأهلية
ما فتئ الإعلاميون في ليبيا يدفعون ضريبة باهظة منذ الإطاحة بالدكتاتور السابق معمر القذافي، ليس فقط بسبب غياب الأمن وتزايد الجرائم السياسية، التي تستهدف نشطاء من المجتمع المدني والقضاة والعسكريين، وإنما لأنهم مستهدفون بالإسم لحساسية دورهم، الذي يتطلب التقيد بضوابط المهنة، وخاصة منهم مَن رفضوا الدوران في فلك الميليشيات من هذا التيار أو ذاك.
ولعل أبرز تجليات هذا الموقف الدقيق، استقالة آخر وزير إعلام بعد انقضاء يوم واحد على تسميته في المنصب. وكان خالد عثمان مذيعا في قناة “ليبيا الأحراررابط خارجي” (تبث من الدوحة) وحظي بشعبية واسعة، فغادر قطر ليتسلّم ملفا حارقا، سُرعان ما أعاده إلى أصحابه، بعدما أيقن أنه لا مجال لإصلاح ولا أمل في استقرار وبناء. هكذا هُم الإعلاميون الحقيقيون في ليبيا اليوم، حاملين أكفانهم على أكفهم يسيرون على خيْط رفيع، مُعلقين بين حياة الرُّعب أو الموت اغتيالا.
قصف مقر تليفزيون
ومع احتدام الحرب الأهلية الطاحنة في يوليو الماضي، في أعقاب الانتخابات البرلمانية بين الميليشيات وقوات “الجيش الوطني” للسيْطرة على مدينة بنغازي وعلى مطار العاصمة طرابلس، تعرّض مبنى تليفزيون مدينة بنغازي أو “بنغازي تي في” يوم 10 يوليو للقصف بالهاون، مما أدّى إلى تدمير جزء كبير من مبنى القناة اليافِعة وتحطيم كامل مرافق الأستوديوهات والتجهيزات عالية التقنية، التي حصلت عليها لدى انطلاقها.
يقع مقر “بنغازي تي في” (بي تي في)، وهي المحطة التليفزيونية الرسمية للمجلس البلدي لمدينة بنغازي، في حي “تابلينوا”، وهو أحد الأحياء السكنية الراقية في المدينة غيْر بعيدٍ عن مقرّات عدد من الميليشيات المسلحة. وقال خالد نجم، مدير المحطة، إن الاعتداء اضطر القناة الوليدة للتوقّف عن البث في أولى مراحلها التجريبية، لكنه وعد بمعاودة البث بعد ترميم التجهيزات.
ويمكن القول أن الصراع الدائر بين الجيش والميليشيات المتشدّدة، استدرج أجهزة الإعلام إلى بُـؤر الصراع المشتعِلة هنا وهناك، وبخاصة المحطات التليفزيونية التي انتشرت مثل الفطريات في جميع أنحاء البلاد. وازداد الأمر تعقيدا مع “امتلاك” كل منطقة، بل وكل حزب، قناته (أو قنواته الخاصة)، مثل الزنتان ومصراتة وبنغازي.
اختطافات
وفي الفترة الماضية، اختطف ثمانية صحفيين وتعرّض أحدهم للقتل على أيدي عناصر الميليشيات، ومن بينهم جمعة الأسطى، مالك قناة “العاصمة”، التي تُعتبَر الأكثر مُشاهدة، ومدير قطاع الأخبار فيها محمد الهوني. وتزامنت عملية “الكرامة” التي أطلقها اللواء المتقاعد خليفة حفتر من بنغازي (شرق) في 16 مايو الماضي مع هجوم عنيف على مقر إذاعة “أنصار الشريعة”، وهي جماعة مرتبطة بتنظيم “القاعدة”، الواقع في حي الليثي غربي بنغازي، لكن لم تسجل إصابات في الهجوم الذي لم تتبنه جماعة حفتر.
كما اختُطِـف أيوب قويدر، مصور قناة “ليبيا الدولية” (فضائية خاصة) أثناء تصويره الاشتباكات التي أعقبت إطلاق عملية “الكرامة” في حي الهواري جنوب بنغازي، قبل أن يُخلى سبيله بعد تجريده من أجهِزة التصوير التي كان يحملها لأداء عمله. وتعرّض عبد الله دومة، مصور وكالة الأنباء الفرنسية في بنغازي لدى عودته من العاصمة طرابلس لوابل من الرصاص، لكنه لم يُصبْ بأذى.
وفي اليوم نفسه، أطلِق صاروخان على مقر قناة “ليبيا الدولية”، بعد استضافة الزعيم السابق لـ “مجلس ثوار ليبيا” عبد الله ناكر، وهو أحد قادة الميليشيات في منطقة الزنتان (غرب)، في حوار مباشر، للتعليق على تداعيات العملية العسكرية التي أطلقها حفتر ضد الميليشيات.
وقبل ذلك، تعرض مقر قناة “ليبيا الحرّة” (وهي واحدة من المحطات التليفزيونية البارزة بعد الثورة) في بنغازي، لاعتداء بقنبلة يدوية في يونيو الماضي، ما تسبّب في حدوث أضرار في البناية وجرح أحد العاملين في المحطة.
وأكدت منظمة “مراسلون بلا حدودرابط خارجي” في بيان أصدرته بتلك المناسبة، على ضرورة “التحقيق بصرامة في جميع هذه الاعتداءات ومُقاضاة مُرتكبيها”، وحثّت السلطات الليبية على “الوفاء بالتِزاماتها المحلية والدولية في مجال حرية الإعلام”، مُشدِّدة على “الدور الذي يضطلع به الإعلاميون في ليبيا الجديدة، خصوصا في العملية الشاملة لبناء دولة مستدامة وديمقراطية على الأمد البعيد، وما يستوجبه ذلك من احتواء العنف بسرعة”.
كما تمّ اختطاف خمسة موظفين عاملين في قناة “برقة” الفضائية ليلة الخامس من أغسطس الماضي، عند عودتهم من طبْرق شرق البلاد، بعد تغطية حفل تنصيب البرلمان اللِّيبي الجديد. وحسب مدير القناة فرج المغربي، الذي كان موجودا برفقة البعثة، تمّ توقيف سيارات القناة الثلاث وعلى متنها طاقم من ثمانية أفراد، في نقطة تفتيش بالقرب من مدينة درنة التي تُـعتبَر معقلا أساسيا من معاقل جماعة “أنصار الشريعة”، وهدّدوا الصحفيين بأسلحتهم وأجبروهم على النزول من العرَبات، وتمكّنت إحدى السيارات الثلاث من الهرب، رغم إطلاق الخاطفين النار عليها، وكان على متنها مدير القناة وأحد التقنيين ومصور. بينما تمّ اختطاف كل من المحرر خالد الصبيحي والمذيع يونس المبروك المغربي والصحفيين عبد السلام المغربي ويوسف القمودي والمصور المصري محمد جلال، ولم ترد منذ ذلك الحين أي أنباء عن المُختطفين.
وكانت عناصر “قوة الرّدع الخاصة” الخاضعة لسيطرة الإسلامي عبد الرؤوف كاره، حثت عشية الرابع من أغسطس الماضي (أي قبل يوم من الاختطاف) العاملين في قناة “الوطنية” العمومية على الامتناع عن بث حفل تنصيب البرلمان الليبي الجديد. وأجبرت في سبيل ذلك، كل موظفي القناة على مغادرة البناية، فيما طالب قائد الهجوم المُسمّى عبد العظيم الشهراني، حسب تصريحات عاملين في القناة، الموظفين بعدَم تغطِية أنشطة البرلمان الجديد بأي حال من الأحوال، ودعم العملية المسمّاة “فجر ليبيا”، التي أطلقتها مليشيات مصراتة منذ 13 يوليو الماضي، بقصد السيطرة على مطار طرابلس وانتزاعه من قبضة مليشيات الزنتان.
اغتيال المسماري
وشكّلت تلك الهجمات على الإعلاميين، امتدادا لهجمات سابقة على محطّات تليفزيونية ومقرّات صحف، بل واغتيالات لإعلاميين ونشطاء، تُذكِّر باغتيال أعوان القذافي للصحفي الشاب ضيف الغزال في أحلك أيام الاستبداد، بعدما ضاق ذرعا بانتقاداته اللاّذعة لنظامه. ومن أشهر النشطاء الذين كانوا ضحية للاغتيال بعد الثورة، الإعلامي والحقوقي البارز عبد السلام المسماري، الذي قُتل بالرصاص لدى مغادرته المسجد عقِب صلاة الجمعة في بنغازي. وقبل تشييع المسماري في جنازة كبيرة، هاجم متظاهرون غاضبون مقرّات تابعة لـ “حزب العدالة والبناء” (الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين)، باعتباره أحد الأحزاب الكبيرة المُسيْطرة على “المؤتمر الوطني العامرابط خارجي” (قبل انتهاء ولايته في يوليو الماضي).
وعلى رغم إعلان رئيس الحكومة السابق علي زيدان أن “المؤتمر الوطني والحكومة اتّخذا جميع الإجراءات اللاّزمة للوصول إلى الجُناة ومُرتكبي عمليات الاغتيال عموما، لم يُكشف النِّقاب حتى اليوم عن قتَـلة المسماري وعشرات الشخصيات العامة الأخرى.
وفي هذا المعنى، أكدت منظمة “مراسلون بلا حدود” (مقرّها في باريس) أن انعدام الأمن السائد في ليبيا أثَّـر بشكل كبير في العملية الإعلامية. واختلفت طبيعة الانتهاكات التي تعرّض لها الإعلاميون في ليبيا، من الاعتداءات بالضرب في مظاهرات شعبية إلى الخطْف والتّرهيب. وأفادت المنظمة أن ثلاثة صحفيين عاملين في التليفزيون الليبي تعرّضوا للاختطاف لمدة أسبوعين على أيدي مجهولين، كما تعرّض مراسلو التليفزيون الليبي وقناة “النبأ” إلى الشّتم والطّرد أثناء مظاهرات مُناوِئة للمؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته.
وتعرض أيضا مقرّ قناة “العاصمة” الخاصة، للتفجير بعُبوة ناسِفة وللقصف بواسطة الآر بي جي مرتين في أقل من أسبوع، مما أّدّى إلى إتلاف جزء من مُعدّاتها واستوديوهاتها.
حياد عن الرسالة الإعلامية؟
وبالإضافة للخطف والاغتيالات وقصف المقرات الإعلامية، يتعرض الصحفيون في ليبيا إلى أنواع شتّى من الانتهاكات والإعتداءات الأخرى، وعلى سبيل المثال أحْصت وِحدة رصْد الانتهاكات بـ “المركز الليبي لحرية الصحافة” (غير حكومي) في شهر مايو فقط، أكثر من عشرين حالة اعتداء جسيم طالت صحفيين ومؤسسات إعلامية مختلفة، وستين اعتداء في الشهرين الأولين من العام الجاري، وهو ما يُظهر حجم الأخطار التي يواجهها مَن تمسّكوا بالعمل وِفق أصول المِهنة والضوابط الأخلاقية، على رغم جميع المغريات والتهديدات.
ولعل مصطفى فنوش، النقيب العام للصحفيين والإعلاميين الليبيين، كان يشير إلى عمليات الإغواء والابتزاز، حين استنكر في وقت سابق من العام الجاري “التغطية التي تقوم بها بعض الوسائل والقنوات الإعلامية المحلية”، مُعبِّرا عن أسَفه “لقيام بعض القنوات الإعلامية بالإساءة كثيرا لرسالتها الإعلامية وللقواعد المهنية”، من دون تسمية صحف أو محطات محددة.
يأتي هذا الانتقاد على خلفية إقبال عدد كبير من رجال الأعمال، على امتلاك محطات تليفزيونية يستخدمونها لتوجيه الرأي العام في قضايا سياسية مُـعيّنة، إضافة لامتلاك أحزاب وميليشيات محطات خاصة بها، مما يُحدِث إرباكا شديدا لدى الرأي العام.
وفي السياق نفسه، حذّر الصحفي عصام الزبير، من أن العمل الصحفي في ليبيا أصبح “مغامَرة بالحياة”، مُشيرا إلى غياب أية حِماية للصحفيين وللمؤسسات، مع تزايد المخاطر في حقّهم، “بعد حدوث الكثير من عمليات الخطف والاغتيال وتعرّض مؤسسات إعلامية للحرْق والتدمير، الأمر الذي يجعلنا في دائرة التّهديد المُستمِر”.
وعبّر الزبير لـ swissinfo.ch عن قلقِه البالِغ من “تراجُع مؤشّر حرية الصحافة وتوغّل أصحاب المصالح فيها، ممّا يُهدّد مكانة الصحافة الحرة بالمجتمع الليبي”.
وعلى خلاف غالبية الدول العربية الأخرى، حيث تكون قوات الأمن هي مصدر الإنتهاكات والاعتداءات، تأتي عمليات الاعتداء في ليبيا من الجماعات المسلّحة والمتشدّدة، التي لا تتردّد في تصفية خصومها، مما يجعل أكثرها يبقى مجهول المصدر والهوية. غير أن سيطرة ميليشيات مسلحة على محطتيْن تليفزيونيتيْن تابعتيْن للدولة بالقوة في 19 أغسطس الماضي أثناء المعارك الدائرة في طرابلس، حملت السلطات اللّيبية على غلقهما عبْر توجيه طلب إلى إدارة “نايل سات” لوقف بث برامج القناتيْن، وهما “ليبيا الوطنية”، التي تديرها الحكومة المؤقتة و”ليبيا الرسمية”، التابعة للبرلمان “بسبب انحياز المحطتيْن إلى جماعات متطرِّفة محسوبة على مدينة مصراتة وحلفائها”.
قانون القذافي
لكن الدولة تدخّلت في وقت سابق، عندما كانت تحظى بقدْر صغير من النفوذ، لمحاولة تلجيم الإعلام، وظهر ذلك خاصة في اعتقال الصحفي عمارة الخطابي وتوجيه النيابة العامة له تُهمة التشهير بالقضاء، بعد ستة أشهر من الاعتقال، على خلفية نشره في صحيفة “الأمة”، ما دعاه “القائمة السوداء في القضاة”. وقد تضمّنت القائمة 87 إسما لقُضاة ووُكلاء نيابة، قال إنهم حصلوا على مكاسب غير مشروعة في عهد معمر القذافي، فيما أكّدت “الأمة” في مقدّمة الخبر، أنها “تلقّت تلك القائمة من مصدر غير مُعلن، وهي تعيد طبعها كما تلقّتها”.
وانتقدت منظمة “هيومان رايتس ووتشرابط خارجي” إحالة الخطابي إلى القضاء بموجب المادة 195 من قانون عقوبات القذافي، التي تنص على أنه “يُعاقب بالسجن كل مَن صدر عنه ما يُشكّل مساسا بثورة الفاتح العظيم أو قائدها”، ويُعاقب بذات العقوبة كل من أهان السلطة الشعبية أو إحدى الهيئات القضائية أو الدفاعية أو الأمنية، وما في حكمها من الهيئات النظامية الأخرى”.
تمّ اعتقال الخطابي في 19 ديسمبر 2012، وقضى ما يقرب من ستة أشهر مُحتجَزاً على ذمّة المحاكمة، ثم نُقِل إلى المستشفى يوم 6 أبريل، بسبب تدهور صحته جرّاء إضرابه عن الطعام احتجاجاً على احتجازه، كما قال محاميه، رمضان فرج سالم لـهيومن رايتس ووتش، قبل الإفراج عنه لاحقا بكفالة، ليُسافر في أغسطس الماضي لمتابعة العِلاج في الخارج.
ويمكن القول أن الآمال التي علّقها الليبيون على الثورة لبناء صحافة حرّة وإعلام مستقِل بعد القذافي، بدأت تتلاشى مع ظهور تحديات كبيرة في بيئة العمل الصحفي، مثلما قال الإعلامي محمد الناجم لـ swissinfo.ch، على رغم الطّفرة الإعلامية الكبيرة التي حقّقها قطاع الصحافة والإعلام عقب الثورة.
أما عبد السلام الزغيبي، رئيس تحرير صحيفة “قورينا الجديدةرابط خارجي” (الإسم القديم لمدينة طرابلس)، فأكد أن “وسائل الإعلام التي نطمح لها، ينبغي أن تلعب دورا في خِدمة قضايا المجتمع الليبي ومعالجة مشاكِله الحيوية، بقيادة شباب متميِّز ومتمكِّن، وهو دور يتطلّب أن تتوافر في مَن يتصدّون له الشعور بالمسؤولية الأدبية والأخلاقية، وهي صِفة لا يملكها الدّخلاء والمسؤولون عن القنوات، الذين يحاولون السيْطرة على وسائل الإعلام الليبية والرأي العام، لتوجيهه خِدمة مصالحهم من خلال بث الإشاعات والأخبار غير المؤكدة وغيْر الموثوقة، بما يعني ممارسة التضليل، وكذلك خِدمة أجندتهم التي تعمل على تكريس الانقسام والجهوية وبث الفِتنة بين أفراد المجتمع الواحد”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.