“العالم يَمضي قُدُماً ولا ينتظر استيقاظ الولايات المتحدة”
عندما تولي الرئيس الأمريكي المُنتخب دونالد ترامب مقاليد مَنصبه في 20 يناير 2017، تَوقَّع المسؤولون في جنيف فترة مَضطربة للنظام مُتعدد الأطراف والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة. ولكن "جنيف الدولية"، وبعد مضي عام على هذا الحدث، ظلت بمنأى عن التخفيضات الحاصلة في ميزانية الأمم المتحدة إلى حدٍ كبير. مع ذلك، يُحَذِّر مراقبون محليون من أن سياسة ترامب الخارجية وفقاً لشعاره "أمريكا أولاً" يُمكن أن تكون "كارثة بالحركة البطيئة".
“نحن نعيش تجربة جسيمة ومحفوفة بالمخاطر، وهذا اختبار حقيقى للمؤسسات الأمريكية والعالمية”، كما أخبر توماس بيرشتيكررابط خارجي، الخبير في شؤون الحُكم في معهد جنيف للدراسات العليا swissinfo.ch
انطلاقا من وعوده بوضع أمريكا أولا، قام ترامب بالتركيز على إعادة التفاوض بشأن العلاقات الخارجية، واضعاً ثقته بالإتفاقيات الثنائية، ومُوجّها عدة ضربات للتعاون الدولي وللدبلوماسية المتعددة الأطراف في نفس الوقت.
فيما يتعلق بالتجارة الدولية، عَبَّر ترامب عن إمتعاضه من العَجز التجارى الأمريكى مع الصين، وانتقد منظمة التجارة العالميةرابط خارجي (التى تتخذ من جنيف مقرا لها)، وانسحب من المفاوضات التجارية لاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، كما طالب بتجديد اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية “نافتا”.
وخلال حملته الانتخابية، لم يتوان ترامب عن الإنتقاد العلني لمنظمات مثل الأمم المتحدة. لكن لهجته بَدَت أقل حِدّة بعد استلامه مقاليد السلطة، حيث إشار للإمكانات الكبيرة للمنظمة الأممية، كما إشاد بالعمل الإصلاحي لأمينها العام أنطونيو غوتيريش، وتَعَهَد بان يكون “شريكاً” لجعل المنظمة “قوة أكثر فعالية من أجل السلام”.
رغم ذلك، أعلن الرئيس الأمريكي في شهر يونيو 2017 عن عَزمِه إخراج الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ رابط خارجيالذي تقوده الأمم المتحدة. عَقب ذلك، وفي شهر أكتوبر الماضي، انسحبت الولايات المتحدة رسمياً من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، مُتهمة هذه الهيئة بـ “تحيّزها المُستمر ضد إسرائيل”. وفي شهر ديسمبر الفائت، أعلنت بعثة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة عن انسحاب واشنطن من إعلان نيويورك للمهاجرين واللاجئين الذي صادقت عليه الأمم المتحدة في عام 2016.
علاوة على ذلك، قامت واشنطن باعادة النظر في التمويل الذي تمنحه للمؤسسات الدولية. وهكذا جاء القرار الأمريكي في شهر أبريل المنقضي بوقف تمويل واشنطن لصندوق الأمم المتحدة للسكان. كما أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في شهر يناير الجاري عن حَجبها نصف مجموع مساعداتها البالغة 125 مليون دولار لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين رابط خارجي(الأونروا) . بَيد أن القرار المالي الأهم صدر قبل عيد الميلاد مباشرة، عندما تم الإعلان عن خفض الميزانية التشغيلية المقدَّمة للأمم المتحدة للفترة 2018-2019 بنسبة 5% (مقارنة مع ميزانية 2016-2017) لتصل إلى 5,4 مليار دولار. وجاء هذا القرار عَقِب حملة إعلامية مُكثفة قامت بها الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي.
يُذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية تُساهم بالجزء الأكبر من ميزانية المنظمو الأممية، وهي تدفع حالياً 22% من ميزانيتها الأساسية، و28,5% من ميزانيتها لقوات حفظ السلام البالغة 7,3 مليار دولار. وهي المُمَول الرئيسي لوكالات الأمم المتحدة المُتخصّصة الرئيسية، مثل منظمة الصحة العالميةرابط خارجي، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئينرابط خارجي التي تقع مقراتها الرئيسية في مدينة جنيف.
وكما قالت المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة نيكي هالي: “لن نَسمح بعد الآن بأن يتم استغلال سخاء الشعب الأمريكي”، مُضيفة أن “عدم كفاءة المنظمة وتجاوزها في الإنفاق” مَعروف تماماً.
تأثير مالي محدود
من جانبه، قال فالينتين تسيلّفيغَر، السفير السويسري لدى الأمم المتحدة في جنيفرابط خارجي بأن الوقت “لا يزال مُبكراً” لتحديد النتائج التي ستترتب عن خَفْض الميزانية العادية للأمم المتحدة بالنسبة لجنيف، ورجَّح أن يَعُم تأثيرها على جميع المهام التي تضطلع بها الأمانة العامة للامم المتحدة.
وبحسب إيان ريتشاردز، السكرتير التنفيذي للمجلس التنسيقي للموظفين في المقر الأوروبي لمنظمة الأمم المتحدة في جنيف، لن يكون لتقليل الميزانية الأساسية سوى تأثير محدود فى جنيف، التي خُفِّضَت فيها مرتبات موظفي الخدمة المدنية للامم المتحدة بالفعل مؤخرا، لأن معظم التخفيضات كانت تخص الإدارة وفي المركز الرئيسي للأمم المتحدة في نيويورك. وبحسب مقال نشرته صحيفة ‘تريبون دو جنيف’ مؤخراً، مَكَّنَت عملية حَشد التأييد التي قام بها أنطونيو غوتيريش، وتحكيم اللحظة الأخيرة التي قامت بها مجموعة من الدول بما فيها سويسرا من تقليل الخسائر الوظيفية الناجمة عن هذه الإجراءات.
وفي معرض ردها على swissinfo.ch، أعربت العديد من المنظمات المُتخصصة في جنيف، مثل منظمة العمل الدوليةرابط خارجي، التي تعتمد بشكل رئيسي على التبرعات الطوعية للدول، عن ثقتها بعدم تغير مستويات التمويل الحالي المقدمة من الحكومة الأمريكية.
لكن ديفيد سيلفان رابط خارجيالمتخصّص في العلوم السياسية يصف التخفيض في الميزانية الأساسية للأمم المتحدة بـ “الجسيم”. وهو يرى أن الضغوط الأمريكية بالنسبة لميزانيات الأمم المتحدة والوكالات المتخصّصة قد يستمر على الأرجح.
بداية النهاية
فيما عدا مسألة التمويل، يرى سيلفان أن التهديد الأكثر خطورة بالنسبة لجنيف الدولية جاء من تقويض ترامب الطويل الأمد لشرعية النظام المتعدد الأطراف.
في هذا السياق، كانت منظمة التجارة العالمية هدفاً واضحاً لترامب. ولتحقيق وعوده بوضع أمريكا أولا وحماية العمال الأمريكيين من ما يعتبره مُمارَسات تجارية غير عادلة من طرف الصين وغيرها، قام ترامب بإضعاف هذه المنظمة بوصفها منتدى لتسوية النزاعات. ولم تتوان الولايات المتحدة عن انتقاد منظمة التجارة العالمية علانية في مؤتمر وزاري عقد في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس في شهر ديسمبر الماضي.
وكما قال أندري سابير، وهو زميل أقدم في مركز الأبحاث بروغل في بروكسل، لوكالة رويترز: “بالنظر إلى ما مضى، يمكن أن يؤشر عام 2017 بداية النهاية لنظام التجارة الحُرّة القائم على القواعد وتفكك النظام”.
بدوره، لم يسلم مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيفرابط خارجي هو الآخر من انتقادات واشنطن. فخلال مشاركتها في الدورة الصيفية للمجلس في يونيو الماضى، قالت المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة نيكي هالي رابط خارجيإن المجلس بحاجة إلى إصلاحات وبأن عليه “معالجة تحيّزه المُزمِن المعادي لإسرائيل” إذا كان يريد الحفاظ على مصداقيته. ورغم أنها لم تشر إلى انسحاب أمريكي من المجلس، لكنها قالت إن الولايات المتحدة “بصدد إعادة النظر فى مشاركتها”.
ووفقاً لـ بيرشتيكَر، فإن حقيقة عدم تعيين أي شخص في موقع الرئيس الجديد للبعثة الأمريكية في جنيفرابط خارجي، أوبصفة ممثلين أمريكيين دائمين في منظمة التجارة العالمية ومجلس حقوق الانسان منذ فوز ترامب بالرئاسة، هو دليل على “انعدام الإهتمام بالعالم” ويأتي “متوافقاً مع النزعة الإنعزالية [لترامب]”.
سد الثغرات
بعد عام على مراقبة أداء ترامب، يصعب في معظم الأحيان تفسير نمط تغريداته المنفعلة والمتسرعة حول الشؤون الخارجية. لكن شيئاً واحداً يبدو جلياً، وهو “أنه لا يزال يعيش أجواء الحملة الإنتخابية”، كما علق بيرشتيكر. وكما أضاف: “وفي بعض الأحيان يبدو نباحه أقوى من عضته”.
أما انتقاد سيلفان، فجاء أكثر حدّة: “لا أحد يهتم بالإشراف على إدارة الأمور لذا يبقى الوضع على ما كان عليه في السابق”. وكما أضاف أنه “من المفارقات أن السياسة الأمريكية تجاه المنظمات الدولية إنما تنفذ على مستوى حكومي أدنى [من المعتاد] بكثير” نتيجة التوترات القائمة بين ترامب ووزير خارجيته تيلرسون ووزارة الخارجية الأمريكية، والفشل المتواصل فى شغل المناصب الرفيعة في إدارة الدولة.
في هذا الصدد، يتفق الخبيران على أنَّ أحد الدروس المثيرة للإهتمام لعام 2017، هو أن الدول تبدو وكأنها تقاوم، كما أنها على استعداد للتصدي لبعض الأدوار القيادية التي تخلت الولايات المتحدة عنها، وهو ما بات واضحاً بالنسبة لاتفاق باريس بشأن المناخ، وكذلك في الإجتماع الذي عقده مجلس الأمن الدولي لمناقشة الإحتجاجات التي شهدتها إيران مؤخراً.
“لم يكن انسحاب أمريكا او تنازلها عن القيادة بالقدر الذي كنا نخشاه، لكنه يمكن ان يكون كارثة بالحركة البطيئة”، على حد تعبير بيرشتيكَر.
واختتم الخبير في شؤون الحُكم حديثه بالقول: “إن بقية دول العالم تمضي قدماً وهي لا تنتظر استيقاظ الولايات المتحدة من هذه الحالة. إنها تقول إن تغيُر المناخ مسألة مهمة جداً، ونحن مستمرون في هذا البرنامج سواء بمشاركتك أو بدونها. وهي توجّه هذه الرسالة في مجالات أساسية أخرى أيضاً”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.