سويسرا ليست جزيرة معزولة عن العالم
بينما تستعد سويسرا للتصويت في 27 سبتمبر الجاري - مرة أخرى - حول ما إذا كان ينبغي لها عزل نفسها عن العالم، أتوجّه بتفكيري إلى ما أعتبره جوهر الكيان السويسري.
جوهر سويسرا ليس الأزياء المحلية واللهجات المختلفة والوديان العميقة فحسب، بل قمم الجبال الشامخة والبراغماتية في التفكير، وكرم الضيافة. أو ربما يقوم جوهر الكيان السويسري على دمج هذه المكوّنات الستة في اقتصاد سليم نابض بالحياة، ولكونه يتمتع بأحد أنظمة الحكم الديمقراطية الحقيقية القليلة في العالم. إنه بلد صغير به أربع لغات وستة وعشرون نظاماً تربوياً للمدارس الابتدائية والثانوية: كيف يمكنه أن يضم اثنتين من أفضل الجامعات في العالم – واحدة منهما تحتل المرتبة الثانية في أوروبا؟
كيف استطاعت بلادنا أن تلقّب – في عام 2019 – بالدولة الأكثر ابتكاراً في العالم؟ لدينا، بين الدول الأوروبية، ثاني أعلى دخل للفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ولدينا نظام رعاية صحية ممتاز وجودة حياة رائعة. على ماذا يعتمد هذا النجاح؟ سأبرر ذلك – بطريقة تثير الاستغراب – إنه الانفتاح. فسويسرا براغماتية وحذرة، ولكنها في الوقت نفسه منفتحة. ولا توجد طريقة أخرى لدولة في وسط أوروبا – دولة تفتقر إلى الموارد الطبيعية – للبقاء، ناهيك عن الازدهار. ومن خلال انفتاحها، عززت سويسرا القيم التي تعطي معنى أن تكون سويسرياً.
إن أسلوب حياتنا، في عالمنا الذي يعيش حقبة ما بعد الصناعات الحديثة، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتكنولوجيا، والمعرفة العلمية هي الدافع وراء الإنجازات التكنولوجية. إن المعرفة العلمية نفسها هي أساسٌ دائم التطور وينمو باستمرار وهي تتوقف بشكل شبه كامل – على الرغم من الحواسيب – على الفضول وعلى الأدمغة البشرية. علاوة على ذلك، فإن هذه المعرفة هي معرفة كونية؛ فعلوم الحساب والكيمياء ليست مختلفة في سيبيريا أو البرازيل، ومفاهيمنا الرياضية والعلمية الأساسية عالمية. ونظراً لأنها دائمة التطوّر، يترتب على المرء إما أن يكون سبّاقاً إلى المعرفة، ولديه الوسائل لمعالجة المشكلات التي تواجه المجتمع (على سبيل المثال، الاحتباس الحراري أو الوباء)، أو لا يكون. وفي نهاية المطاف، من الواضح أن إيجاد الحلول للمشاكل التي تواجه مجتمعنا هو مصدر النجاح الاقتصادي. ويطلق البعض على إيجاد الحلول اسم الابتكار، وهو ما وضعنا في المكانة التي نحن عليها اليوم. وإلا، كيف يُمكن لدولة بها 0.1 % فقط من سكان العالم أن تحلم بقيادة الابتكار وضمان النجاح الاقتصادي؟ جوابي هو من خلال التميز و “الانفتاح”. وسأشرح أدناه ما يعنيه “الانفتاح” بالنسبة للعلم والمعرفة العلمية.
المعرفة العلمية بحاجة إلى الانفتاح
إن المعرفة العلمية عالمية. وفي وقتنا الحاضر، لا يوجد عالِم لا يتابع يومياً تدفق المعلومات ولا يعتمد على الحوار المستمر مع العلماء الآخرين حول العالم. إن الإنجازات لا تتحقق في الأبراج العاجية، بل تنشأ من التبادل المستمر للأفكار والتقنيات والمواد الكاشفة والنتائج التي تقودنا إلى اكتشافات جديدة، كالاكتشافات المتعلّقة بكيفية دخول فيروس كورونا إلى الخلايا على سبيل المثال، أو كتلك المتعلّقة بكيفية تخفيف عاصفة السيتوكين التي يثيرها الفيروس في تكيّفه السريع مع خلايا الجسم، أو تلك التي تمكننا من اكتشاف الأوبئة والوقاية منها في المستقبل.
ولا شك أن العلوم تزدهر حيث يتوفّر التمويل اللازم وتكون الحياة هانئة وآمنة بحيث يمكننا التركيز على المستقبل المجهول. لكن هذه العوامل ليست كافية، فالعلوم تعتمد على الانفتاح على الآخرين وتبادل المعارف والخبرات. وهذه الاستراتيجية تبنّتها سويسرا على الدوام (خير دليل على ذلك، بازل على مدار الـ 560 عاماً الماضية). وقد أثمرت هذه الاستراتيجية: لماذا تتخذ شركات الأدوية الرائدة عالمياً مقرّات لها في سويسرا؟ لأنه ومنذ سنوات مضت، تكلّل تنفيذ الابتكارات الضرورية لحياة الناس- والتي أتى الكثير منها من أماكن أخرى – بالنجاح هنا. فهل سيستمر حدوث ذلك في المستقبل؟ سيستمر فقط إذا تركنا الباب مفتوحاً للتبادل المستمر للعلماء والأفكار الخلّاقة.
التعاون، في أزمنة كوفيد – 19
إن التعاون هو شريان حياة العلوم. نحن اليوم نعرف الأمور بمجرد حدوثها، وعلينا أن نعرف كيف يتم التعاطي معها من قِبَل الآخرين قبل أن تنشر، حتى نتمكن من متابعة التطورات بشكل منتج. وهناك باستمرار ذهاب وإياب للعاملين في مجال الأبحاث. كما أن المختبرات السويسرية تؤمّن استمرارية نشاطاتها من خلال الطلاب الأجانب والباحثين في مرحلة ما بعد الدكتوراة، الذين يأتون لبضع سنوات، حاملين معهم الطاقة والريادة. ورغم أنهم يغادرون سويسرا، إلا أنهم يظلون على تواصل، مما يعطي لشبكة الأبحاث طابعها العالمي بسرعة فائقة. وعلى هذا النحو، يتم تشبيك سويسرا بشكل وثيق في هذا النسيج المعقّد للاكتشاف العلمي الذي يمتد عبر الكرة الأرضية. إن تقدمنا العلمي لا يقتصر على المعرفة التي نحصل عليها من أي مكان آخر، ولكن الباحثين الذين نجتذبهم، هم أيضاً عناصر أساسية لنجاحاتنا.
نشر صديق لي مؤخراً في مجلة “نايتشر” Nature بحثاً عن “البروتياز” أو الإنزيم البروتيني المشفر الذي يلعب دورا أساسيا في تفشي وباء كوفيد-19. إن دراسة هذا الإنزيم هدف ممتاز لمنع تفشي المرض. وقد بدأ الباحثون دراستهم على هذا الإنزيم في الربيع الماضي، لكنهم توصلوا إلى رؤى ثاقبة ومذهلة في غضون بضعة أشهر فقط. ولقد كتب صديقي هذا عن ذلك: “السر يكمن في مشاركة المعلومات والتعاون مع علماء رائعين. لم يجلب التعاون الأوروبي عبر الحدود وثقافة الانفتاح بعض الاكتشافات الجديدة فحسب، بل عزز أيضاً، وعلى نفس القدر من الأهمية، الشعور بتحقيق أهداف مشتركة، وحث على الإلهام والتآزر بين طلابنا وباحثينا في مرحلة ما بعد الدكتوراة، مما يدل على أن العلم مهنة مُجزية ومهمة على نحو لا يصدق”.
إذا توقّفت المختبرات السويسرية عن المشاركة بطريقة رائدة في آليات التعاون الأوروبي، وعن اجتذاب الطلاب والباحثين الذين يحملون شهادة الدكتوراة من الخارج بسهولة، فسوف تنخفض الإنتاجية السويسرية في العلوم والتكنولوجيا، ويتأثر اقتصادنا سلبياً. نعم، الأمر بهذه البساطة: يتطلب الابتكار العلمي مناخاً من الانفتاح والتبادل مع الآخَر مدعوماً من القيّمين على السياسات الحكومية. إن بلداً غير مضياف هو بلد ذاهب باتجاه تدمير قدراته التنافسية.
إن سويسرا تمتلك القليل من الموارد الطبيعية، ونتيجة لذلك يعتمد اقتصادنا إلى حد كبير على الموارد البشرية. نعم، على المادة الرمادية: الأدمغة والتفكير الإبداعي؛ لا سيّما وأن التكنولوجيا آخذة في التطور بسرعة. وعلى المرء أن يكون دائماً سبّاقاً، وإلا فسيفوته القطار ويتخلف عن الركب بسرعة. وفي وقتنا الحاضر، يمكن حل عدد قليل جداً من المشكلات الرئيسية بطريقة فردية أو بتقنية واحدة، ولكن عندما يتم امتلاك شبكة معارف واتصالات، فهذا يعني أن هناك فرصة للمساهمة في اكتشاف جديد مهم من خلال التعاون مع الآخرين. بدون ذلك، سيجد المرء نفسه مهمّشاً بسرعة، بينما بقية العالم يمضي قدماً إلى الأمام.
الطلاب والأساتذة الأجانب
نحن نعرف أن سويسرا لا تنتج ما يكفي من المواهب الشابة لتلبية احتياجات مختبراتنا، ومع ذلك يعتمد مجتمعنا على نجاحاتنا وإنجازاتنا العلمية. وبالتالي، يجب أن نظل منفتحين على التبادل والاستيراد (والتصدير) واستقطاب، ليس فقط الطلاب والباحثين في مرحلة ما بعد الدكتوراة والمتدربين، ولكن أيضاً المهندسين والأساتذة. وهذا هو المجال الذي يؤتي فيه الترحيب السويسري ثماره – على الرغم من المفاهيم الخاطئة الشائعة – فلطالما اجتذبت الجامعات السويسرية واستضافت غير السويسريين. وتشير الأرقام الأخيرة إلى أن حوالي 50% من أعضاء هيئة التدريس بجامعة زيورخ هم من غير السويسريين. وفي الواقع، فإن بعض أشهر مفكرينا ليسوا من السكان الأصليين! لقد حقق هذا النوع من الانفتاح – لعدة قرون- أهم المكاسب لبلدنا.
إن المنافسة ترتقي بالأحلام والأهداف إلى ما هو أبعد مما يعتقده المرء في الأصل ممكناً. على مدار الثلاثين عاماً الماضية، تفاوضت سويسرا بشأن الحق في المشاركة في البرامج الإطارية للإتحاد الأوروبي لتمويل الأبحاث. وحتى عام 2004، كانت حقوقنا في المشاركة محدودة للغاية، ولكن بعد ذلك، أصبحت سويسرا عضواً منتسباً في البرامج الإطارية 6 و7 وكذلك في الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية “Euratom”، مع كل ما نجم عن هذا الوضع من الحقوق والواجبات. ثم جاء اتفاق “هورايزون 2020” مع ركيزة التميز في العلوم، والتي تمول أفضل العلماء وأكثرهم إبداعاً في أوروبا بمنح سخية لمدةخمس سنوات. وكادت هذه الفرصة تفوتنا بسبب تصويت عام 2014 على مبادرة الهجرة الجماعية، ولأننا فشلنا في التوقيع على بروتوكول كرواتيا. ولحسن حظ سويسرا، تمكنت حكومتنا من التفاوض على مشاركة جزئية، ونجح العلماء في جميع الجامعات والمعاهد السويسرية في الحصول على العديد من منح مجلس البحوث الأوروبي (ERC) ذات القيمة العالية. ويتمتع معهد فريدريش ميشر في بازل بأعلى معدل نجاح من بين جميع المعاهد البحثية في أوروبا لهذه المنح المرموقة. واليوم، ونحن نواجه تصويتاً آخر لتقييد الهجرة الوافدة إلى سويسرا، فإننا نجازف بقطعنا عن سبل التمويل الأكثر تنافسية والأكثر ربحاً، المتاحة للعلماء المبدعين في جميع أنحاء أوروبا.
التصويت بشأن تقييد الهجرة الوافدة إلى سويسرا
في 27 سبتمبر 2020، سيقرر الناخبون السويسريون ما إذا كان ينبغي تعليق اتفاقية حرية التنقل بين سويسرا والاتحاد الأوروبي. يُنظر إلى المبادرة، التي طرحتها الأحزاب اليمينية، على أنها حاسمة للعلاقات المستقبلية بين سويسرا غير العضو في الاتحاد الأوروبي والكتلة المكونة من 27 دولة. وهذه المبادرة هي واحدة من خمس قضايا سيتم البت فيها من طرف الناخبين.
التطلع إلى دوري أبطال أوروبا
هل يُعتبر عزل أنفسنا عن العالم مهماً؟ ماذا لو وزعت سويسرا على علمائها الأموال المخصصة “لشرائنا” في برنامج هورايزون أوروبا الجديد؟ ألن يكون ذلك أفضل؟
لا على الإطلاق – سنكون مثل فريق كرة قدم ثري في بلدة صغيرة يدرب لاعبيه بشكل جيد، لكنه لا يستطيع اجتذاب أفضل المدربين ولن يتأهل أبداً للعب في نهائيات الأمم. كيف سيكون حال كرة القدم عند هذا الفريق؟ بالتأكيد لن يكون جيداً. إن المنافسة في حد ذاتها، وحتى الجهد المطلوب للتقدم للحصول على إحدى منح مجلس البحوث الأوروبي، يرفع من جودة العلوم السويسرية، ويجذب أفضل العلماء الشباب إلى سويسرا، وهو ما يعكس الطبيعة البشرية: فالقدرة على التنافس بين مجموعة من 450 مليون شخص بدلا ً من 8 ملايين شخص، ترفع على الفور من درجة المغامرة والتحدي، ويطمح المرء إلى الوصول إلى مراتب أعلى وإلى آفاق جديدة. هذا هو جانب “قمة الجبل” لسويسرا: نريد أن نرى المزيد، أن نتسلق بشكل أسرع، وأن نصل إلى أعلى ما يمكن، وهذا ما ينبغي لنا فعله كلما استطعنا. ولكننا سنتمكّن من تحقيق الأمل في الوصول إلى هذا المستوى في العلوم، فقط من خلال المشاركة في المنافسة على مستوى أوروبا. إن عملية الاستعراض الدولية ستكون أكثر صعوبة، وسقف المطالب أعلى وسيتوجّب علينا أن نبذل جهداً أكبر. في المقابل، من خلال المشاركة في مجالس الاستعراض الدولية، يتم التعرف على العلماء السويسريين بشكل أفضل، وتقديرهم بشكل أكبر، وتحسين التواصل مع أقرانهم. وبدون العلوم الأوروبية، ستكون العلوم السويسرية مجرد ظل لما تطمح إليه فعلاً.
بناءً على ذلك، فإن مسألة ما إذا كانت سويسرا ستكون قادرة على التفاوض بشأن الارتباط التام ببرنامج “هورايزون أوروبا” ستكون مسألة معلقة، بينما يذهب السويسريون إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى في سبتمبر للتصويت على مبادرة “الهجرة المعتدلة” فما معنى ذلك؟
تعني “الهجرة المعتدلة” تجاوز ما يعتبر مقبولاً من قبل جيراننا الأوروبيين. إنني أحترم إرادة السويسريين في اتخاذ القرار المتعلّق بالهجرة بأنفسهم، لكن فقدان الترابط الدولي، وضمور دورنا الريادي الحالي في العلوم والتكنولوجيا، إضافة إلى الانعزالية التي ستنجم عن ذلك، كل هذه الأمور ستكون ثمناً باهظاً للغاية.
هل سنفقد “هويتنا” إذا حافظنا على سياسة منفتحة تجاه الأجانب؟ مطلقاً. فمنذ ولادة سويسرا الحديثة، وافقت أربع مجموعات لغوية وثقافية عبر اتفاق معلن على تقاسم العيش بمعايير مشتركة، دون أن تفقد هوياتها. ولقد عززت رغبتنا في الانفتاح على الآخَر، عبر 26 كانتوناً، اختلافاتنا بطريقة إيجابية.
باختصار، سويسرا ليست جزيرة ولا ينبغي أبداً أن تتصرّف أو أن تفكر، كما لو كانت كذلك. ولن نتمكن من الحفاظ على المعايير التي نشيد بها بكل فخر على أنها “سويسرية”، إلا من خلال التواصل التام مع جيراننا الأوروبيين والعالم بشكل عام. دعونا نفكر في قمم الجبال والبراغماتية والضيافة، لندرك مدى تشابك حياتنا الحديثة مع نسيج أوروبا. هذا هو السبيل الوحيد الذي سيمكننا من المحافظة على جودة حياتنا التي نتوق بشدة إلى حمايتها.
نُشرت النسخة الأصلية من هذه المقالة على مدونة مجلس العلوم السويسريرابط خارجي. ويعتبر المجلس هيئة استشارية للحكومة الفدرالية السويسري،تهتم بالتعامل مع شؤون التعليم العالي والبحوث ومسائل سياسة الابتكار التي تؤثر على سويسرا كساحة مهمة للمعرفة العلمية.
تقوم swissinfo.ch بنشر آراء حول مواضيع مختلفة، سواء حول قضايا سويسرية أو مواضيع لها تأثير على سويسرا. يرمي اختيار المقالات إلى تقديم آراء متنوعة بهدف إثراء النقاش حول القضايا المطروحة. تعبّر الأفكار الواردة في هذه المقالات عن آراء مؤلفيها فقط ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر swissinfo.ch.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"