لا مفر من أن يُطلق أحدٌ ما مسار السلام مثلما يبدأ أحدٌ ما مسار الحرب
على مدى عقدينِ من الزمن كانتِ الحربُ بعيدةً عن أوروبا، ثمَّ غزتِ القوّاتُ الروسيّةُ أوكرانيا يوم 24 فبراير 2022، فاستدعتْ منَ الذّاكرةِ سؤالًا أبديًّا: ما الذي يُمكنُنا أنْ نفعلَهُ منْ أجلِ السّلام؟ هذهِ رسالتُنا الاخبارية الدوريّةُ حولَ سلسلتِنا المخصّصة للجهود المبذولة لحفظ السّلام.
الكلماتُ التي وجّهَها الأديبُ النمساويُّ “شْتيفان تْسفايْغ” عامَ 1914 إلى الصِناعيِّ الألمانيِّ “فالتر راتيناو”، وذلكَ في أجواءِ الحربِ العالميّةِ الأولى، لم تفقِدْ شيْئًا منْ أهميّتِها المُلحّةِ: “أحدٌ ما يجبُ أنْ يبدأَ السّلامَ مثلما أحدٌ ما يبدأُ الحربَ”.
ولكنْ مَنْ هو ذلكَ الذي يبدأُ السّلام؟
منذُ سقوطِ جدارِ برلين لم يشهدِ العالمُ توتّراتٍ جيوسياسيّةٍ حادّةٍ مثلما يشهدُهُ اليوم، فبعدَ عقديْنِ منَ الزَّمنِ وضعَ هجومُ روسيا على أوكرانيا نِهايةً للسّلامِ الأوروبيِّ وزعزعَ اليقينَ. دولٌ تُعيدُ صياغَةَ سياستِها الأمنيّةِ وهنالكَ حلفٌ جديدٌ يتشكّل، بينما تغدو أزمةُ التعدديّةِ أكثرَ بروزًا.
سويسرا المحايدةُ أيضًا تكافحُ منْ أجلِ هُويّتِها. حِفظُ السّلامِ والأمنِ والمساواةِ في العالمِ، هي ركائزُ سياستِها الخارجيّةِ، بينما التّوسُّطُ في النّزاعاتِ يُعدُّ مجالًا تخصّصيًّا خاصًّا لفنونِها في التفاوضِ والعَلاقاتِ (Diplomatie).
ولكنْ ما الّذي يُمكِنُ فعلُهُ ضدَّ الحربِ؟
في سلسلتِنا المخصّصة لحفظ السّلام، نلتقي أُناسًا كرّسوا أنفسَهم لخدمةِ السّلام، مثلَ “إيريس بْروبْسْت” البالغةِ منَ العمرِ تسعةً وعشرينَ عامًا، والتي تدربّتْ لدى الجيشِ السويسريِّ منْ أجلِ الخدمةِ في بعثةِ السّلامِ في كوسوفو، وهي بذلكَ ليستْ استثناءً، حيثُ يُصبحُ الجُهدُ السويسريُّ من أجلِ السلامِ أكثرَ أُنثويّةً. في هذا الصددِ يقولُ “أندريْه شْتيرنيمان”، المقدَّمُ في هيئةِ أركانِ الجيشِ السويسريّ: “هنالكَ أُمهاتٌ أيضًا يتقدَّمْنَ للخدمةِ”.
مِنَ الّذينَ كرسّوا أنفسَهم للسّلامِ طَوالَ حياتِهِمِ المهنيّةِ “لاوْرنْت غوتْشَيْل”، رئيسُ منظمّةِ السلامِ السويسريّة، وهي منظمةٌ تعملُ من أجلِ السّلامِ بوسائلَ وطرقٍ مدنيّةٍ. غوتْشَيْل قالَ في مقابلةٍ معَ SWI swissinfo.ch: “إنَّ أبحاثَ السّلامِ تتقدّم. على مستوى طُرقِ التفاوضِ مثلًا تبيّنَ أنَّ جلبَ جميعِ الأطرافِ إلى طاولةٍ واحدةٍ هو في العادةِ ليسَ خِيارًا جيّدًا”.
المزيد
“دولة الإيثار غير موجودة”
ما إذا كان نساءٌ أو رجالٌ يُمسكونَ بمِفتاحِ السُّلطةِ، هلْ يلعبُ دورًا؟ معَ عالمةِ السياسةِ “لْياندْرا بْياس” ناقشْنا إلى أيِّ مدى تكونُ الحربُ مسألةً تخُصُّ الرجالَ وحدَهُم، وما الذي ستُسهِمُ بِهِ المشاركةُ المستَهدَفةُ للنّساءِ في صناعةِ السّلامِ. “بْياس” مقتنعةٌ بأنَّ النوعَ الاجتماعيَّ يلعبُ دورًا. على هذا النَّحوِ أظهَرتْ دراسةٌ بأنَّ السّلامَ الذي تشتركُ النّساءُ في التفاوضِ عليهِ يدومُ لفترة أطولَ، وبمعدَّلِ خمسةَ عشَرَ عامًا.
مَنْ يتفاوضُ دائمًا منْ أجلِ السّلامِ يقعُ في مُعضلةٍ أخلاقيَّةٍ. في هذا الشأْنِ يسألُ “بْيَيْر هاتْسَن”: كيفَ يتمُّ اختيارُ ذلكَ الثلثِ منَ الأسرى الّذينَ سيُطلَقونَ منْ مُعسكرٍ مُرعِبٍ؟ هاتْسَن، رئيسُ مستشاري مركزِ جنيفِ للحوارِ الإنسانيِّ، الذي نشرَ للتوِّ كتابًا عن تجاربِهِ في صُنْعِ السّلام: “التفاوضُ مع الشَّيطان”، يروي لنا عن النجاحاتِ والإخفاقاتِ في مسيرتِهِ المهنيّةِ.
المزيد
وسيط السلام بين مقوّمات النجاح ومعضلة الأخلاق
بقراءةٍ مُغايرَةٍ نوعًا ما وواقعية، ألقينا نظرةً على سياسةِ حِفظِ السّلامِ السويسريّةِ التي كثيرًا ما يَجري الاستشهادُ بِها.
تَلا ما يُمكنُ أنْ يكونَ النجاحُ الكبيرُ، وهو الوساطةُ في حربِ الجزائر، سلسلةٌ منَ الانتكاساتِ في أفغانستانَ وفي جَنوبِ أفريقيا الفصلِ العنصريِّ وفي حربِ الفوكلاند.
في الوقتِ الرّاهنِ تتعرضُ سويسرا ومساعيها الحميدةُ للمنافسَة. دولٌ أُخرَى اكتشفتْ أيضًا هذا الحقلَ منْ فنونِ التفاوضِ والعَلاقاتِ (Diplomatie) كأداةٍ لسياستِها الخارجيّةِ.
المزيد
سويسرا على الساحة الدولية: من مُستضيف لعمليات التحكيم إلى وسيط من أجل إحلال السلام
إنَّ عضويّةَ سويسرا في مجلسِ الأمنِ الدوليِّ ابتداءً منَ أول يناير 2023 هي أيضًا محاولةٌ للوقوفِ قليلًا بوجهِ هذهِ الخَسارةِ في النُّفوذِ والمكانةِ. ولكنْ هل يستطيعُ فنُّ التفاوضِ السويسريِّ والتصالُحيّةِ السويسريّةِ أنْ يفعلا شيئًا في نظامٍ جغرافي – سياسيٍّ تتزايدُ قُطبيتُهُ الثُنائيّة حدة؟
إنَّ طموحاتِ التفاوضيّةِ السويسريّة (Diplomatie)، كبيرةٌ على كلِّ حالٍ، والبعثة السويسريّة في نيويورك لا تريدُ أقلَّ منْ إنقاذِ القانونِ الدوليّ.
المزيد
كيف يُمكن لسويسرا المساعدة في استعادة الأمم المتحدة للبعض من مصداقيتها؟
القانونُ الدّوليُّ والتعدديّةُ مهددتانِ منْ قِبلِ الأنظمةِ الاستبداديّةِ الكبيرةِ، الصينِ وروسيا وحلفائِهما. ما مدى استقرارُ كيانِ هذِه الدولِ المبنيِّ على السّيطرةِ والرّقابةِ؟ وماذا يحدُثُ عندما يتخلّى بوتين، أو جي شينبينغ، عن السُّلطة؟
المحلّلُ السياسيُّ بْرِيان كارِلْسون، المتخصّصُ في شؤونِ الصّينِ وروسيا، لا يرى إلّا القليلَ منَ الأملِ في تغييرٍ جذريٍّ في الأنظمةِ الاستبداديّةِ الكبيرةِ، ويقولُ: “على الرُّغم منْ أنَّ الخلافةَ غيرُ منظمّةٍ في أيٍّ منْ هذهِ البلدانِ، فمِنَ المرجّحِ أنْ تحافظَ النُّظمُ على نفسِها”. حتّى أنّهُ، أيْ كارلْسون، يتوقّعُ تفاقُمَ القُطبيّةِ الثُنائيّةِ للحالةِ الجغرافية – السياسيّةِ أكثرَ.
المزيد
“الأنظمة القمعية سوف تظل قائمة حتى بعد وفاة بوتين وشي جين بينغ”
لم يستمع رجل الصناعة والمفكر الألماني راتيناو إلى شتيفان تسفايغ، الذي كان يتملكه يأس شديد من وحشية الحرب العالمية الأولى. في ذلك الوقت، قام المؤلف النمساوي، مع الكاتب الفرنسي رومان رولاّن، بشن حملة من أجل تشكيل دائرة من المثقفين الأوروبيين المستقلين الذين كان عليهم التدخل كوسطاء في الحرب العالمية. مع وضع هذا الهدف في الاعتبار، طلب من راتيناو إقامة اتصال مع المؤلف الألماني غيرهارت هاوبتمان، لكن راتيناو رفض الطلب في خريف 1914 قائلا: “في هذه الحرب هناك الكثير من الكلام والكتابة. مهما كانت الأسباب والأصول، فإن الكلمة الآن للشعوب، ولا صوت للفرد حتى تسكت هذه الأصوات”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.