“لا يُمكن أن تكون إسرائيل جواباً على كل الأسئلة”
يعمل إيف كوغلمان رئيساً لتحرير المجلة اليهودية الأسبوعية السويسرية "تاخلِص tachles". في الحوار التالي، يوضح رؤيته للذكرى المائة وخمسة وعشرين لانعقاد أول مؤتمر صهيوني في مدينة بازل، كما يتطرق للاعتداء عليه أثناء المظاهرة المؤيّدة لفلسطين.
swissinfo.ch: لقد كتبت جريدة “جيروزاليم بوست” أن الذكرى الـمائة وخمسة وعشرين لانعقاد أول مؤتمر صهيوني تعتبر مناسبة ليس لها مثيل في العقود الماضية. فكيف ترى الأمر؟
إيف كوغلمان: ليس تماماً. فمن ناحية، يعتبر هذا صحيحاً من وجهة نظر منظمي الحفل الداعين له؛ ومن ناحية أخرى لابد من وضع بعض الحقائق التي تمثل تجاوزات في نصابها: فحتى يوم الإثنين (29 أغسطس 2022) وإلى أن وصل الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى سويسرا، لم يكن هناك سطر واحد مكتوب في إسرائيل بشأن هذا الاحتفال التذكاري.
وهذا يتبع أيضاً منطق الواقع الإسرائيلي، الذي قلما يهتم بالصهيونية التاريخية. بل إنه يركز على الانتخابات المرتقبة والجدل الدائر في السياسة الداخلية. هذا هو مفهوم الصهيونية بالنسبة للإسرائيليين. فهم قلما يلتفتون إلى هرتزل أو بازل.
لقد كتبتَ بصورة استباقية، أنه من الثابت أن “الاحتفال بالذكرى الـمائة وخمسة وعشرين يُعتبر نسخة باهتة من الماضي، إلا أنها تكلفت أكثر من ستة ملايين فرنك”. فلماذا إذن؟
إن نظرة بسيطة على البرنامج والفعاليات مقارنةً بالمناسبة، توضح هذا الاستنتاج جلياً. فقد قدم الكثير من الشخصيات الهامة من المجتمع الإسرائيلي، ومن مجالات العلوم والاقتصاد والصناعة عالية التكنولوجيا. وقد ألقوا كلمات حول موضوعات شيقة للغاية. إلا أن المؤتمر الصهيوني الأول لم يكن نهاية، بل بداية لتطور يجب تأمله، كما يجب تبادل الآراء حول أهم قضاياه الراهنة والمتعلقة بالإرث اليهودي، والجماعات اليهودية وإسرائيل، وكل شيء.
ففي العقود التي تلت عام 1897، تطورت المؤتمرات لتصبح من حيث محتواها وكأنها برلمان لليهود ـ صحيح أنها لم تمتلك سلطة لاتخاذ القرار، لكنها كانت ذات سلطة فكرية هائلة. وكل من كان له مكانة واسم، حتى القامات الأكاديمية والروحية، شاركت فيه. لقد تباحثوا حول التراث اليهودي والمستقبل، ومكونات الثقافة والمجتمع اليهودي، وكذلك مكونات الرؤية والواقع اليهودي. وهذا التباحث يُعتبر قيمة كبرى تميز الصهيونية الحديثة بمفهومها الأصلي، والذي لا يكاد يُلحظ في الاحتفالية التذكارية. فما دار حوله الجدل في السابق في بازل وغيرها من المؤتمرات، لا يُعدّ في كثير من المجالات جزءًا من الماضي، بل من الحاضر.
ما الذي ينقص؟
البعض لا يرى أي نقص. والبعض الآخر ينقصه مساحة النقاش واستمرار الجدل الذي أثير أثناء المؤتمر. ذلك لأن برلمان إسرائيل، ليس برلمان يهود العالم، بل برلمان مواطني ومواطنات إسرائيل. حتى أن سوء الفهم كثيراً ما يسود العلاقة بين إسرائيل والمجتمع اليهودي على مستوى العالم. فبينما تشعر إسرائيل بصورة متزايدة أنها مسؤولة عن اليهود في أنحاء العالم، يرى اليهود في الشتات أن لديهم حاجة إلى الحديث عن العديد من الموضوعات. وهذه المساحة يجب إيجادها. ذلك لأن إسرائيل قد تُعتبر قصة نجاح، لكنها ليست جواباً على كل الأسئلة.
لاسيما فيما يتعلق بالموضوعات المسكوت عنها والسلبية. فالجماعات اليهودية في أكثر من مئة دولة تتبع الصهيونية أيضاً. وجميع أسئلتهم التي تتعلق بالتهديدات الخارجية والداخلية، والملاحقة، والإقصاء ـ بل وكذلك بإنجازاتهم ـ لم يتم تناولها في هذا المؤتمر.
لقد كان الكثير من وفود الشتات، القادمين من أمريكا الجنوبية أو حالياً أيضاً من شرق أوروبا على سبيل المثال، في حاجة إلى الحديث عن حقائق في حياتهم اليومية: مثل كيف يتم تنظيم وتمويل التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية في العالم اليهودي، وكيف يُمكن الحفاظ على برامج اللاجئين على المدى البعيد. فالمؤتمرات الصهيونية لم تكن أبداً مناسبات احتفالية بالطقس الجميل، بل كانت تناقش كل شيء. بما فيها المسائل الدينية، والتي لا تزال حتى اليوم واضحةً للعيان، خاصةً في العلاقة بين اليهود وإسرائيل.
أكد الكثير من المتحدثين على أهمية الشتات وحق الـ “عليا”، أي حق أي شخص يهودي في الهجرة إلى إسرائيل.
نعم. إن هذا الحق في الـ “عليا” (Aliyah) لجميع اليهود ينص عليه قانون في إسرائيل، التي هي بمثابة وطن لليهود. إن الـ “عليا” ـ وأنا لا أتحدث هنا عن الخبراء ولا عن الهجرة ذات الدوافع الصهيونية ـ والتي تعني هجرة اليهود إلى إسرائيل، تُعتبر حتى اليوم في بعض الأحيان الملجأ الأخير لبعض اليهود في هذا العالم. فحالياً، هناك موجات نزوح منظمة لجماعات يهودية، خاصةً من روسيا، وجزئياً من أوكرانيا. حيث يشكل هذان المجتمعان معاً أكبر جماعة يهودية في أوروبا.
أما في بولندا، والمجر فإن الجماعات اليهودية تواجه تحدياً يتمثل في مساندة آلاف من اللاجئين. لذلك، فإن برنامج المؤتمر الرسمي المقام في بازل يتناسب على الوجه الأمثل مع الذكرى المرتقبة لـ “مرور 75 عاماً على قيام إسرائيل”، ولكنه بصفة عامة قلما يتناسب مع الظرف التاريخي هنا، ومع مسألة، كيف يُمكن ترجمة مصطلح الصهيونية بمفهوم الحاضر، وبغض النظر عن الواقع الإسرائيلي. فمن سيقرأ بعد مئة وخمسة وعشرين عاماً عن هذه الاحتفالية، سوف يتساءل: ألم تكن هناك موضوعات أكثر إلحاحاً لمناقشتها؟
ألا تستهدف الصهيونية في الأساس إسرائيل بصورة حتمية؟
طبعاً. تستهدف إقامة إسرائيل ديمقراطية، كما عُبِّرَ عنها دائماً في المؤتمرات الصهيونية. لكن الديمقراطية تحيا بالنقاش، وبالتباحث حول المنافذ والحجج. ولقد التقى الجميع وجهاً لوجه في المؤتمرات الصهيونية ـ الصفوة، وممثلي الجماعات رجالاً ونساءً، وغيرهم. فمنظمة الصهيونية العالمية لا تزال قائمة، برغم وجود إسرائيل. ولديها أعضاء في جميع أنحاء العالم. ومن شأنها مناقشة ما ينبغي تناوله خارج البرلمان الإسرائيلي.
تظاهر 300 شخص في بازل ضد إقامة هذا الاحتفال التذكاري. ولقد رأينا لافتات تحمل عبارات تتبع لبعض نظريات المؤامرة المعادية للسامية، وسمعنا صيحات تنفي حق إسرائيل في الوجود. ولقد كنتَ على عين المكان. فهل توقعتَ، أن يصل الأمر إلى هذا الحد؟
بصفتي صحافي، فقد شاركت في الكثير من المظاهرات ويُمكنني لذلك تصنيف هذا الأمر ومقارنته: لقد سارت هذه المظاهرة بصورة سلمية، ولم يكن هناك ما يخالف القانون. لقد كانت بصفة عامة مقبولة. حتى وإن كنتُ أخالفها الرأي في الكثير من النقاط، وإن كنت أدين الاعتداء على الصحافيين.
لقد تعرضت أنت نفسك لاعتداء..
إن الاعتداء على الصحافيين، ليس مقصوراً على المظاهرات المؤيّدة لفلسطين. بل إن هذا الوضع يتزايد وقد تفاقم منذ الجائحة (الصحية). أما التناقض فيتمثل في أن المظاهرات تحاول في الأساس الوصول إلى الرأي العام، إلا أن بعض الحمقى يطأون هذا الرأي العام بالأقدام. برغم ذلك: لقد حاولت هذه المظاهرة، التعبير عن مطالب قطاعات من الشعب، والذين كانوا مشحونين عاطفياً، وهذا ليس فقط بسبب الاحتفال التذكاري.
المزيد
معاداة السامية عند اليسار، هل ما زالت من المحرمات؟
إنني أتفهم هذا، ولهذا أيضاً أهميته بالنسبة للموضوع، حتى بالنسبة لإسرائيل. ذلك لأنه كان واضحا للجميع بلا استثناء – وعلى الأخص في الحوار مع ممثلي الحكومة الإسرائيليين هنا في بازل – أن المسألة الفلسطينية تعتبر أحد الأفيال في الغرفة (كما يُقال). وكثيراً ما يرغب الأوروبيون في تناول هذا الأمر باستفاضة، أكثر من الكثير من الإسرائيليين، وهو ما يتضح كذلك في النقاشات التي تناولت المؤتمر. إلا أن الذكرى نفسها ليست بالضرورة الإطار المناسب، حتى بالنسبة للمسألة الفلسطينية.
هل يُعزى هذا لوجود تيارات صهيونية متباينة تتناقش هنا مع بعضها البعض؟
حسناً. لقد كنت أتمنى لو كان هناك المزيد من المشاركات والنقاشات حول هذا الموضوع، بدلاً من رفضه تماماً، وانتظار أن يقوم ممثلو سويسرا بذكره في كلماتهم بالحفل. حيث أن الصهاينة الليبراليين لم يتبنوا الفكرة الاستعمارية، بل كانوا يسعون إلى ترسيخ وطن يهودي، كمكان آمن لليهود رجالاً ونساءً. ففي كتابه “البلد القديم الجديد” وكتاباته اللاحقة كان تيودور هرتزل يسعى لإقامة مجتمع لا يُقصي أحداً. ولكن الواقع كان مختلفاً إلى حدٍ ما.
إذن، فاليهود دُفعوا آنذاك بسبب عواقب النازية نحو الصهيونية دفعاً. وصحيح أن كتابات هرتزل قد فرضت نفسها في الحركة الصهيونية، لكن لابد أيضاً من التأكيد على ما يلي: لم يكن هرتزل نبياً، بل كان صحافياً، أصبح براغماتياً للسياسة الواقعية. أما مفهوم الصهيونية، وما تحققه، فهو ما يجب مناقشته مجدداً في كل عقد.
اقرأ كذلك تقريرنا حول ذكرى مرور 125 عاماً على المؤتمر الصهيوني الأول في بازل:
المزيد
كيف تنظر الحركة الصهيونية في مدينة بازل السويسرية إلى مستقبل إسرائيل؟
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.