“ليبيا لن ينقذها سوى بناء مؤسسة عسكرية قوية”
مع مغادرة مئات الآلاف من العمال الأجانب والدبلوماسيين العاصمة الليبية طرابلس نحو جزيرة جربة التونسية، بدت ليبيا مثل ساحة مصارعة رومانية تتم تهيئتها لمعركة فاصلة بين خصمين لَـدودَين.
في هذه الأجواء القاتمة، بات التشاؤم هو السِّمة الطاغية على قِراءات المحلِّلين العارفين بأمور البلد، والذين يضعون سيناريو الحرب الأهلية في مقدّمة الاحتمالات، على رغم توصّل البرلمان الأول بعد الثورة، إلى الاجتماع مؤخرا في مدينة طبرق (1500 كيلومتر شرق طرابلس) في حضور 173 نائبا (من أصل 188) ومقاطعة خمسة عشر نائبا مقرّبين من “حزب العدالة والبناء”، الذراع السياسية لتنظيم الإخوان المسلمين وغالبيتهم من مدينة مصراتة المعروفة بشدة محافظتها.
والظاهر، أن المخاوف من شبَح الحرب الأهلية باتَت متأصلة لدى غالبية سكان المدن، إن في شرق ليبيا أو غربها، وهو ما حملهم على السيْر في مظاهرات حاشدة في أواخر الشهر الماضي وبداية الجاري، من أجل المطالبة بوقف إطلاق النار وإخراج التشكيلات المسلّحة من المدن بشكل فوري، ولكن أيضا من أجل منح الدّعم للبرلمان الجديد المُنتَخب في الخامس والعشرين من يونيو الماضي “للقضاء على الإرهاب”، في إشارة واضحة إلى الجماعات المسلحة.
وللمرة الأولى منذ تغوّل الميليشيات طيلة السنتين الأخيرتين، تفجّر الغضب الشعبي، سواء في بنغازي عندما توجّه المتظاهرون من شارع الاستقلال إلى مستشفى الجلاء، حيث طردوا عناصر تنظيم “أنصار الشريعة”، أم في طرابلس، حيث قادت “حركة تمرّد 30 يونيو” مظاهرات لدعم الجيش الليبي، متمسِّكة بوِحدة البلد ومؤكِّدة أن لا شرعية غيْر شرعية البرلمان المُنتخَب.
وأيا كانت المدينة، يلحَظ المراقِب مَرارة في كلام اللّيبيين الذين يعتبرون أن المجتمع الدولي تخلّى عنهم، ما جعلهم “يتصدّون للإرهاب بمُفردِهم”، تاركا المدنيين “يرزحون تحت القصف ويواجهون الدمار”، على ما قال لـ swissinfo.ch عيسى العبيدي، الذي وصل إلى تونس مع أسْرته.
ثلاثة مجالس
عرفت ليبيا ثلاثة مجالس منذ اندلاع ثورة 17 فبراير 2011 ضدّ حكم العقيد معمر القذافي. الأول، هو المجلس الوطني الانتقالي، الذي اختير أعضاؤه بالتوافُق وترأسه القاضي مصطفى عبد الجليل، وزير العدل في عهد القذافي. وانتهى دور هذا المجلس مع انتخاب المؤتمر الوطني العام (برلمان انتقالي)، الذي ترأسه محمد المقريف ثم نوري بوسهمين، وكان يضم مائتي عضو، غالبيتهم من العناصر القريبة من التيارات الإسلامية. وشكل تصديق “المؤتمر” على قانون العزْل السياسي الذي حرم جميع السياسيين والإداريين، ممّن عملوا في الدولة على أيام القذافي من النشاط السياسي، انعطافا في المسار الانتقالي، إذ غادرت الساحة بموجبه قيادات بارزة، بينها رئيس “المؤتمر” نفسه محمد المقريف، وهو من معارضي القذافي الأساسيين.
أما “مجلس الشعب”، فهو الاسم الجديد للبرلمان في ليبيا، الذي تميل كفة الموازين داخله لصالح القوى الليبرالية على حساب حزب العدالة والبناء الإسلامي. وذهب كثير من المحلّلين إلى القول أن الحرب الدائرة بين ميليشيات الزنتان ومصراتة للسيْطرة على مطار طرابلس، هي امتداد للصّراع بين الليبراليين والأصوليين وأنها محاولة لعرْقلة تركيز مؤسسات شرعِية مُنتخَبة، ما حمل مجلس الشعب على عقد جلسته الأولى في طبرق، وليس في طرابلس أو بنغازي، مثلما كان مقررا.
ولا يكتمل المشهد من دون الإشارة إلى لجنة الستّين المكلّفة بكتابة دستور ليبيا الجديد، والتي يرأسها فضيل الأمين، وقد اختارت أن تجتمع في مدينة البيضاء (شرق)، وهي العاصمة الصيفية لملك ليبيا الراحل إدريس السنوسي، والبعيدة عن بُؤَر التوتُّر الحالية في الغرب والشرق.
تصفية المثقفين
ورأى زميله مصباح الورفلّلي أن رموز المجتمع المدني، الذين لعبوا دورا أساسيا في إنجاح الثورة ثم في توجيه بَـوْصلتها بعد التخلّص من نظام معمر القذافي، باتوا مُستهدَفين من الجماعات المتشدِّدة، التي تسعى لإجهاض مسار الانتقال الديمقراطي انطلاقا من أن “الديمقراطية بِدْعة”، فراحت تُصفّي تلك الرموز، وآخرها فريحة البركاوي، عضو المؤتمر الوطني العامرابط خارجي عن مدينة درنة (شرق)، التي اغتالها مجهولون في محطة للبنزين، بعدما لعبت دورا بارزا في تأسيس جمعيات أهلية عدة في درنة، وهي أيضا من القيادات الكشفية البارزة فيها. وأتى اغتيالها بعد أربعة أسابيع من تصفية المحامية المعروفة سلوى بوقعيقيس، عضو المجلس الوطني الانتقالي، بطلْـق ناري في يوم الاقتراع لانتخاب أعضاء مجلس النواب يوم 25 يونيو 2014.
هل نحن بإزاء سيناريو شَبيه بالمِحنة التي عرفتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأ المتشدِّدون باغتيال المثقفين، قبل غوْص البلد برمَّته في صِراع أهْـلي دَموي استمرّ عشرة أعوام؟ الأرجح، أن الوضع الليبي أخطر من الحالة التسعينية الجزائرية لسبب أساسي، هو أن الجيش في الجزائر ظلّ متماسِكا، لا بل هو بقِي العَمود الفِقري للدولة، فيما قضى القذافي على الجيش الليبي قضاءً مبرما.
وفي هذا السياق، شرح لويز مارتينز، الباحث المتخصّص في الشأن الليبي لـ swissinfo.ch خصوصية المسار الذي مرّت منه المؤسسة العسكرية الليبية، فقال “على عكس دولٍ كالجزائر ومصر، لم تعتمد السلطة الليبية على جيش قوي قَـطّ، وإنما على قواتٍ شِبه عسكرية، وقد ضمنت تلك القوات بقاء الجماهيرية إلى سنة 2011. ومنذ سنة 1987 بدأت الميليشيات تفوق الجيش أهمية، إذ أصبح الجيش وصْمَة عار بعدَ هزيمته في تشاد وإخفاقه في التصدّي للقصف الأمريكي لكلٍّ من طرابلس وبنغازي.
وساهمت العقوبات المفروضة على ليبيا بين 1991 و2003 في انهيار الجيش، الذي حُرم من الموارد اللازمة لصِيانة مُعدّاته العسكرية. ولذلك، فقَـدَ عناصِره الخمسة وأربعين ألفا، ما تبقّى لهم من أهمية ومكانة. ومن ثَـمَّ ألْـغِيت وزارة الدفاع في 1991 ولم تتِم تعبِئة الجيش لمواجهة الجماعات الإسلامية في الفترة ما بين 1993 و1998. وجاءت محاولات الانقلاب العسكري بين 1993 و1995 لتفقد الجيش مكانته نهائيا لصالح الحرس الثوري والجماعات شِبه العسكرية المُدافِعة عن النظام.
ميليشيات بدل الجيش
وأضاف مارتينز، وهو مدير بمركز الدراسات والأبحاث الدولية رابط خارجيCERI وأستاذ بمعهد الدراسات السياسية بباريس، أنه “بين مقتل القذافي والانتخابات، حلّت الميليشيات محلّ الأجهزة الأمنية السابقة، لتضفي على الدولة الليبية طابَع الميليشيات المَوْروثة من عهْد القذافي. فقد كان هذا النظام قائما على التوازن بين القوات شِبه العسكرية المُؤلّفة من تشكيلة معقّدة وحسّاسة، تسمح بمشاركة القبائل المؤيِّدة للنظام وإدماجها. وكان يُنظر إلى الجيش بوصفه خطَرا ينبغي تحييده، حتى لو تطلَّب ذلك إضعافه وجعْله غير كُفْء من الناحية العسكرية. ومن هذا المنظور، لم يتسنَّ للجيش التّرويج لقِيَـمه ومصالحه ككِيان أو مؤسسة بكل معنى الكلمة، على غِرار مؤسسات عسكرية أخرى في المنطقة، أو أن يُطوّر اقتصادا في المجتمع، يسمح له بصرف مخصّصات للعاملين فيه بعد نهاية خِدمتهم وتكوين شبكة نفوذ”.
على هذا الأساس، يبدو أن مصير البلد على كفوف الميلشيات المتناحِرة، وهو ما يفسّر الهروب الكبير من ليبيا للمصريين والفلبينيين والمغاربة والأوروبيين الشرقيين، بل لسكّان البلد أنفسهم نحو تونس، التي باتت رِئة التنفّس الوحيدة بعد غلْق دول الجوار الأخرى حدودها مع ليبيا. وكان مازن أبو شنب، رئيس مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بتونس، الذي زار مؤخرا معبرَيْ راس جدير وذهيبة، توقع موجة هجرة كبيرة من ليبيا وحضّ على وضع استراتيجيا لاحتواء الموقِف، في حال تكاثف تدفّق اللاجئين على تونس.
وفي هذا المشهد، يبدو عقيلة صالح عيسى، رئيس مجلس الشعب المُنتخَب أضعف من أمراء الميليشيات، بينما يُفترَض أن يكون أقوى شخصية في الدولة، وهو الذي يستمِدّ هيبته من شرعية صناديق الاقتراع، وليس من عدد الصواريخ والدبّابات التي توجد تحت إمرة رجاله.
دعم دولي
طبعا، رحّبت القوى الدولية المؤثرة بنتائج الانتخابات، وخاصة باجتماع أعضاء مجلس الشعب وانتخاب رئيسه في شخْص عقيلة صالح عيسى، بعد أربعة عقود من حُكم القذافي، الذي نص كتابه الأخضر القائم على ما أسْماه “النظرية العالمية الثالثة” على أن “التمثيل تدجيل” وعلى أن لا حُكم سوى حُكم الشعب. وأتى الدّعم من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا في بيان مُشترك. ولذا، اعتُبِرت الانتخابات “خطوة مهمّة في مسار نقل ليبيا من بلد غيْر مُستقِر ومُتدهْوِر أمنيا وفي طريقه إلى التقسيم، إلى بلد يحتكم إلى صناديق الاقتراع، وليس إلى فوهات البنادق والمدافع لتسوية الخلافات بين أبناء الوطن الواحد”، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة. لكن هل أبعَد النجاح النِّسبي للمسار الانتخابي، شبَح التقسيم والحرب الأهلية عن ليبيا؟
المزيد
انتخابات برلمانية قد تشكّل منطلقا لإعادة بناء مؤسسات الدولة المتآكلة
لاشك بأن تِرسانة الأسلحة الضّخمة المُكدَّسة في البلد والتي تجمَع بين الأسلحة الخفيفة وصواريخ أرض جَو، التي يصل عددها إلى أربعة آلاف صاروخ وأكثر من سِتة آلاف برميل من بودرة اليورانيوم الصفراء الجاهزة للتخصيب، إضافة لآلاف الدبّابات والمدرّعات، تُثير مخاوف عميقة لدى جيران ليبيا، وبالذات الجزائر ومصر. فالأخيرة تدعَم القِوى الفدرالية، بينما تضايقت الجزائر من سيْطرة الجماعات الأصولية على المجلس الانتقالي ثم على المؤتمر الوطني العام وعلى الحكومة التي قادها عبد الرحيم الكيب.
وتعاني تونس من إفلات عناصِر تنظيم “أنصار الشريعة” المحظور من أصابع الأمن والقضاء نحو ليبيا، فيما هم يُهرِّبون منها الأسلحة إلى الجبال لاستِهداف عناصر الجيش والشرطة. وعلى خلفية تزايد تلك المخاوف وغياب جيش قوي في ليبيا، توقّعت مجلة “فوربس” الأمريكية أن تشهَد أواخر العام الجاري تدخّل دول، منها الجزائر ومصر وتشاد وفرنسا والولايات المتحدة، “للدفاع عن نفسها ضدّ أية هجمات محتملة”. وطلب رئيس حكومة تصريف الأعمال عبد الله الثني رسميا من الولايات المتحدة التدخّل لحسْم الموقف العسكري ضد “المارقين عن القانون”، في إشارة إلى الجماعات المسلحة، بيْد أن المسؤولين الثلاثة الذين اجتمع معهم، أكَّدوا على أن الحلّ في ليبيا يُمر عبْر جلوس جميع الفُرقاء، بمن فيهم الإسلاميين، على مائدة الحوار. والتقى الثني يوم الاثنين الرابع من الشهر الجاري، كلا من جون كيري وسوزان رايس وديبورا جونز بشكل منفصِل، بمناسبة حضوره القمة الأمريكية الإفريقية في واشنطن.
محور جزائري – مصري؟
وعلى الصعيد الإقليمي، رصد الإعلامي الجزائري سعيد واكلي تبلْـوُر “مِحور جزائري مصري”، قال إن لبناته وُضِعت خلال زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للجزائر في يوليو الماضي، والتي كانت أول جولة أدّاها للخارج بعد انتخابه. وأكد واكلي أن التعاون والتنسيق الاستخباراتييْن تكثّفا بعد تلك الزيارة وتبادل خبراء أمنيون زيارات دورية خلال الأسابيع الأخيرة، في أعقاب اكتشاف الجيشيْن، الجزائري والمصري، خططا لجماعات مسلّحة تستهدِف مُنشآت في البلدين، لم تحددها المصادر بالإسم.
وأفادت صحيفة “الوطن” الجزائرية، الناطقة بالفرنسية، أن ضبّاطا في مخابرات البلديْن وضعوا خارِطة طريق لتعاون أمني استراتيجي بينهما. وكان الناطق باسم الجيش الليبي محمد البشير قال في تصريحات صحفية “إذا خسرت السلطات الليبية المعركة ضد المسلّحين في طرابلس، سيُفتح الباب لارتكاب اعتداءات إرهابية في الجزائر ومصر وتونس”. ويعني هذا، أنه إذا ما كسرت الدولة الليبية القيود التي تكبِّل عملها، لن تكون هناك حاجة لتدخّلٍ خارجي، أما إذا ما ثبت أنها باتت دولة فاشِلة وتصاعَد القتال بين عناصر الميليشيات، فسيتكاثف تدفّق الليبيين والمقيمين الأجانب من العمّال والكوادِر على المعبريْن الحدوديين الوحيدين مع تونس، وتفكّر عندئذ دول الجوار والقِوى الكبرى في سيناريو للتدخّل المباشِر أو بواسطة ضربات جوية وبحرية.
وأوضحت “الوطن”، أنه إذا ما تمّ اللجوء لضربات جوية دعما للجيش الليبي في مواجهة الميليشيات، فسيكون مجال عمل الطيران الحربي الجزائري في محيط طرابلس ويكون نِطاق تحليق الطيران المصري في منطقة بنغازي. واضطرت الجزائر بحسب “المعهد الأمريكي للدّفاع والأمن”، لإنفاق ملياريْ دولار لمواجهة الأوضاع المستجدّة على حدودها مع ليبيا منذ 2011، بما فيها نقل الجنود وعناصر الاستخبارات والمعدّات إلى مناطق قريبة من الحدود المُشتركة مع ليبيا، وإقامة قواعد دائمة في تلك المناطق.
غير أن اللاّفت للنظر هذه المرة، هو أن الشارع في كلٍّ من طرابلس وبنغازي، أخذ يتحرّك نحو نوع من الثورة الجديدة، باحِثا عن الأمن المفقود والدولة الموْعودة، فيما لوحظ أن مصطفى عبد الجليل، الرئيس السابق للمجلس الوطني الانتقالي حذّر بقوة في مقابلة صحفية، من تقسيم ليبيا ووضْع دول يدها على أجزاء منها، في حال استمر الوضع على ما هو عليه.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.