نَبرة ترامب المُتشددة تُلقي بظلالها على الروابط الوثيقة بين الولايات المتحدة وجنيف
ترك وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مدينة جنيف في حالة من القلق بشأن سياسة واشنطن المُستقبلية حيال منظومة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية التي تتخذ من سويسرا مقراً لها. ومع تَلَبُد الأجواء السياسية بالمزيد من الغيوم، تلقي swissinfo.ch نظرة على التاريخ الوثيق والمتشابك بين الولايات المتحدة و‘جنيف الدولية’.
بعد خمسة أسابيع من وصوله إلى البيت الأبيض، توحي التصريحات الصادرة عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والسفيرة الجديدة لواشنطن في الأمم المتحدة نيكي هالي بأن المنظومة الأمَمية (والنظام المُتعدد الأطراف بشكل عام) تتجه نحو علاقة صعبة مع الولايات المتحدة. وكما يبدو، فإن ترامب الذي يَجهَر بشعار”أمريكا أولاً” لا يثق بالتعاون الدولي ويزدري هذه الهيئة العالمية.
The United Nations has such great potential but right now it is just a club for people to get together, talk and have a good time. So sad!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) December 26, 2016رابط خارجي
“لدى الأمم المتحدة إمكانيات كبيرة جداً، لكنها حالياً ليست أكثر من نادٍ يَجتَمع فيه الأشخاص لتبادل الحديث وقضاء وَقت مُمتع. هذا مُحزن جداً!”
وفي الوقت الراهن، تلوح إمكانية خَفْض المساهمة المالية الأمريكية في الأمم المتحدة في الأفق، كما يبدو خروج الولايات المتحدة من بعض المعاهدات المُتعددة الأطراف أمراً مُحتملاً. ويوم الأربعاء 1 مارس، قالت إيرين باركلي، نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي أمام مجلس حقوق الإنسان إن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تُراجع مشاركتها في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة سعيا لإصلاح أجندته وإنهاء “وسواس إسرائيل”، على حد تعبيرها.
استخلاص الدروس من التاريخ
هذه التطورات الأخيرة أدت إلى شعور بعدم الإرتياح في جنيف، التي تروِّج لنفسها بوصفها ‘مركزاً عالمياً للتعاون الدولي’ والحوكمة. وبرغم ما يدور من شائعات، يرى جوسي هانهيماكيرابط خارجي، أستاذ التاريخ الدولي في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنميةرابط خارجي، بأن على الناس الإحتفاظ بهدوئهم، مُشيراً إلى تقديم التاريخ لبعض المؤشرات الجديرة بالإعتماد.
“هذه ليست ظروفاً لا سابقة لها، وهي ليست المرة الأولى التي تُهَدِّد فيها الولايات المتحدة بالإنسحاب. فقبل عهد أوباما، كانت هناك الأزمة الأحادية الجانب في سنوات حكم جورج دبليو بوش، والتي وُفِقنا بتجاوزها بطريقة أو بأخرى. العالم لم ينهر حينئذٍ. ثم كانت هناك مشاكل أيضا في عهد رونالد ريغان، كما لجأت الولايات المتحدة في الماضي أيضاً إلى تعليق مساهماتها المالية لفائدة منظمات مثل اليونسكو، وكالة الامم المتحدة المعنية بالتربية والعلوم والثقافة”.
هذه النبرة الهادئة والمُستَرخية لا يتقاسمها الجميع. فعلى الجانب الآخر، يشعر دانيَل فارنَر، إختصاصي العلوم السياسية السويسري-الأمريكي بالقلق بشأن ما يسميه بـ “تسونامي ترامب” الذي يُهدد جنيف الدولية. وبرأيه، من المُهم أن نُذَكِّر أنفسنا في هذه الأوقات المُتقلبة بالتاريخ والقيَم الوثيقة التشابُك بين الجمهوريات الشقيقة أمريكا وسويسرا، وجنيف.
وكان فارنَر قد ساعد في إنتاج كتاب حول هذا الموضوع بالذات في عام 2011، يبحث في عدد من التأثيرات بدءاً من ‘نسخة جنيف من الكتاب المقدس’ ووصولاً إلى فاعلي الخير من أمثال بيل غيتس ومؤسسته (انظر معرض الصور أدناه).
المزيد
ما بين الولايات المتحدة وجنيف.. أحداث بارزة ومعطيات هامة
للعلم، كانت المدينة السويسرية الدولية قد إستضافت لحظات مهمة في التاريخ المشترك بين الدولتين. وفي دار البلدية بجنيف، أحد أقدم وأهم المباني في المدينة، وخَلْفَ باب خشبي مُنفصل يمكن الوصول إليه عبر الساحة الرئيسية للمبنى، تقع قاعة آلاباما التي شهدت في عام 1872 جلسات التحكيم لِحَل نزاع كبير بين الولايات المتحدة وبريطانيا، يتعلق بالأضرار التي تسببت بها السفينة آلاباما التي بيعت للولايات الكنفدرالية الأمريكية والدعم البريطاني للولايات الجنوبية خلال الحرب الأهلية. كما اعتُمدت اتفاقية جنيف الأولى في هذه القاعة أيضاً في عام 1864.
قاعة آلاباما
“وهكذا نجد لدينا في قاعة آلاباما بدار البلدية في قلب مدينة جنيف القديمة، بداية إجراءات التحكيم من قبل طرف ثالث، والقانون الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف”، بحسب فارنَر، الذي شغل سابقا منصب نائب مدير المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف
هذه الأفكار والقيم الوثيقة الإرتباط بالحياد السويسري، كانت أساسية في مساعدة الدبلوماسي والأكاديمي السويسري وليام رابّار على إقناع الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون بنقل مقر عصبة الأمم رابط خارجي(التي كانت سلفاً للأمم المتحدة) إلى شواطئ بحيرة ليمان في أكتوبر 1920، الأمر الذي كان يعود في جزء منه إلى إصرار ويلسون. بَيد أن الولايات المتحدة لم تكن إحدى الدول الأعضاء الـ 41 الحاضرة في حفل الإفتتاح، بسبب رفض مجلس الشيوخ الأمريكي آنذاك مشاركة الولايات المتحدة الرسمية.
“مع ذلك، إحتفظت الولايات المتحدة ببعثة دبلوماسية بجنيف في حقبة العشرينات والثلاثينات، كان لها صفة المراقب، وكانت تعمل بنشاط على الرغم من موقفها المُنعَزِل رسميا”، كما يقول البروفسور الفنلدني هانهيماكي.
الولايات المتحدة هي التي تحرر الصكوك
تُعتَبَر الولايات المتحدة المُساهم الأكبر في ميزانية منظمة الأمم المتحدة، مع تشكيلها لنسبة 22% من الميزانية التشغيلية الرئيسية للمنظمة البالغة 5,4 مليار دولار، و28% من ميزانية الأمم المتحدة لحفظ السلام والبالغة 7,9 مليار دولار.
علاوة على ذلك، فإن واشنطن هي المانح الأكبر أيضاً للعديد من المنظمات الدولية، مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين واللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة التجارة العالمية التي تقع مقراتها جميعاً في جنيف.
الناقد والمستفيد
وبالرغم من الموقف العاجز لعُصبة الأمم في مواجهة الأحداث التي أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، لكن فكرة التعاون الدولي والمنظمات الدولية لم تفقد الحياة. وهنا “تكمن المفارقة في أن الأمم المتحدة ما كانت لتكون موجود أصلاً لولا الولايات المتحدة”، كما قال البروفسور الفنلندي.
وبالنتيجة، أصبح الرئيسان الأمريكيان فرانكلين روزفلت وهاري ترومان “المُصَمميْن الرئيسيين” لمنظمة الأمم المتحدة التي وُلِدَت من وسط أنقاض الحرب العالمية الثانية. لقد “كانت أمريكا هي من قاد النظام الدولي. ولقد تم تأمين المنظومة من قبل الولايات المتحدة بالأساس”، على حد قول هانهيماكي، الذي أضاف أن “القوة العظمى كانت المستفيد الأكبر من الأمم المتحدة دائماً، ولكنها كانت واحدة من أعتى مُنتقديها أيضاً”.
“القواعد الأساسية للأمم المتحدة مُفيدة جداً لأمريكا. صحيح أن المساهمات المالية لواشنطن تفوق ما تدفعه الدول الأخرى، ولكن هذا يَمُدّها بنفوذٍ كبير أيضاً. الولايات المتحدة لن توافق مطلقاً على تغيير الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن [الولايات المتحدة، وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا] وحقوق النَقض. إنهم سُعداء بالإبقاء على الوضع الراهن، وهذا حالهم مع منظمة حلف شمال الأطلسي أيضاً. أنهم فرحون بكونهم من أشد مُنتقدي هذه المنظمات حتى يبلغوا المرحلة التي يدركوا فيها مدى التغيير الحَتمي الذي سيخلفه تغيير هيكل التمويل على نفوذهم”.
وكما أضاف هانهيماكي، تجد الولايات المتحدة أهمية في منظومة الأمم المتحدة، ولكن جنيف الدولية على الجانب الآخر ليست مسألة كبرى في واشنطن. ومن النادر أن تحتل منظمات تستضيفها جنيف مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومنظمة التجارة العالمية عناوين وسائل الإعلام الأمريكية، لكنها تظل أداة ناجحة جداً مع ذلك.
قمم ومؤسسات
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومع ظهور الحرب الباردة، إضطلعت جنيف وسويسرا المحايدة بدور جديد للولايات المتحدة باعتبارها مَحفَلا مُهما لمناقشة قضايا الأمن والسلام. وهكذا شهِدَت جنيف عقد محادثات رئيسية، مثل مؤتمر جنيف حول الهند الصينية (1954)، وقمة جنيف [أو قمة الكبار الأربعة، الرئيس الأمريكي دوايت آيزَنهاوَر، رئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدَن، رئيس مجلس وزراء الإتحاد السوفياتي نيكولاي بولكانين ورئيس وزراء فرنسا أدغار فور في يوليو 1955]، واتفاقيات هلسنكي (1973-1975)، وقمة جنيف بين الرئيسين رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف لإنهاء سباق التسلح خلال فترة الحرب الباردة (1985)، والمحادثات بشأن البوسنة والهرسك (1991)، ومؤتمر جنيف حول العراق والكويت (1991)، وعملية السلام الفلسطينية-الاسرائيلية المعروفة باسم مبادرة جنيف (2003)، والمحادثات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني (2013) وأخيراً محادثات جنيف حول سوريا (في الأعوام 2012، 2014 و2016-2017).
علاوة على ما سبق، كان لعدد من الشخصيات والمنظمات الأمريكية الأخرى أثر كبير على جنيف الدولية، ولا سيما خلال القرن الماضي. ويتضمن هؤلاء أصحاب الأعمال الخيرية مثل جون دافيسون روكفلر رابط خارجيالإبن، الذي تبرَّع بمبلغ مليوني دولار لبناء جناح في مقر قصر الأمم المتحدة لإقامة مكتبةرابط خارجي. كما لعبت مؤسسة فورد رابط خارجيومنظمة الروتاريرابط خارجي الدولية ومؤسسة كارنيغي رابط خارجيللسلام الدولي دوراً رئيسياً في دعم الوكالات الدولية التي تستضيفها جنيف. واليوم، تلعب مؤسسة بيل وميليندا غيتس رابط خارجيهذا الدور من خلال نشاطاتها الواسعة مع منظمة الصحة العالمية.
والسؤال الآن هو: ماهو الأثر الذي قد يتركه عهد دونالد ترامب على جنيف؟
لا يُمكن التنبؤ به
يرى هانهيماكي أنه من الصعب جداَ التنبؤ بتغيرات مُحددة، ولكن هناك شيء واحد مؤكد: “بتخميني، فإن جزءا كبيراً من خطاب ترامب هو للإستهلاك المحلي، ولا حاجة هناك للذعر فورا”، وفقاً للأستاذ في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية.
لكن فارنر لا يوافقه الرأي. وهو يُعرِب عن قلقه من مقاومة ترامب لمفاهيم تتعلق بالسياسة الخارجية مثل التعاون الدولي والحياد واتفاق الآراء، التي تشكل بمُجمَلِها حَجَر الأساس لمكان مثل جنيف. ومن المُحتَمل أيضاً – حسب رأيه أن تكون بعض الوكالات الأممية المُتخصصة مُعرَّضة لفقدان كامل الدَعم المالي من طرف الولايات المتحدة، إلا أن “المُشكلة تكمن في أن جدوَل أعمال ترامب لا يَهتم كثيراً بالتاريخ”، على حد قوله.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.