لهذه الأسباب توقّـف مسار التصويت الإلكتروني في سويسرا
يُمكن القول اليوم أن تاريخ التصويت الإلكتروني في سويسرا ليس سوى تاريخ حلم جريء تعرّض لعملية هبوط اضطراري. فقد أصبح مصير هذا المشروع أكثر من مجهول بعد أن نجح المتشككون في مساعيهم وتمكنوا من إيقاف المسار. في هذا السياق، أجرينا مع البعض منهم هذا الحوار.
في الوقت نفسه، يُبيّن الجدل القائم حول التصويت الإلكتروني الكيفية التي تشتغل بها الديمقراطية المباشرة في سويسرا. وفيما يلي نستعرض باختصار خلفية هذا الجدل:
قامت الحكومة بعرض المشروع. وسريعاً ما أعرب المعارضون، وكانوا في هذه الحالة من خبراء تكنولوجيا المعلومات، عن تشككهم وانتقادهم.
ومن ثَمَّ نشأ جدل انفعالي، بين السياسيين، وممثلي السلطات الحكومية، وبين خبراء تكنولوجيا المعلومات. وأدى هذا السجال إلى التوصل إلى قرار قائم على حقائق ثابتة.
أما الحجة التي لاقت قبولاً فكانت: إن فرصة وقوع تلاعب في الأصوات كبيرة جداً (في التصويت الإلكتروني)، بحيث أنها تهدد بكسر العمود الفقري لسويسرا، أي الديمقراطية المباشرة.
ولكن من الديمقراطية أيضا أن يعرف المرء أنه لا يُوجد قرار محفور في الصخر للأبد.
ومن المتشككين في نظام التصويت الإلكتروني السيدان إيرناني ماركيز وأدريان آولباخ. يعمل ماركيز كمختص في علم اللسانيات الحاسوبية، وفي علم الاجتماع والمعلوماتية العصبية ويشغل كذلك منصب عضو مجلس إدارة لـ “نادي فوضى الحاسوب بسويسرا”. وهو ينحدر من مدينة زيورخ. أما السيد آولباخ فهو مبرمج ومرشح عن حزب الخضر في الانتخابات البرلمانية القادمة (أكتوبر 2019). ويتحدث ابن ريف كانتون برن هذا، بصفته مختصا في علم البرمجيات.
رينات كوينسي، الصحفي بـ swissinfo.ch والمختص بشؤون الديمقراطية المباشرة، أجرى هذا الحوار مع الرجلين حول شكوكهما.
swissinfo.ch: لماذا كل هذا الجدل الدائر حول التصويت الإلكتروني؟ هل يتعلق الأمر بأمن البيانات أم بالثقة في الديمقراطية المباشرة؟
إرناني ماركيز: يتعلق الأمر في المقام الأول بالثقة. فمع الانتخابات التقليدية الحالية المعتمدة على البطاقات الورقية، يمكن لأي إنسان بسيط فهم الخطوات الأساسية. كما يستطيع المرء في حالة الشك إعادة العدّ بصورة شفافة وعلنية. وفي نهاية المطاف يمكن إزالة الشكوك ببساطة. صحيح أن التلاعب يمكن حدوثه بصورة فردية حتى مع وسائل الانتخاب التقليدية، بل إنه قد حدث بالفعل. لكن التلاعب على نطاق واسع يُصبح باهظ التكاليف وواضحا للعيان.
swissinfo.ch: يتم تخزين كل شيء في الحاسوب. إذن يمكن إعادة عد الأصوات الإلكترونية كذلك، إذا ما اتضح وجود مشكلة في التصويت؟
إرناني ماركيز: وفق الوضع الحالي للتكنولوجيا فإن هذا غير ممكن، ذلك لأن بطاقات الانتخاب الورقية تُستبدل بعدد لانهائي من الوحدات الثنائية. لهذا يمكن إثارة شكوك قوية حول النتيجة النهائية، فسِرِّية البيانات تحول دون مراقبة الكيفية التي تنشأ بها تلك الأرقام. وفي حالة التشكك لا يتبقى سوى إعادة الاقتراع أو الانتخاب مرة أخرى، مما قد يقضي بدوره على الثقة.
swissinfo.ch: هل تكفي مهلة خمسة سنوات لإدراج التصويت الإلكتروني في سويسرا، كما تطالب بهذا إحدى المبادرات الشعبية؟
أدريان آولباخ: غالباً لا، فخمس سنوات تعتبر وقتاً ضيقاً جداً. إذ أن المبادرة التي تطالب بهذه المهلة، تحتوي على نقطة ثانية أكثر أهمية: فحتى بعد انقضاء الخمس سنوات لا يُمكن إلغاء هذا المنع، إلا إذا تحققت المطالب الخاصة بأمن التصويت ووضوحه لغير المختصين والمبينة في نص المبادرة.
المسار الطويل للتصويت الإلكتروني
كانت سويسرا تحظى بإثنين من أنظمة التصويت الإلكتروني: أحدهما يتبع كانتون جنيف، والآخر يتبع لمؤسسة البريد السويسري. وكان هناك عشرة كانتونات (من بين إجمالي 26 كانتونا) تستخدم نظام التصويت الإلكتروني.
نوفمبر 2018: قام كانتون جنيف بوضع حد لنظامه الإلكتروني لأسباب تتعلق بالتكلفة.
فبراير 2019: أقدمت لجنة من عدة أحزاب على إطلاق مبادرة شعبية من أجل الحصول على مُهلة بخمسة أعوام على الأقل قبل إطلاق التصويت الإلكتروني مجددا.
مارس 2019: قام فريق تابع لخبيرة تكنولوجيا المعلومات سارا جيمي المقيمة في كندا، بمراجعة نظام التصويت الإلكتروني المستقبلي التابع لمؤسسة البريد السويسرية، حيث تم اكتشاف أخطاء فادحة فيه. وقام أعضاء الفريق على وجه الخصوص باختراق قابليته للمراجعة الفردية وكذلك الشاملة. وشكل ما صدر عنهم من “إنذار بوجود عطل” نقطة تحول.
مايو 2019: قامت مؤسسة البريد السويسري أثناء الاقتراع الشعبي الذي أجري يوم 19 مايو بوقف تشغيل نظامها الإلكتروني القائم حتى ذلك الحين. والسبب: عيوب أمنية.
يونيو 2019: إعلان الكنفدرالية عن وقف إدراج التصويت الإلكتروني كوسيلة رسمية ثالثة للتصويت في سويسرا.
يوليو 2019: مؤسسة البريد السويسرية توقف نظام التصويت الإلكتروني الخاص بها والمعمول به حتى ذلك الحين. لكنها تتمسك بتطوير نظام جديد يُنتظر أن يُصبح جاهزاً للاختبار في عام 2020 على أقرب تقدير.
حالياً، تُطالب ثلاثة كانتونات مؤسسة البريد السويسرية بتعويضات، بينما يدرس كانتون رابع إمكانية التقدم بطلب من هذا القبيل.
swissinfo.ch: أليس التصويت الإلكتروني أسهل في استخدامه للناخبين من استخدام التصويت البريدي؟
أدريان آولباخ: لا، على العكس. فإرسال التصويت بالبريد لا تفوقه وسيلة أخرى من حيث السهولة. ففي التصويت الإلكتروني السويسري يجب مقارنة سلسلة طويلة من الرموز، حتى يتم التأكد من عدم التواجد على موقع إلكتروني مزيف، وأن التصويت سيتم احتسابه بطريقة صحيحة. وهذا ما لا يحدث في حالة التصويت البريدي.
swissinfo.ch: بالنسبة لمائة وسبعين ألفا (170000) من السويسريين والسويسريات المقيمين في الخارج، والمسجلين كناخبين، يعتبر التصويت الإلكتروني ذا أهمية خاصة. فأي البدائل يمكن توفيرها لهم، في حالة إلغاء التصويت الإلكتروني؟
أدريان آولباخ: تتمثل إحدى الوسائل في الحصول على أوراق الاقتراع إلكترونياً، وطباعتها. ويسمى هذا بالإرسال الإلكتروني. بهذا يُمكن توفير استخدام البريد المعتاد، كما هو الحال في التصويت الإلكتروني. ويجدر الإشارة إلى أنه قد تم قبول التماس بهذا الشأن، قدمه النائب الفدرالي كلاوديو زانيتي العضو بمجلس الشيوخ (الغرفة العليا) بالبرلمان الفدرالي عن حزب الشعب السويسري اليميني.
وهناك إمكانية أخرى، وهي عدّ الأصوات على عين المكان، أي في القنصلية السويسرية بالبلد المعني. بهذا لا يتحتم إرسالها بالبريد حول العالم.
swissinfo.ch: لماذا إذن نجح التصويت الإلكتروني في بلد مثل إستونيا؟
إرناني ماركيز: يمكن للتصويت الإلكتروني أن ينجح فنياً، بدون أن يصبح آمناً ومحل ثقة. فالتصويت الإلكتروني هناك كان محل انتقاد في الداخل والخارج: وقد قامت جماعة من الباحثين المستقلين على سبيل المثال بنشر نتائج على موقع estoniaevoting.org أظهرت فرصاً للتلاعب، يشيب لها الولدان. وفي إستونيا لا يستخدم سوى ثلث الناخبين التصويت الإلكتروني، بالرغم من أنه متاح للجميع.
swissinfo.ch: كيف نجحت الخدمات المصرفية الإلكترونية، بينما فشل التصويت الإلكتروني؟
أدريان آولباخ: أما فيما يتعلق بالخدمات المصرفية الإلكترونية، فيتم تسجيل كل شيء. والبنك يعرف وسيلة الدخول إلى الخدمات وأي عملية نفذت، ومتى. وإذا ما تعرض شيء للاختراق، وهو ما قد يحدث، فيمكن إلغاء التحويلات المعنية.
ولكن بسبب سرية الأصوات فلا يمكن وجود تسجيل في التصويت الإلكتروني، وهو ما يحول بدوره دون التثبت من حدوث اختراقات أو من إلغائها.
swissinfo.ch: نحن اليوم نستخدم الهاتف الذكي في القيام بكل شيء تقريباً. فلماذا لا يمكن استخدامه في التصويت الإلكتروني بالذات؟
أدريان آولباخ: ما سبق وأشرنا إليه من مشكلة سرية الأصوات تنطبق كذلك على الهاتف الذكي.
فضلاً عن ذلك فإن الناخب يحصل على بيانات دخوله للتصويت الإلكتروني عن طريق البريد. لهذا لا يمكن أن يقوم المرء بالتصويت إلكترونياً وهو جالس في القطار مثلاً، ومعه الهاتف الذكي فقط. أما إذا ما كان لديه أوراق الاقتراع من قبل، فيمكنه ملؤها على الورق ووضعها في أقرب صندوق بريد.
swissinfo.ch: يُراهن كانتون تسوغ في استخدامه للتصويت الإلكتروني على التكنولوجيا المعروفة باسم سلسلة الكتل، كحل آمن ومفهوم. فهل يمتلك أبناء كانتون تسوغ المفتاح نحو مستقبل الديمقراطية المباشرة؟
إرناني ماركيز: أما المعمول به في تكنولوجيا سلسلة الكتل فهو الآتي: ليس المهم هو نوعية بيانات التصويت فحسب، بل يهم كذلك لمن هذه البيانات. والنتيجة قد لا تتطابق بالضرورة مع قرار الناخبين الفعلي.
ولكن في حالة التشكك لا يمكن أيضاً إعادة العد مرة أخرى. فضلاً عن ذلك فإن سلسلة الكتل الموجودة في مدينة تسوغ ليست متوفرة على أجهزة الناخبين (أي على سبيل المثال على هواتفهم) بصورة لامركزية، بل إنها موجودة في برنامج تخزيني تابع للشركة. إذن، فلامركزية المعلومات الموعودة غير متحققة.
swissinfo.ch: هل توجد شفرة مصدرية آمنة وغير قابلة للقرصنة؟
أدريان آولباخ: من الناحية النظرية يمكن تخيّل هذا، ويمكن تحققه على نطاق ضيق. أما المشكلة فهي أنه في حالة البرامج الكبيرة، لا يمكن إثبات أن الشفرة فعلاً بلا أخطاء أو ثغرات.
فالشفرة المصدرية لبعض الحلول المعلوماتية للتصويت الإلكتروني تزيد عن 400000 سطر. لهذا لا يُمكن سد أية ثغرة. إضافة إلى أنه إذا ما تعرض أحد الحواسيب المشاركة لاعتداء فإن أي شفرة مصدرية آمنة لن تجدي شيئاً.
swissinfo.ch: تثمن شركة البريد في نظامها المستقبلي قابليته للمراجعة العالمية. فلماذا تعد هذه الإمكانية بهذه الأهمية؟
إرناني ماركيز: من شأن قابلية المراجعة العالمية أن تكون قادرة على التثبت رياضياً من صحة جميع الأصوات المدرجة وفقاً لنظام التصويت الإلكتروني بأسره. أي أن صندوق الاقتراع الإلكتروني لا تشوبه شائبة. لكن قابلية المراجعة الشاملة لا يمكنها أن توضح ما إذا كان الناخبون فقط هم من حققوا هذه النتيجة أم أن هناك متلاعبون من داخل او خارج النظام قد هاجموا الشفرة أو نظام المراقبة، بحيث أمكن تغيير أو إضافة أو إلغاء بعض الأصوات.
إن الأصوات الناتجة عن التصويت الإلكتروني تعتبر بيانات مجهولة الهوية: ينقصها خط اليد البشري. حيث لا ثقة إلا في الخوارزميات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.