نقص المياه: لماذا يتعرّض “ذهب سويسرا الأزرق” للضغوط؟
بينما يعج العالم بالنزاعات بسبب نقص المياه، ويفتقر ما يقرب من 50 مليون شخص في المنطقة العربية إلى مياه الشرب الأساسية ويعاني 90% من مجموع بلدان المنطقة من ندرة "الذهب الأزرق"، يتدفق هذا المورد الثمين بوفرة في سويسرا، إلى درجة لم يهتم أحد ما لسنوات طويلة برصد الكميات المستهلكة منه أو الحاجة إلى ترشيد استخدامه.
وفرة الثروة المائية في سويسرا تعود إلى ما أنعمت به الطبيعة عليها من البحيرات والأنهار والجداول المائية. وليس من قبيل الصدفة أن يُشار إليها أحياناً “كبرْج المياه في أوروبا”، حيث تحتضن 6% من احتياطات المياه العذبة في هذه القارة. كما تزخر سويسرا أيضاً بالمياه الجوفية: يتدفق حوالي 150 مليار متر مكعب من هذه المياه عبر صخور ورواسب البلاد، مقارنة بـ 100 مليار متر مكعب في فرنسارابط خارجي وأقل من 49 مليار متر مكعب في ألمانيارابط خارجي، على سبيل المثال.
في المقابل، لا تحتوي المنطقة العربية بأكملها إلا على أقلّ من 1% من كل المياه العذبة السطحية على الأرض، و2% من إجمالي الأمطار.
يفتقر ما يقرب من 50 مليون شخص في المنطقة العربية إلى مياه الشرب الأساسية ويعيش 390 مليون شخص في المنطقة- أي ما يقرب من 90 في المائة من إجمالي عدد السكان- في بلدان تعاني من ندرة المياه.
وتقول الأمم المتحدة إن المنطقة العربية ليست على المسار الصحيح فيما يتعلّق بتحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة والمتعلّق بتوفير المياه الصالحة للشرب وخدمات الصرف الصحي وللجميع بحلول عام 2030. فما هي سيمات الوضع المائي في المنطقة حاليا؟ وما هي الحلول المفترض اعتمادها لتحسين هذا الوضع؟
الوضع المائي العربي في أرقام:
تعد المنطقة العربية أكثر مناطق العالم ندرة في المياه لوقوعها في حزام المناطق الجافة.
10 دول بالمنطقة العربية من بين أكثر دول العالم معاناة من الاجهاد المائي.
لا تحتوي المنطقة إلا على أقلّ من 1% من كل المياه العذبة السطحية على الأرض، و2% من إجمالي الأمطار.
وصل متوسط حصة الانسان العربي من المياه إلى ما دون 500 متر مكعب في العام في بعض المناطق.
19 دولة عربية تقع تحت خط الفقر المائي
تهدد مخاطر التصحّر نحو 30% من الأراضي الصالحة للزراعة في 14 دولة.
تبلغ الموارد المائية بمنطقتنا 340 مليار متر مكعب، لا يستغل منها سوى 50% والباقي معرّض للهدر والضياع.
ما هي الحلول المبتكرة لتحسين هذا الوضع؟
استخدام الموارد المائية غير التقليدية عبر تحلية مياه البحر، واستخدام المياه العادمة، ومياه الصرف الصحي والزراعيز
الاستخدام الآمن للمياه الجوفية والمياه شبه المالحة
حسن تجميع واستثمار مياه الامطار عبر بناء السدود ومجمعات المياه
تطوير التكنولوجيات المرتبطة بالمياه وتعزيز البحث العلمي وانشاء قاعدة بيانات محلية وقطرية.
التعاون مع البلدان المجاورة لحسن إدارة المياه العابرة للحدود عبر اطلاق مشروعات مشتركة تعود بالنفع على الجميع.
الاتجاه حول الزراعات المستدامة، وإيجاد البذور التي لا تتطلب ثروة مائية كبرى، وتكون مفيدة في نفس لضمان الامن الغذائي.
ربما كانت قصة المياه في سويسرا ستنتهي عند هذا الحد من السرد، لولا بروز واقع مفاده أن الطلب المتزايد يضع اليوم ضغوطاً كبيرة على موارد المياه المحلية، ويسهم في نقص المياه. ومن العوامل التي تساهم في ذلك، حدوث فترات طويلة من الجفاف بسبب التغير المناخي، والتداعيات الناجمة عن التحضر بما يعنيه من تحسين مستوى المعيشة، وتلوث المياه مع زيادة النشاطات الصناعية والزراعية والعمرانية. في المستقبل، من التوقّع أن تتأثّر أجزاء معينة من هذا البلد الألبي، وبشكل خاص، نتيجة نقص المياه.
انخفض استهلاك المياه المنزلية، ولكن ليس بفضل المستخدمين
ومنذ العقد 1990، انخفض استهلاك المياه من 400 إلى 300 لتررابط خارجي للشخص الواحد يومياً بسبب تحسين البنية التحتية للمياه وتطوّر الأجهزة المنزلية. ومع ذلك، ما زال استهلاك السكان السويسريين للموارد المائية يُعتَبر من بين أعلى الكميات في أوروبا للفرد الواحد يومياً. وتشكل الأنشطة المنزلية ما يقرب من نصف كمية الاستهلاك، حيث تصل إلى 142 لتراً يومياً. وتُعزى نسبة 50% من استهلاك المياه إلى غسل المراحيض والاستحمام في الدوش أو الحوض.
نقص البيانات حول استهلاك المياه في الصناعة والزراعة
على الرغم من إلمامنا بكمية المياه التي تستهلكها الأسر في سويسرا، إلا أن الأمر مختلف بالنسبة للكميات المستهلكة في قطاعيْ الزراعة والصناعة.
يتم استخراج نصف كمية المياه المستخدمة في الصناعة والزراعة من قبل القطاع الخاص وليس هناك رصد أو إحصاء لهذه الكمية. وعلى سبيل المثال، في معظم الحالات، لا تتم عملية قياس كميات المياه التي يضخّها المزارعون من الأنهار والبحيرات أو الأحواض الجوفية. ويعود ذلك إلى توافر كميات كبيرة من المياه في سويسرا دوماً، مما جعل من حساب الاستهلاك الإجمالي أمراً ليس بذي أهمية. كما أن معظم كانتونات سويسرا، التي تقع على عاتقها مسؤولية إدارة الموارد المائية، لم تنشئ نظاماً يمكّنها من جمع البيانات المتعلّقة بهذا الاستهلاك. إن كانتون بازل-واحد من الكانتونات القلائل التي فرضت رقابة مشدّدة على كميات المياه، بسبب الاستهلاك المكثّف في المصانع الكيميائية المتواجدة فيها.
مع بدء موسم نفاد المياه خلال فترات الجفاف الصيفية، أصبح نقص البيانات المتعلقة بكميات الاستهلاك يطرح مشكلة. “إذا كنا نجهل كمية المياه التي نستهلكها فعليّاً، كيف لنا أن نغير سلوكنا استجابةً لتغير المناخ؟” تتساءل بيتينا شيفلي، رئيسة وحدة الهيدرولوجيا في جامعة برن. في جميع أنحاء أوروبا، هناك العديد من البلدان التي تتفوّق على سويسرا فيما يتعلق برصد مواردها المائية؛ ففي ألمانيا، على سبيل المثال، هناك حرص على إجراء الإحصاءات حول استخدام المياه التي يتم استخراجها من قِبَل القطاع الخاص.
تقول بترا شموكر-فاكل، نائبة رئيس قسم الهيدرولوجيا في المكتب الفدرالي للبيئة FOEN ، إن الحكومة الفدرالية تدرك هذه المشكلة و”تعمل على حلها”. وفي هذا العام، سيطلق FOEN، بالتعاون مع المكتب الفدرالي للإحصاء، مشروعاً لجمع البيانات المتعلّقة بأنواع أخرى من استهلاك المياه على نطاق وطني.
انخفاض جودة المياه في سويسرا
على الرغم من وجود العديد من البحيرات والأنهار التي يمكن السباحة فيها في سويسرا، إلا أن توسع المراكز الحضرية والزراعة المكثفة أدى إلى تدهور جودة المياه بشكل كبير في جميع أنحاء البلاد.
ووفقاً لشيفلي، فإن مسألة جودة المياه تشكّل مصدر قلق بالغ في سويسرا.
حتى الآن، كان يتعين معالجة مالا يزيد عن ربع كمية مياه الشرب في البلاد، والتي تأتي أساساً من المياه الجوفية أو من الينابيع، قبل استخدامها. ولكن المستحضرات التجميلية والمواد الكيميائية المستخدمة في المناطق الحضرية، بالإضافة إلى المبيدات الحشرية والأسمدة الزراعية، تتراكم في المياه الجوفية مخلّفة آثاراً ضارة على البيئة وعلى الصحة العامة.
وتحذّر شيفلي قائلة: “يجب إيجاد حل لتطوير اللوائح المتعلقة باستخدام هذه المواد الكيميائية”.
آثار متفاوتة للجفاف
إن ارتفاع وتيرة موجات الجفاف في سويسرا على مدى السنوات العشرين الماضية يمكن أن يصبح مشكلة لإمدادات المياه في البلاد، خاصة في المناطق النائية. وبما أن إدارة شبكة إمداد المياه السويسرية تتم على المستوى المحلي، فإن مسألة توزيع موارد المياه بالتساوي عبر المناطق تشكّل تحديّاً.
ولا تتمكّن بعض المجتمعات في منطقتَي جبال الجورا والألب من الوصول إلى احتياطات المياه الجوفية، وتعتمد على المياه المخزنة في الثلوج والأنهار الجليدية والينابيع. ومن المتوقّع أن تتأثّر هذه المجتمعات بشكل كبير بتداعيات حدوث الجفاف لفترات طويلة؛ ففي الألب، بدأت المجتمعات الزراعية تعاني من هذه المسألة، خاصة في فصل الصيف.
ولكن بعض البلديات تجد طرقاً لتوزيع إمداداتها المائية للمناطق الأخرى، وفقاً لأورس فون غونتن، الباحث في المعهد الفدرالي السويسري للعلوم والتكنولوجيا في مجال المياه EAWAG. فعلى سبيل المثال، توفر مدينة زيورخ مياه الشرب لأكثر من 60 بلدية في كانتون زيورخ بحسب حاجة كل منها.
يقول فون غونتن: “ينبغي تعزيز هذه العملية في المستقبل للتغلب على جفاف الصيف”
وفي هذا الإطار، يعتقد غونتن أن المجتمعات يجب أن تعمل معاً لتعويض نقص المياه، لكنه يدرك أن المسألة أسهل قولاً منها فعلاً. “يُعتبر الماء على المستوى المحلي امتيازاً، وهناك العديد من المجتمعات التي تفضل البقاء مستقلة في مواردها المائية”، على حد تعبيره.
الذهب الأزرق: كيف تتعامل دولة برج المياه الأوروبي مع ندرة المياه
لقد أصبحت ندرة المياه حالة عامة في العديد من البلدان حول العالم. وينبغي حتى على سويسرا، التي تحتوي أراضيها على الكثير من موارد المياه على صعيد أوروبا، إعادة النظر في إدارتها لهذه الموارد واتخاذ الإجراءات الوقائية إزاء موجات الجفاف المتفاقمة. هذه السلسلة من المقالات تستكشف الصراعات المحتملة المتعلقة باستهلاك المياه، والحلول الممكنة لتحسين إدارة هذه الموارد الثمينة.
تصاعد التوترات المتعلقة بالموارد المائية
لقد أخذت النزاعات حول استخدام المياه تأخذ حيّزاً واسعاً في سويسرارابط خارجي، على الرغم من نقص البيانات الدقيقة حول نطاقها ومدى أهميتها. وعلى سبيل المثال، فاقمت فترات الجفاف المستمرة من حاجة المزارعين للمياه لري الحقول الزراعية، والتي يتم أحياناً توفيرها من نفس احتياطات المياه الجوفية التي تزود المنازل. ويؤدي تلوث التربة والمياه الجوفية بسبب الأنشطة الزراعية إلى انخفاض توافر المياه الصالحة للشرب وزيادة تكلفتها. وتشير شموكر-فاكل إلى أن هذه النزاعات بين القطاع الزراعي والسكان السويسريين عامةً قد تطرح مشكلة في المستقبل.
ويبذل القيّمون على صناعة الطاقة، الذين يحتاجون هم أيضاً إلى الموارد المائية لتوليد الطاقة الكهربائية ،جهوداً من أجل التوصل إلى اتفاق مع المزارعين بشأن الحصول على الموارد المائية من أحواض البحيرات خلال فترات الصيف. وفي ظل ارتفاع درجات الحرارة، تزداد حاجة صناعة الكيميائيات والنووية السويسرية إلى المياه لتبريد محطاتها. وينطبق الأمر نفسه على قطاعي المال والتكنولوجيا، اللذين يستخدمان المياه الجوفية أو مياه الأنهار لتبريد خوادمهما من أجهزة الكمبيوتر.
كما تتزايد التوترات على طول حدود سويسرا بشأن استخدام موارد المياه: ففرنسا ترغب في أن تطلق سويسرا المزيد من المياه من سد جنيف “سوجيت” Seujet للتمكن من تبريد محطاتها النووية في الصيف، فيما ترغب إيطاليا في تخزين المزيد من المياه في بحيرة ماجوري المشتركة بين البلدين للري.
التعطّش للموارد المائية
ووفقاً لشموكر-فاكل فإن التوفيق بين مصالح مختلف الأطراف ولو كان أمراً معقّداً، لكنه يبقى ممكناً. وترى أن الحلول تكمن في تحسين إدارة المياه على مستوى الكانتون، ومراقبة استهلاك المياه وتوسيع شبكات إمدادات المياه. كما أن الاستثمارات في تقنيات الري الأكثر كفاءة يمكن أن تساهم في الحد من هدر الموارد المائية وتبخّرها، فضلاً عن إعادة تدوير المياه الرمادية (المياه المستخدمة في المطابخ وفي الاستحمام) وتبنّي عادات أكثر تقشفاً لترشيد الاستهلاك في المنازل.
ومع ذلك، فحتى لو قامت سويسرا بكل هذه الاجراءات، فإن ذلك لن يخفف من الآثار الإجمالية المترتبة على استهلاك المياه، وذلك لأن هناك نسبة تبلغ أكثر من 80% من استهلاك المياه في سويسرا “مخفية” في السلع التي يستهلكها المستهلك، مثل المنتجات المستوردة والخدمات، وفقاً لتقرير حكومي.
قد تكون سويسرا “برج المياه” في أوروبا، ولكن يبقى لديها أيضاً عطش لهذه الموارد لا يرتوي إلا بتوفّر المزيد منها. ويقول مارتن داهيندين، الرئيس السابق للوكالة السويسرية للتنمية والتعاون SDC ، في التقرير: “ينبغي أن نقوم بتحمل مسؤولياتنا: المسألة ليست مسألة تضامن دولي فحسب، بل تتعلق أيضاً بقدرتنا على تنمية بلادنا”.
تحرير: صابرينا فايس وفيرونيكا دي فوري
ترجمة: جيلان ندا
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.