مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

التكنولوجيا في خدمة التراث الموسيقي لمهرجان مونترو

استغرق تجهيز جناح العرض "بلاك ماريا" نحو 18 شهرا من التطوير. epfl.ch

بينما يستمتع الجمهور بحفلات النجوم العالميين في الدورة 46 لمهرجان مونترو لموسيقى الجاز، أوكل المنظمون لعلماء وبحاثة مدرستين مرموقتين سويسريتين مهمــة تثمين المحفوظات السمعية البصرية للمهرجان بهدف إتاحة 45 عاما من سهرات الجاز والبلوز والروك لعُشاق هذه الأنواع الموسيقية.

تجسدت أولى نتائج التعاون بين مهرجان مونترو لموسيقى الجاز والمعهد الفدرالي التقني العالي بلوزان (EPFL) والمدرسة الكانتونية للفنون بلوزان أيضا (ECAL) في إنجاز وحدة عرض عالية التقنية تتكون من 1300 قطعة خشبية، وتمتد على طول ثمانية أمتار وعرض سبعة أمتار لاستقبال ما لا يزيد عن أربعة أشخاص لعزلهم عن تأثير أي صوت خارجي بهدف الانغمار في تراث يزخر بأكثر من 5000 ساعة من تسجيلات السهرات الحية للمهرجان.

هذا الهيكل المستقبلي، الذي صُمّم وأُنجز في إطار “المشروع الرقمي لمهرجان مونترو”، (وهو برنامج البحث الذي يقوم على أرشيف المهرجان)، يتكون من جناح عرض تقابله شاشة فريدة الشكل وجدران تكسوها مكبرات صوت وتتميز بحجب الصوت أفضل من الخرسانة.

“أداة رائعة”

نحن نتواجد الآن بمدينة رونون (قـرب لوزان) وتحديدا في الجزء الخلفي من أحد استوديوهات مدرسة ECAL. في قاع الغرفــة، نلمحُ تلك الوحدة الخشبية التي تبدو مثل قرص عسل يلمع وينبض. وبداخلها، يجلس كلود نوبس، مؤسس ومدير مهرجان مونترو لموسيقى الجاز، أمام شاشة مُحدّبة لاختبار “لعبته” الــجديدة.

نشاهده وهو يستمتع بمداعبة لوحة المفاتيح التفاعلية المـُثـَبتة على طاولة منخفضة للعثور على واحدة من آلاف السهرات الحية التي نظمها في مونترو منذ عام 1967، والتي تُعتبر أكبر مجموعة حفلات موسيقية حيّة مُصورة ومُسجلة في العالم.

يقول بحماسة: “هذا يسمح بإعادة خلق أجواء المهرجان تماما، إنها أداة رائعة، ليس فقط بفضل الجودة المذهلة للصوت والصورة، ولكن أيضا لسهولة الاستعمال، إذ يكفيني أن أكتب ببساطة كلمات “جاز”، “سهرة”، و”بي بي كينيغ” للحصول على قائمة الأرشيف والعثور على الحفلات الموسيقية التي أحياها (هذا الفنان)– إنها أداة فريدة من نوعها”.

نــموذج أولي يزن 6 أطنـــان

وستــتاح قريبا لعدد محدود من المحظوظين، من الجمهور والضيوف والجهات الراعية، فرصــة الانغماس في تاريخ المهرجان داخل هذا المسرح المُصغر التجريبي المُلقب بـ “بلاك ماريا”، والذي كشف النقاب عنه من قبل معهد “EPFL” ومدرسة “ECAL” قبل أسبوع من انطلاق الدورة السادسة والأربعين للمهرجان.

تطلب استكمال “بلاك ماريا” حوالي 18 شهرا تظافرت خلالها جهود ما لا يقل عن 200 مُصمم وباحث متخصص في المجال السمعي البصري. ويعُتبر هذا النموذج الأولي الذي يزن ستة أطنان أول نتيجة ملموسة لتعاون طويل الأمــد انطلق عام 2007 بتكلفة 22 مليون فرنك سويسري، بين المهرجان ومعهد “EPFL” ورعاة خواص بهدف تحسين استغلال المحفوظات السمعية البصرية الهائلة الكم لهذه التظاهرة الموسيقية التي تحظى بشهرة عالمية.

أليكساندر دوليمي، مدير المشاريع في مركز “ميتاميديا” التابع لمعهد “EPFL”، والمسؤول عن التعاون منذ 2011، أشار إلــى أن  المحفوظات ولّدت اهتماما كبيرا في أوساط الطلبة، قائلا في تصريحاته لـ swissinfo.ch: “عندما بدأنا هذا المشروع، تمكنا من الاعتماد على كفاءات 15 شخصا متحمسا ومهتما. وهذه الهدية الرائعة بمثابة مصدر إلهام حقيقي لنا”.

“مظلة سونيك”

وفضلا عن جناح العرض “بلاك ماريا”، تستخدم عشرة مجموعات بحثية – تضم 40 طالبا من المعهد الفدرالي التقني العالي بلوزان – المحفوظات السمعية البصرية التي تم ترقيمها حديثا لإنجاز مشاريع تتراوح بين الإنتاج السمعي وتقنيات ما بعد الإنتاج، وتخزين البيانات، وتجارب الاستخدام الجديدة.

ومن بينها ابتكار أحد الطلبة الذي أطلق عليه إسم “مظلة سونيك”، وهي بنية صغيرة على شكل مظلة يمكن أن تأوي ما لا يزيد عن أربعة أشخاص للاستمتاع بالموسيقى أو الصمت في محيط ضوضائي، كالمقهى على سبيل المثال.

وتــَستخــدم المظلة تقنية حزمات صوتية لتركيز الصوت والاحتفاظ به في مساحة محدودة. وأظهرت التجارب بأن الموسيقى التي تُشغـَّل بـشدة 70 ديسيبيل تحت المظلة تنخفض إلى 40 ديسيبيل على بُعد مترين فقط منها.  

وأوضح غزافيي فالور، العالم المتخصص في الصوتيات قائلا: “فضلا عن إمكانية استخدام (هذه التقنية) في الحانات والمطاعم، يمكن أن نتخيل نظام ميكروفونات يُثبت في سقف منزلك ويبث باقة من المقاطع الموسيقية التي انتقيتها شخصيا لتتبعك من غرفة إلى أخرى”. ويعتقد فالور أن المتاحف يمكن أيضا أن تستفيد من هذه التقنية لتزويد زوارهم بتعليقات فرديـة أثناء تجولهم بين المعروضات.

وفي سياق مماثل، طور فريق آخر من معهد EPFL حاجزا قابلا للنقل مزودا بـ 64 من المكبرات الصوتية المُصغرة لامتصاص الصوت أو نشره بفعالية، حسب الحاجة، ليكون بمثابة فاصل صوتي بين أماكن مختلفة.

ويقدم هيرفي ليسيك، الباحث في نفس المعهد، مثالا عن مواقف تبين منفعة هذا الحاجز قائلا: “تخيلوا قضاء ليلة بالقرب من ملهى ليلي، ولكن بحاجز صوتي تفوق فعاليته جدارا سميكا مبنيا بالخرسانة الثقيلة”.

رقمــنة محفوظات قد تدرج ضمن الإرث العالمي

منذ الدورة الأولى لمهرجان مونترو لموسيقى الجاز، احتفظ كلود نوبس برقم قياسي من تسجيلات كافة السهرات ليتــراكم لديه أرشيف فريد من نوعه، قوامه 5000 ساعة تسجيل تلفزيوني وصوتي لـ 4000 حفلة موسيقية تم تجميعها في 10000 شريط أصلي بدزينــة من الصيغ المُختلفة.

وتـدرس منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونيسكو” إدراج هذه المحفوظات ضمن التراث الثقافي العالمي، إذ يُتوقع صدور قرارها بهذا الشـأن عمّا قريب.

وفي إطار تعاونه مع المهرجان، يشرف المعهد الفدرالي التقني العالي بلوزان منذ عام 2011 على الترقيم المباشر للمحفوظات. وتم حتى الآن تخزين حوالي 40% من إجمالي الأشرطة – أي ما يناهز 15000 ساعة عمل –  بصيغة “لينيرا تيب-أوبن” (LTO). ويـُتوقع إكمال هذه العملية بحلول نهاية عام 2013 ثم إيداع النسخ في البيت الريفي لنوبس وفي معهد “EPFL”. وسينبغي لاحقا إعادة نقلها كل سبعة إلى عشرة أعوام إلى أحدث تقنيات التخزين لمواكبة التطور التكنولوجي. 

“مختبر مونترو جاز”

ولا تتوقف طموحات الشريكين عند هذا الحد، بحيث ستُقرر هيئة محلفين هذا الشهر الفائز بمسابقــة معمارية لتصميم “مختبر مونترو جاز” وهو مكان هجين يضم “مقهى مونترو جاز” وقاعة للحفلات الموسيقية، ومركز أبحاث، سيفتتح أبوابه في نهاية عام 2013 داخل الحرم الجامعي لمعهد “EPFL” بجانب مكتبة “مركز التعلم” التي تعتبر تحفة معمارية وعلمية فريدة من نوعها.

ويقول دوليدي: “هذا سيسمح لنا باختبار كافة هذه التكنولوجيات والمحفوظات في بيئة حقيقية”. ولكن على هواة الموسيقى التحلي بالصبر، إذ حاليا، لا يمكن الإطلاع على أرشيف السهرات الموسيقية إلا من خلال شبكة “مقاهي مونترو جاز” التي تتوسع ببطء، (وتضم حاليا كلا من جنيف وزيورخ، بينما ينتظر أن تفتتح هذا الشهر فرعا لها في لندن، ثم نيويورك في وقت لاحق، ثم باريس، وفرانكفورت، وكوبنهاغن)، أو باقتناء عدد محدود من أقراص الفيديو الرقمية والأقراص المدمجة لـ “سهرات مونترو الحية” (Live at Montreux).

ويضيف دوليدي: “لا يمكننا وضع المحفوظات ببساطة على موقع يوتيوب، ولكن الأمور قد تتطور”.

جمهور أوسع

ولئن كانت الأشرطة تعتبر ملكية شركة “مونترو ساوندز” التي أنشأها نوبس عام 1995 لإدارة مجموعاته، فإن الفنانين يحتفظون في غالب الأحيان بحقوق الموسيقى، إذ لا يُسمح، بموجب العقود الحالية لمهرجان مونترو، استغلال المحفوظات إلا للأغراض التعليمية والبحثية.

 وأوضح نوبس ضمن هذا السياق: “تبدي جامعات أخرى اهتماما كبيرا (بهذا الأرشيف)، لذلك نحن نتطلع إلى إيجاد وسيلة لتقاسم الوصول إلى قاعدة البيانات الرئيسية التي يحتفظ بها معهد EPFL”.

ويظل مؤسس مهرجان مونترو لموسيقى الجاز على قناعة بأن المحفوظات ستوضع في نهاية المطاف على شبكة الانترنت لتتاح إلى جمهور أوسع بكثــير، قائلا: “أعتقد أن الإنترنت سيكون ناقلا عظيما لهذا الأرشيف كبير في المستقبل. تخيــّلوا معي لو وضعنا رهن الإشارة خمس دقائق فيديو فقط لكل فنان، ثم نضاعفها 5000 مرة، سنحصل على مجموع 25000 دقيقة من السهرات الموسيقية بالمجان. وعلى الراغبين في الحصول على الحفل الموسيقي بالكامل أن يدفعوا ببساطة دفع مبلغ يتم تحويله للفنان المعني بالأمر”.

وأضاف في عبارة توحي بالكثير عن طبيعته: “كان حلمي دائما تقاسم (كل شيء)، سواء كان شرب النبيذ، أو الاستماع للموسيقى، أو المشي في الغابة، ويظل تقاسم هذه المحفوظات على رأس أولوياتي”.

تتواصل الدورة 46 للمهرجان من 29 يونيو إلى 14 يوليو 2011.

من أبرز النجوم العالمية المشاركة فيها: بوب ديلان، فان موريسون، سيرجيو مينديس، هيربي هانكوك، نايل رودجرز آند شيك، كوينسي جونس، بات ميثيني، بوبي كاك فيران، شيك كوريا، نويل غالاغر،  لانا ديل ري، جولييت غريكو، دكتور جون، جيلبيرتو جيل، توتي بينيت، أكسيل ريد.

أسس كلود نوبس المهرجان بميزانية لا تتجاوز 10 ألف فرنك عام 1967. واليوم، يقام المهرجان بــأكثر من 20 مليون فرنك.

وصف كوينسي جونز، الملحن الأمريكي الشهير، كلود نوبس بأنه “أحد المروِّجين الثقافيين الأكثر تأثيرا في التاريخ”.
 
شارك في مهرجان مونترو، العديد من كبار الفنانين مثل إليس ريجينا وكامارو دي لا ايسلا وتوم جوبيم وبيل ايفانز وديفيد بووي وستينغ وبرينس وباكو دي لوسيا وعازف الباندونيون الأرجنتيني أستور بياتزولا، وأسطورة موسيقى الجاز الملحن وعازف البوق الأمريكي مايلز ديفيس، الذي قام بتأدية أحد عروضه الأخيرة في مدينة مونترو السويسرية.

مجموعة الروك البريطانية “ديب بوربل” كانت قد ألفت أشهر أغانيها “سموك أون دو واتر” (دخان على الماء) في مونترو. وتتحدث الأغنية عن حريق شب في كازينو المدينة القديم أثناء سهرة للموسيقار والملحن الامريكي فرانك زابا عام 1971. كلود نوبس، المذكور في الأغنية بلقب “فانكي كلود” أنقذ أرواحا كثيرة من لهيب الحريق.

ولد في تيريتي بالقرب من مدينة مونترو عام 1936. وهو من هواة السفر والموسيقى.

 نظرا لشغفه بموسيقى الجاز والإيقاع والبلوز، قام بتنظيم الحفلات الموسيقية في منطقته. وقد أسس مهرجان مونترو لموسيقى الجاز في عام 1967 واستكمله بتضمينه لأنواع أخرى من الموسيقى، مثل البوب والروك والبلوز والريغي البرازيلي والراب والتكنو.

جرت العادة على تنظيم مهرجان مونترو لموسيقى الجاز خلال الأسبوعين الأولين من شهر يوليو من كل عام.

تم تصوير معظم الفنانين الذين ظهروا في القاعات الرئيسية للاحتفال، وذلك بموجب العقود المُـبرمة معهم والتي تُـخوِّلهم الإطلاع على التسجيلات الخاصة بهم، مع الإحتفاظ بحقهم في حجبها، إن لم يرتاحوا لها، وهو أمر – كما يقول نوبس – “نادر جدا أن يحدُث”.

(ترجمته من الإنجليزية وعالجته: إصلاح بخات)

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية