الكواكبُ الخارجية.. أكبرُ مسعى لعلم الفلك الحديث
هو ليس بكوكب باندورا العجيب الذي اكتشفه الجمهور في فيلم الخيال العلمي الأمريكي الشهير "أفاتار"، ولكنه يدور أيضا حول أحد النجوم الثلاثة لـ"رجل القنطور"، أو "ألفا سانتوري"، النظام النجمي الأقرب إلى الشمس على بــُعد 4,33 سنة ضوئية.
وتحوّل هذا الكوكب الحديث الاكتشاف إلى “النجم الجديد” للعوالم البعيدة التي بات سبر أغوارها أكبر رهان لعلم الفيزياء الفلكي. ولا زال للسويسريين، الذي يــُعتبرون روادا في هذا المجال، حضورا قويا في الأبحاث المرتبطة باكتشاف الكواكب السّيارة الخارجة عن نظامنا الشمسي.
“إن علم الكواكب الخارجية هو مجال علم الفلك الحالي الذي يشهد أسرع نمو”. هذا التأكيد يبدو بارزا على الموقع الإلكتروني لمعهد الفلك في كامبريدج البريطانية. هذه الجامعة العريقــة التي درّس بها إسحاق نيوتن، قد ضمّت إلى صفوفها مؤخرا السويسري ديديي كــِلو (Didier Queloz) الذي شارك قبل 17 عاما في اكتشاف “51 Peg b”، وهو أول كوكب تم تحديد دورانه حول نجم غير شمسنا.
ففي أكتوبر من عام 1995، بينما كان يــُعدّ أطروحة الدكتواره في الفيزياء الفلكية بجامعة جنيف، أعلن، إلى جانب أستاذه آنذاك، الفلكي السويسري المرموق ميشيل مايور، عن اكتشاف قد يكون الأهمّ منذ الثورة التي أحدثها البولندي نيكولاس كوبيرنيكوس (1473 – 1543) الذي يُعتبر “أول من صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرما يدور في فلكها في كتابه “في ثورات الأجواء السماوية””. فبفضل اكتشاف السويسريين، بات البشر يعلم أن السماء تزخر، ليس فقط بالنجوم، بل بالكواكب أيضا.
“أونيفيرساليس”.. أو تعميم المعرفة والفائدة
ويـــُضيف ديديي كِـلو بحماسة: “إن الأمر يعدو أن يكون مُجرد طفرة، فعلم الكواكب الخارجية يشهد ثورة حقيقية لأننا ندرك الآن أن هذا الفرع المعرفي يتجاوز حدود العلم الفلكي بحيث سيثير اهتمام الجيولوجيين، وفيزيائيي الغلاف الجوي للأجرام السماوية، وعلماء الأحياء. نحن نحمــل (على أكتافنا) موضوع بحث رئيسي جديد سيستمر في النمو”.
في عــُمر السادسة والأربعين إذن، يغادر هذا البروفيسور سويسرا باتجاه إنجلترا من أجل “توسيع مجال عمله في أوروبا حيث يكتسب البحث أهمية استثنائية”. ولكن كــِلو سيحتفظ مع ذلك بمنصب تدريس في جنيف بدوام جزئي (25%)، لقناعته بأنه “من المنطقي خلق ارتباط عضوي بين موقع رائد في العالم وجامعة ترغب في تطوير معارفها في هذا المجال”.
ويستطرد قائلا: “إن هذا يتناسب تماما وروح الجامعة (الدولية التي تتلخص في كلمة) “أونيفيرساليس”. فنحن لا نُفكّر داخل فُقاعة، بل نحاول بناء جسور للتوفـّـر على دينامية مُحفـــّزة، وعلى تبادل للطلاب وللأفكار، وعلى برامج مُشتركة. فالعلم قد تجاهل دائما الحدود والــحواجز الوطنية الصغيرة”.
وفي انتظار تكوين فريق بحث كبير في جامعة كامبريدج يُعنى بالكواكب الخارجية، شارك ديديي كـِلو في إعداد مقال مُشترك نُشر يوم 17 أكتوبر 2012 في مجلة “نيتشر Nature” العلمية البريطانية، أعلن فيه عن آخر اكتشاف لفريقــه بجنيف. وكان من بين المـــُوقعين ميشيل مايور، وفرانشيسكو بيبي، الذي يعتبر أب مطيافي “هاربس” لصيد الكواكب، وويلي بينز من جامعة برن، المسؤول عن التلسكوب الفضائي المستقبلي “CHEOPS” لتحديد خصائص الكواكب الخارجية. ولكن المؤلف الرئيسي للمقال هو غزافيي دوموسك، طالب الدكتوراه… مثلما كان ديديي كـِلو عام 1995، ما يتيح القول أن الخلف مضمون في هذا المجال.
شتان بين “جنة باندورا” وجحيم الواقع
الباحث الشاب، يصف رفقة زملائه، أصغر وأقرب كوكب خارجي اكتُشف حتى الآن. فقد تواصل البحث عنه طويلا في النظام النجمي “ألفا سانتورا” الذي تطــُوف نجومه الثلاثة على بــُعد أكثر من أربعين مليار كيلومتر من شمسنا، وحيث حدّد مؤلّفو سيناريو فيلم “أفاتار” موقع العالم الغابوي لشعب “نيــفي” الخيالي…
الكوكب الخارجي الجديد الذي أطــلق عليه إسم “Alpha du Centaure Bb”، نسبة إلى النجم الثاني في نظام “ألفا سانتور”، لا يكاد يكون أكبر كتلة من الأرض. ما يمثل وزن الريشة بالمقارنة مع كواكب تفوق حجم المشتري العملاق، والتي لا تزال تشكل الأغلبية على القائمة المتوفرة من الكواكب الخارجية. فكلما خفّ وزن الكوكب، كلما ضعفت تقلبات السرعة التي يبعثها إلى نجمه، وكـــلما استعصى الكشف عنه. وقد استغرق تحديد موقع كوكب “ألفا سانتور Bb” ثلاث سنوات من المراقبة والقياس.
في المُقابل، فإنّ فــُرص العثور على أشجار عملاقة وعلى كائنات زرقاء فارعة الطّول بشكل بشري، مثل تلك التي يُصوّرها فيلم “أفاتار”، تظل منعدمة تماما. فهذا الكوكب الخارجي يتطلب 3,2 يوما للدوران حول نجمه الذي “يخدشه” على بـــُعد ست ملايين كيلومترا، أي أنه يكون قريبا منه بعشرة أضعاف المسافة التي تفصل كوكب عطارد عن الشمس. وفي درجات الحرارة تلك، لا يمكن تصور العالم سوى في شكل جحيم من حمم منصهرة.
ولكن يمكن أن تكون هنالك كواكب أخرى، إذ أصبحنا نعلم أن الكواكب تنشأ حول نجمها في إطار مجموعات، وبالتالي ليس مُستبعدا أن يكون لكوكب “ألفا سانتور Bp” نظام كواكب خاص به. ولكن بقدر ما ابتعدت تلك الكواكب منه، بقدر ما سيصعب تحديد موقعها.
حدود التلسكوبات والمطيافات الحالية
هنا، نــُلامس حدود الأدوات المتاحة اليوم، رغم أن “هاربس” الذي منحه السويسريون للمجتمع العلمي يمثّل في عالم المطيافات ما تُمثله “رولس” في عالم السيارات. هذا الجهاز الذي وُضع عام 2003 على تلسكوب أوروبي في مرصد “لاسيلا” بدولة تشيلي، قادر على رؤية اختلافات سرعة النجم على خط أبصار الراصد في اقترابه منه أو ابتعاده عنه، بوتيرة أكثر بطءًا من حركة سير البشر على الأقدام. وفي موسم الربيع الماضي، تم تشغيل مطياف توأم لـ “هاربس” في جزر الكناري الإسبانية لإمعان النظر في سماء نصف الكرة الشمالي.
ولكن هذا الأسلوب القائم على التصوير الطيفي، الذي يُسمى بقياس السرعة الشعاعية، لا يزوّدنا بعدُ بأية معلومات عن نوع الكوكب الذي نتأمله. ولمعرفة ذلك، ينبغي أيضا مراقبة عبوره أمام النجم (انظر فيلم “مليارات العوالم الجديدة في انتظار من يكتشفها”). وهذه المهمة على وجه التحديد، سيتولاها “CHEOPS” (اختصار انجليزي لعبارة “القمر الصناعي لتحديد خصائص الكواكب السيارة الخارجية”) ، وهو أول تلسكوب فضائي سويسري.
المزيد
مليارات العوالم الجديدة في انتظار من يكتشفها
وفي 19 أكتوبر 2012، وقع اختيار وكالة الفضاء الأوروبية على “كيوبس” من بين 26 مشروعا قُدّم لها في إطار الاستعدادات لإطلاق برنامجها الجديد الذي يتضمن جملة من البعثات “الصغيرة”، والذي يتعين تنفيذه بسرعة بتكلفة تقل عن 150 مليون يورو. ويُتوقع أن يشرع “كيوبس”، ابتداء من عام 2017، عمليات التدقيق في 500 من النجوم التي عُرف مُسبقا أن لديها كواكب صغيرة تابعة لها، وذلك بهدف تحديد خصائصها بصورة أفضل.
هذا هو الفرق بين “كيوبس” والتلسكوبين، الفرنسي-الأمريكي “كوروت” (الذي أطلق عام 2007) والأمريكي “كيبلر” (2009)، اللّذين يخوضان ما يمكن وصفه بـ “عملية اصطياد على نحو أعمى”، بحيث يستهدفان أكبر عدد ممكن من النجوم أملا في مراقبة عمليات عبور. واليوم، بات الحصاد وافرا، ولكن لا يزال انتظار تأكيد وجود الكواكب السيّارة الخارجية (وتلك هي إحدى مهام “هاربس-شمال”). وكما يوضح ويلي بينز، المسؤول عن “كيوبس” فإن “كوروت وكيبلر يراقبان في الأساس نجوما خافتة جدا، وبالتالي فإن قياسات السرعة الشعاعية المرتبطة بها ليست دقيقة جدا، ما يثير الشعور بنوع من الإحباط…”.
وللذهاب إلى أبعد من ذلك، فلا زال ينبغي اإنتظار.. إلى أن يُشغّل، مثلا، “إسبريسّو”، المطياف المُصوِّر من الجيل الجديد، الذي سيتم تثبيته على المقراب العظيم للمرصد الأوروبي الجنوبي، والذي يشرف على تطويره فرانشيسكو بيبي، مُصمّم “هاربس”.
دقـة سويسرية
يقول فرانشيسكو بيبي، الذي يــُعتبر “أب” المطيافيْن هاربس: “إن كنا مجالا صناعيا، لكان بإمكاننا بسهولة وضع علامة “صنع في سويسرا” على هاربس، ولئن كان ثمرة تعاون مع معاهد مختلفة، سويسرية، وأيضا فرنسية وإيطالية وإنجليزية وأمريكية. ولكننا نظل مدراء المشروع، وصحيح أن المهارات والتفاصيل الصغيرة التي تــُحدث الفرق بين هاربس وغيره من الأجهزة قد نبعت من سويسرا”.
ماذا عن الحياة في العوالم البعيدة؟
يبقى السؤال: ما الذي يُحفّز الباحثين على مطاردة عوالم بعيدة كل البعد، لن يطأها قدم أي أحد منهم أبدا أو حتى لن يراها بعينيه حقا؟ الجواب بالنسبة لفرانشيسكو بيبي يتمثل أولا في “ذلك الإفتتان بجمال السماء ليلا، وفكرة (وجود) النجوم، وعوالم أخرى…”.
وماذا عن وجود حياة فيها؟ عالم الفيزياء الفلكية يقول إنه “واثق في الواقع في إمكانية وجود الحياة في (عوالم) أخرى. فإذا كنا نعلم بأن هنالك مائة مليار مجرّة، لكل واحدة منها مائة مليار نجم، ونعلم أن كافة النجوم تقريبا لها كواكب تابعة لها، فأنا أجد من الصعب أن نصدق أنه لا يوجد في مكان ما عالم شبيه بعالمنا. وحتى إن لم يكن شبيها به تماما، فلا أرى سببا لعدم تطور الحياة في ظروف أخرى. نحن نتحدث في غالب الأحيان وكأن أنواع الحياة التي نعيشها في أرضنا هي الوحيدة الممكنة، ولكن لحسن الحظ أن خيال الطبيعة يفوق مخيلتنا”.
ويستطرد فرانشيسكو بيبي موضحا: “لكن المسألة تتعلق الآن بمجرد شعور، إذ لا يوجد لدينا أي دليل، ونحن نواصل العمل للتوصل إلى إثبات ذلك”.
ويلي بينز بدوره لا يملك أي دليل، ولئن كان شخصيا على قناعة بأن الحياة توجد في تلك العوالم البعيدة. ويقول ضمن السياق نفسه: “في الوقت الراهن، ليس لرأيي قيمة تفوق رأي (أي زميل) آخر. فلا أحد استطاع حتى الآن استنساخ الحياة، حتى في أنبوب اختبار فوق كوكبنا الأرضي. وبالتالي فإن السؤال يظل مفتوحا. هل تظهر الحياة بالضرورة عندما تتوفر الشروط الصحيحة، أم هي شيء لم يظهر سوى مرة واحدة فقط في الكون؟ في هذه الحالة، السؤال القائل “لماذا” هو أيضا جدير بنفس القدر من الاهتمام…”.
ويلي بينز، المتخصص في تشكيل الكواكب وتطوُّرها، ينظر إلى وفرة العوالم الجديدة هاته، كفرصة لمراقبة “تنوع ما يمكن أن تقوم به الطبيعة” في المقام الأول. وبالتالي فإن البحث عن الحياة لا يمثل هدفه الوحيد لأنه يعتقد أن “الطريق للعثور عليها يستحق أيضا كل الإهتمام”.
تعني الأحرف الأولى بالانجليزية لـ HARPS “الباحث عن الكواكب بالسرعة الإشعاعية عالية الدقة”.
ويُعدّ هاربس أفضل مطياف مُصوّر في العالم. في عام 2003، تم تثبيته على تلسكوب يبلغ قطره 3,6 مترا في موقع المرصد الأوروبي الجنوبي ESO في “لاسيلا” بتشيلي، في إحدى المناطق التي تكون بها السماء أكثر صفاء ووُضوحا في نصف الكرة الأرضية الجنوبي.
في ربيع عام 2012، كان توأمه “هاربس-شمال” قد وُضع على تلسكوب آخر (3,6 مترا أيضا) تابع للمعهد الوطني الإيطالي للفيزياء الفلكية في جزيرة لا بالما بجزر الكناري، لنصف الكرة الشمالي.
هاربس يستطيع تحديد تغيــّرات سرعة النجم بمقدار كيلومتر واحد في الساعة. ويتم قياسُ أثر هذه الحركة على طيف النجم (الذي يشبه قوس قزح يتشكل جراء تجزأ ضوئه) بأجزاء من البليون من المتر. ويتعيــّن بالتالي على الجهاز أن يُشغل في فراغ شبه مثالي (0,01 ميلي بار) وفي حرارة تتم السيطرة عليها بجزء من ألف درجة، لأن أدنى تغيير في الحرارة أو في الضغط يمكن أن يتسبب في تحوير أكبر بـ 100 مرة مما يسعى العلماء إلى قياسه.
“هاربس-جنوب” أسهم إلى حد كبير في جعل الفريق الذي أسسه السويسري ميشيل مايور في مرصد جنيف الأكثر كفاءة في العالم. فبفضله تم اكتشاف نصف الكواكب الخارجية تقريبا التي تم التأكد من وجودها لحد الآن والتي يبلغ عددها الإجمالي 830.
(ترجمته من الفرنسية وعالجته: إصلاح بخات)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.