تعاون سويسري أوروبي من أجل الوصول إلى “أبعد نقطة ممكنة”
تمتلك سويسرا مقوّمات القوة الفضائية، وهي تتجاوز إلى حد كبير ما يوحي به الحجم الصغير لهذا البلد. ويتزامن هذا مع تولّي سويسرا أخيرا، إلى جانب ليكسمبورغ، الرئاسة المشتركة للمجلس الوزاري لوكالة الفضاء الأوروبية.
ومنذ زمن طويل، تعد سويسرا من البلدان الرائدة في الفضاء، وعندما وطأت أقدام نيل أرمسترونغ، وبوز ألدرين سطح القمر، وهي التجربة الأولى التي استخدما خلالها شراعا شمسية لإلتقاط الجسيمات المنبعثة من نجمنا. هذه الشراع الشمسية صُمّمت ووضعت تصوّرها جامعة برن، وهذه الجامعة نفسها تلقت الضوء الأخضر من الوكالة الاوروبية بعد 43 سنة لإنجاز تليسكوب الفضاء CHEOPS لتصيّد الكواكب الواقعة خارج المدار الشمسي.
في هذا المجال، ظل السويسريون روّاد العالم منذ ميشال مايور، وديديي كيلوز، اللذان اكتشفا في عام 1995 العالم الأوّل الذي يدور حول نجم يقع خارج الكواكب الشمسية. ويقول فيليب جيليت، نائب رئيس المعهد التقني الفدرالي العالي بلوزان، والذي ساهم إلى حد كبير من خلال مركز الفضاء، الذي أسسه، في إنجاح ترشّح مشروع CHEOPS : “إن اكتشاف كواكب خارج المدار الشمسي لا تقلّ أهميته عن اكتشاف الحمض النووي ويستحق هذا الإكتشاف نيل جائزة نوبل للعلوم”.
خفيفة وصلبة
ولكن، ما الذي يجعل الصناعة السويسرية في مجال تكنولوجيا الفضاء جيّدة وممتازة؟ فما نرسله إلى الأعلى لابد أن يكون خفيفا (أي كيلوغرام يوضع على المدار يحسب له حساب) وصلبا (ليس هناك أي مجال لإصلاح العطب عندما يكون بعيدا ملايين الكيلومترات عن قاعدة انطلاقه). ويلخص جيليت الأمر فيقول: “لدينا خبرة جيّدة في التصغير، وباع طويل في الدقة. وامام القوى الأوروبية العظمى، مثل المانيا وفرنسا، لابدّ أن توفّر سويسرا ما لا يوفّره الآخرون”.
وبالإمكان، على سبيل المثال، بناء ميكروسكوب يعمل بالطاقة النووية لا يتجاوز حجمه علبة أعواد الكبريت، وبإمكانه مقاومة الذبذبات، وتغيّرات درجة الحرارة خلال رحلة بين الكواكب. وهذا ما هي بصدد القيام به شركة حديثة، وجامعتان سويسريتان لرحلة المركبة الامريكية “فيونيكس”. وقد كان المركب الذي حطّ على كوكب المريخ في يوليو 2008 الأوّل الذي عثر على جزيئات نانوية لماء متجمّد.
كذلك يجري في سويسرا اختبار مقياس الإرتفاع بأشعة الليزر BELA والذي سوف ينطلق في غضون عامين إلى كوكب عطارد على متن المركبة الاوروبية BepiColombo. وبعد رحلة تمتد ستّ سنوات ونصف، سوف تحلّق فوق الكوكب الأقرب إلى الشمس الذي يبعد عن الأرض ما معدّله 700 كيلومتر، وستتمّ معاينة التضاريس بدقة تزيد وتنقص عن المتر الواحد.
قصص النجاح
عندما تذكر سويسرا، عادة ما يقترن إسمها بمزايا مثل الدقة، والموثوقية، والابتكار، وهذه المزايا التي توصف بها الصّناعة السويسرية عموما، هي التي صنعت قصص النجاح في مجال تكنولوجيا الفضاء تحت الراية السويسرية. فمنذ بداية آريان سنة 1974، تمت صناعة الغلاف الذي يحمي سفينة الفضاء خلال الدقائق الأولى للانطلاق في سويسرا، وذلك خلال جميع رحلات وكالة الفضاء الأوروبية. هذا الغلاف صُنِع في البداية في ورشة أورليكون، ثم لاحقا في قسم “الفضاء” بشركة Ruag.
لم تعترض هذا الغلاف الذي تنسلخ عنه المركبة لمّا تستوي في الفضاء ،خلال أكثر من 200 رحلة، أي مشكلة. وتكمن أهمية هذه الصناعة، أنه عندما لا يُفتح الغطاء في الوقت المناسب تفشل الرحلة، مما يؤدي إلى ضياع ملايين الفرنكات، وربما العديد من المليارات.
لكن هل يمكن القول أن هذه السوق مضمونة العواقب؟ يردّ فليب جيليت بحذر: “لا شيء مضمون على الإطلاق في المجال الصناعي. والازمة الأوروبية تذكّرنا أنه من الصعب دائما الحفاظ على السوق، أي سوق. ولكنني اعتقد أن سويسرا تمتلك كل العناصر المساعدة للحفاظ على ما بحوزتها، بل وتطوير ما لديها سواء بالنسبة للشركات الصغرى والمتوسطة العاملة في المجال او بالنسبة للتي قد تنشأ لاحقا للعمل في مجال الصناعة الفضائية واستخداماتها”.
10 مليار يورو رغم الأزمة
في انتظار ذلك، فازت سويسرا بالاشتراك مع لكسمبورغ برئاسة المجلس الوزاري لوكالة الفضاء الأوروبية حتى عام 2015. وفي نابولي، أشرف على المحادثات يوما 20 و21 نوفمبر 2012، كل من ماورو دال أمبروغيو، كاتب الدولة السويسري للتعليم والبحث العلمي، وفرانسوا بيلتغين، وزير الاتصالات والبحث العلمي بلكسمبورغ.
ورغم الأبعاد التي اتخذتها الأزمة الاقتصادية في أوروبا التي بدأت في عام 2008، وهي السنة التي شهدت انعقاد آخر اجتماع للوكالة، نجح المشاركون في اجتماع نابولي في الحفاظ على ميزانية الوكالة عند مستوى 10 مليارات يورو على مدى الثلاث سنوات المقبلة. وقد تخلت وكالة الفضاء الأوروبية عن رحلة القمر في هذه المرحلة، ولكن الرحلتيْن المبرمجتين إلى المريخ، بالتعاون مع روسيا سوف يُحافظ عليهما، فضلا عن المساهمة الأوروبية في محطة الفضاء الدولية (ISS).
حرب الصواريخ
من القرارات التي كان لابد من اتخاذها في نابولي: هل ينبغي المشاركة في تطوير النسخة الجديدة من آريان 6 على النحو الذي دعت إليه كل من وكالة الفضاء الأوروبية وفرنسا، أو المراهنة على انجاز نسخة محسّنة من آريان 5 التي يطلق عليها ME (تطوير متوسط)، مثلما تدعو لذلك بحذر ألمانيا؟
وفي أعقاب مفاوضات تواصلت ليْلتيْن، حيث لعبت سويسرا ولكسمبورغ دور الوسيط، توصّل الوزراء إلى حل وسط تمثّل في الموافقة على بناء النسخة المحسّنة من آريان 5 (ME)، بمكوّنات يمكن استعمالها أيضاء في بناء آريان 6 الذي من المنتظر إطلاقه خلال العقد القادم.
كذلك تشتد المنافسة أكثر فأكثر في سوق الصواريخ التجارية. فمؤسسة “آريان إسباس” التي لا تزال تمتلك 60% في عام 2010، عليها أن تأخذ في الإعتبار قاذفات بروتون الروسية – الامريكية، وقاذفات زينيت الروسية – الأوكرانية، أو الصواريخ الصينية طويلة المدى، أو مركبة إطلاق السّواتل القطبية الهندية. ليس هذا فحسب، بل أيضا صواريخ الفالكون (الصقور) المملوك لشركة SpaceX، مشروع مبتدئ بكاليفورنيا مدعوم من ناسا (الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء)، التي حطمت أسعار الأطنان التي توضع على المدار. وتعد السعر أحد نقاط الضعف بالنسبة لآريان.
ويعتبر عامل الوقت مهمّا للغاية إذن بالنسبة لوكالة الفضاء الأوروبية. وحتى انعقاد المجلس القادم المقرر في عام 2015 على الأراضي السويسرية، ستكون سويسرا وليكسمبورغ مسؤولتيْن على متابعة تنفيذ القرارات وأن تظلاّ تحت الطلب للبلدان الأعضاء عند حصول “مشكلة مهمّة” تقتضي التدخّل على المستوى السياسي والدبلوماسي. ويلخّص ماورو دال أمبروغيو الموقف فيقول: “نظلّ نحن الملجأ الأخير، عندما تتوجّه إلينا إدارة وكالة الفضاء الأوروبية بالطلب”.
تسطيع وكالة الفضاء الاوروبية، عن طريق تجميع وتوحيد جهود البلدان العشرين الأعضاء فيها، إنجاز ما لا يمكن لبلد واحد ان يقوم بإنجازه بمفرده. ويصل حجم ميزانية هذه الوكالة إلى حدود 4.8 مليار فرنك سويسري، وهو مبلغ يتجاوز ميزانية وكالة الفضاء الروسية Roskosmos ( 3.5 مليار)، ولكن اقلّ من ميزانية الناسا الأمريكية ( 16.5 مليار)
منذ 1975، تطلق وكالة الفضاء الأوروبية الأقمار الصناعية للإتصالات (نصف ما وضع على المدار هو لنقل إشارات الراديو والتلفزيون والإنترنت)، ورصد البيئة (بما في ذلك حالة الطقس)، وقريبا جدا التحديد السّاتلي للمواقع (géolocalisation) مركبة غاليليو تحت الإنشاء). ولها محطّة خاصة لإطلاق الأقمار الصناعية في كورو في جمهورية غيانا، حيث يتم كذلك إطلاق صواريخ آريان، وفيغا، وسويوز، من الآن فصاعدا.
أرسلت أوروبا مسابير في كل النظام الشمسي: كوكب الزهرة، وزحل السادس (القمر الخامس عشر لكوكب زحل)، والقمر، والمريخ، ومذنّبات هالي، وشوريوموف – جيراسيمونكو (حيث من المنتظر أن يحط روبوت العام المقبل)، وقريبا عطارد. كذلك تدقّق وكالة الفضاء الأوروبية في السماء العميقة بحضور على وجه الخصوص تلسكوب هيرشيل وبلانك، اللذان يحللان تشكيلة الأنظمة الكوكبية والصدى البعيد للانفجار الكبير، الذي تسبب في نشأة الكون.
أخيرا تكوّن وكالة الفضاء الأوروبية روّاد الفضاء منذ عام 1978، وكان واحدا من الرواد الثلاث الأوائل السويسري كلود نيكولاي. هؤلاء الرواد يشاركون بانتظام في رحلات فضائية أمريكية وروسية، وأخيرا على متن المحطة الفضائية الدولية حيث تمتلك الوكالة الأوروبية وحدة مختبرات خاصة بها. وصل عدد الاوروبيين الذين شاركوا في رحلات فضائية 33 أوروبيا وأوروبية.
شاركت سويسرا، عضو مؤسس، لوكالة الفضاء الأوروبية، منذ 1975 في معظم رحلاتها. ويبلغ إسهامها المالي سنويا 150 مليون فرنك، يعود الجزء الاكبر منها إلى البلاد في شكل طلبات صناعية. وإجمالا، وأخذا بالإعتبار كذلك كونها تعمل أيضا لفائدة الأمريكيين والروس، تحقق الصناعات الفضائية السويسرية سنويا رقم مبيعات يصل إلى 200 مليون فرنك، ويوفّر مواطن شغل مباشرة لأزيد من 800 شخص، أغلبهم من أصحاب الكفاءات العليا.
تعد الابحاث الفضائية السويسرية متقدمة جدا في عدة مجالات مثل الساعات الذرية التي تزوّد بها الأقمار الصناعية، التابعة لمنظومة غاليليو، أو الأجهزة التي تستخدم لإستكشاف الكواكب الخارجة عن المنظومة الشمسية. ففي سويسرا، تمت صناعة مطيافيْ HARPS الاكثر دقة في عالم اليوم. وفيها أيضا سوف يصنّع التيليسكوب الفضائي CHEOPS المصمّم لتصيّد هذه الكواكب البعيدة. وقد تمت ترقية مركز الفضاء السويسري الذي يوجد مقرّه في المعهد التقني الفدرالي العالي بلوزان إلى مرتبة مركز اختصاص لوكالة الفضاء الأوروبية في مجال التكنولوجيا النانوية.
تعتبر صناعة الفضاء السويسرية رائدة عالميا في مجال صناعة الغلاف الذي يحمي المركبات عند إطلاقها في الفضاء. كما تصنّع أيضا عارضات الناقلات الأوتوماتيكية التي تستخدم في تزويد المحطة الفضائية الدولية، وأيضا معدات المناولة الارضية، وأجهزة استشعار الهزّات بالنسبة للصواريخ ، ومحرّكات العربات المتنقلة على سطح المريخ، وأشياء اخرى كثيرة.
(نقله من الفرينسية وعالجه عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.