خبير سويسري يحاول إنقاذ “البحر الميت” من.. الموت!
يقوم جَمعٌ من العلماء بإجراءات مضادّة لخطر الزوال، الذي يتهدّد البحر الميِّـت بسبب انخفاض كميات المياه التي تصبّ فيه. وينخفض مستوى البحر بمقدار مِـتر واحد في كل عام، بسبب سَحْب الأردن وإسرائيل لكميات كبيرة من مياه نهر الأردن، الذي يمُـدّ هذا البحر بالمياه.
ولا يعني هذا الإجراء، التقليل من كميات المياه التي تصبّ في البحر فحسب، بل التأثير على النظام البيئي في المنطقة بشكل عام. ويدعم كريستوفر بونزي، المنسِّـق العِـلمي السويسري هذه الإجراءات، في أحد أشدّ مناطق العالم توترا وصِـراعا على المياه.
ومن المعروف أن البحر الميِّـت عِـبارة عن بُـحيرة يُـعتبر سطحها أعمَـق نقطة في العالم على اليابِـسة، حيث يقع على عُـمق 417 مترا تحت مستوى سطح البحر، بحسب قياسات عام 2003 ، وتَحِدّه كل من الأردن وفلسطين وإسرائيل. والبحر الميِّـت مذكور عبْـر التاريخ من جميع الحضارات التي سكنت حوله، والتي نعتته بصورة أو بأخرى بصِـفاتٍ تعود إلى شدّة ملوحته، التي تقارب عشرة أضعاف ملوحة المحيطات أو إلى خُـلوِِّه من الكائنات المائية الحية، على الرغم من إحتوائه على بعض أنواع البكتيريا والفِـطريات الدقيقة.
ويُصاب السياح الذين يسافرون للمرّة الأولى من مدينة القدس إلى البحر الميِّـت بالدهشة، نتيجة الإنحدار المُستمر الذي يبلغ 1100 متر بين المدينة المقدّسة وهذا البحر، والذي لا يمثل في الواقع سوى بُـحيرة، بالنظر إلى حجمه. وبعد نحو ساعة من المَشي، يجِـد المرء نفسه أمام “شاطئ كاليا”، الذي يمثّـل أعمق شريط ساحلي في العالم، حيث يبلغ انخفاضه 411 مترا تحت مستوى سطح البحر. ولن تمُـر سوى أشهر قليلة، حتى تصبح اللافتة الموضوعة على هذا الساحل، قديمة، ذلك أنَّ مستوى المياه في البحر الميِّـت، ينخفِـض سنويا بأكثر من متر واحد.
ولا يؤدّي هذا الإنخفاض إلى رحيل الضيوف ونُزلاء الفنادق الكثيرة، الذين جاؤوا لإقناع أنفسهم بحقيقة استحالة الغَـرَق في هذا البحر فحسب، ولكنه يؤدّي كذلك إلى تَغيير كامل النِّـظام البيئي في هذه المنطقة التاريخية.
وكما يقول كريستوفر بونزي، السويسري الجنسية والذي يعمل كمُنَسِّـق عِـلمي لمشروع “GLOWA” على نهر الأردن (وهو مشروع دولي بحْـثي تُـديره الوزارة الاتحادية الألمانية للتعليم والبحث العلمي، يقوم بتقديم الدّعم العلمي للإدارة المُـستدامة للمياه في منطقة نهر الأردن بالتعاون مع العلماء المحليين): “لقد اختفت نصف الأصناف الحيوانية والنباتية التي كانت مُنتشِـرة على طول نهر الأردن بالفِعل”.
ويُلَمِّـح إسم المشروع عن دوره، إذ ينخفض مستوى سطح المياه في البحر الميِّـت، بسبب انخفاض المياه في الرّافد الرئيسي للبحر – ألا وهو نهر الأردن – مما يُقلِّـل من كمية المياه التي تصبّ في البحر بشكلٍ كبير. وتقوم كلٌّ من إسرائيل والأردن وسوريا، بِسحب كميات كبيرة من مِـياه نهر الأردن وروافده الكثيرة، بالشكلٍ الذي لم يعُـد به النهر الذي عُمِّد فيه السيد المسيح اليوم، سوى جدول نهرٍ صغير.
ويصف بونزي الوضع القائم بالقول: “تُستخدم 98% من المياه في الزراعة والصناعة والسياحة وكمياه للشرب. وحالياً، لا تصل إلى البحر الميت سوى نسبة 2% فقط من الكميات الأصلية”.
قناة تربط البحريْـن.. الميِّـت والأحمر
هناك العديد من الحلول لإنقاذ البحر الميِّـت، ومن المؤكّـد أنّ بناء قناة تَصِـل بين البحريْـن، الأحمر والميت، هو أكثرها هيبة. ويقترح هذا المشروع خطّـة لشقّ قناةٍ تعمَـل على تَسييل المياه المالحة إلى البحر الميِّـت. وبالإمكان بناء هذه القناة على الحدود المُشتركة بين الأردن وإسرائيل أو يُـمكن أن تنفرِد الأردن ببنائها فوق أراضيها فقط. وحيث أنَّ البحر الميِّـت مُنخفِـض بنحو 400 متر تحت مستوى سطح البحر، سيكون بالإمكان استخدام هذا الإنحدار لتوليد الطاقة الكهربائية وتَحليَـة المياه في الوقت ذاته.
ومن المُنتظر أن توَضح دراسة يُموِّلها البنك الدولي في غضون عام، الكيفية التي يؤثِّـر بها بناء مثل هذه القناة على البيئة والبشر.
وتبدو فكرة إيصال المياه من البحر الأحمر إلى البحر الميت، مُغرية للوهلة الأولى، ولكن بونزي يُـلفت الإنتباه في الوقت نفسه إلى بعض السلبيات التي قد تُـصاحب هذا المشروع بالقول: “من شأن المشروع أن يَنطوي على الكثير من المخاطر أيضاً، حيث يُمكن أن يؤدّي سَـحب المياه من البحر الأحمر، إلى تَدمير كمية لا يُمكن تعويضها من الشُّـعَب المَـرجانية، وهو ما يؤثر بدوره على الحياة في البحر وعلى سياحة الغوص. ولا يمكن التغاضي عن إمكانية تسرُّب المياه المالحة من القناة إلى المياه الجوفية”.
كما أنَّ هذا المشروع مُختلَـف عليه، بسبب الخِـشية من تداعيات غيْـر متوقّـعة، قد يتسبَّـب بها على البيئة وعلى تركيبة مياه البحر الميِّـت، بغَـضِّ النظر عن تكاليفه الهائلة.
ولا تستهلك عملية تحلية مياه البحر الميِّـت الكثير من الطاقة فحسب، ولكن يبقى تأثير المحلول الملحي المُتبقّـي، بالإضافة إلى المواد الكيميائية المُستَـخدَمة، غيْـر واضحة على الكيميائية المعقَّـدة لهذا البحر.
ارتفاع “الإجهاد المائي”
وحول المشاكل التي تواجه هذا المشروع، قال منسِّـق البحوث السويسري: “تكمُـن المشكلة الكبرى في نظري، في أن المشروع سوف يملأ الحوض – أيْ البحر الميِّـت – بالماء فقط”.
وأضاف: “تُـؤخذ المياه العذْبة بالفِـعل من الأجزاء العُـليا للنهر في أعالي وادي الأردن. أمّا في الأجزاء السُّـفلى، التي يتمتّـع فيها النهر بأهمية كبيرة، من ناحية التنوع البيولوجي والسياحة، فستكون المياه مفقودة بالكامل تقريباً، وهذه الحقيقة معروفة للجميع، ولكن عمل الأطراف المُختلفة معاً بشكلٍ بنّاء وجماعي من أجل إعادة الإعتبار لكلٍّ من نهر الأردن والبحر الميِّـت، هي عملية صعبة في هذه المنطقة المُـعرَّضة للصراعات”.
وفي السياق نفسه، أشَّـر بونزي، الذي عمل في السابق مع منظمة “برو ناتورا ProNatura” (وهي أول مُنظمة أنشئت قبل نحو 100 عام في سويسرا للحِفاظ على الطبيعة)، إلى الصعوبات الموجودة على أرض الواقع في سويسرا أيضاً، حيث من الصعب أحياناً إقناع مُشَغِّـلي محطات توليد الكهرباء، باستهلاك كميات أقل من مياه الأنهار والبحيرات من أجل فائدة الطبيعة والحفاظ على المناظر الطبيعية.
ولا تكمُـن المشكلة في الشرق الأوسط في أراضٍ مُتنازع عليها بشدّة فقط، ولكن هذه المنطقة مُـعرَّضة أيضاً لِـما يُـطلق عليه في المصطلحات الفنية “الإجهاد المائي”، حيث تمتاز المنطقة بكثافة سكانية عالية، تعكِـس في الوقت نفسه طلباً متزايداً على المياه، مع هطول كميات قليلة من الأمطار.
ويشعر الفلسطينيون، الذين يشكِّـلون الجُزء الأضعف من بين الأطراف الثلاثة، بهذه المشكلة بشكل خاص، إذ يتعيَّـن عليهم منذ سنوات، إستيراد المياه الصالحة للشُّـرب مقابل أثمان باهظة.
ومن جانبها، تتحدّث إسرائيل منذ فترة طويلة عن قيامها باستيراد المياه من تركيا بواسطة السُّـفن. كما بدأت الدولة العِـبرية بمشروع مُكلف لتَحلية المياه على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. أمّا المملكة الأردنية، فهي تُـعاني على الدّوام من نقصٍ في مياه الشرب.
ومن المتوقّـع إرتفاع “الضغط على المياه” في المستقبل، إذ تُشير التقديرات المناخية إلى تناقص في نسبة هطول الأمطار، وهو ما يؤدّي بالنتيجة إلى تبَخُّـرٍ أكبر.
ظروف صعبة
في غضون ذلك، يوَدّ العلماء العاملون في مشروع نهر الأردن، بتعميق بحوثهم الأساسية وتوعية الأطراف المعنية من أجل إتِّـباع سياسة مُستدامة في إدارة المياه.
وفي هذا السياق، يقول مُنَسّـق البحوث، الذي يَتَنَقَّـل بيْـن عمّان والقدس وتل أبيب ورام الله: “سوف يفاقم التغيُّـر المتوقّـع في المناخ، بالإضافة إلى النمو السكاني المُـتزايد، مشكلة النقص في المياه. ويتوجّـب على الدول، التي يَمُر بها نهر الأردن، أن تشرع في إدارة مُستدامة لهذا النهر على وجه السرعة. ويقوم بونزي في رحلاته المكوكية بنقل البيانات والمعلومات والتأكد منها بين الأطراف المشاركة، وهو قادر على فِـعل ذلك، لكونه مواطن سويسري.
ومن غير النادِر أن يكون الأمر خِـلاف ذلك بالنسبة للعلماء المحليين. ففي المؤتمر السنوي الأخير، الذي أقيم في العاصمة الأردنية عمّان، حَضَرَت جميع الأطراف المدعوّة من فلسطين، ولكن بعض الباحثين الإسرائيليين لم يحضروا، بسبب رفض إحدى المؤسسات الإسرائيلية لسفر أعضائها إلى المملكة الأردنية.
وعلى العكس من ذلك، ليس بإمكان العُلماء العاملين في المشروع، الاجتماع في إسرائيل، بسبب صعوبة سَفَر الفلسطينيين إلى الدولة العِـبرية. ومن المتوقع أن يجري الاجتماع المقرر لعام 2011 في دولة محايِـدة ثالثة، ألا وهي قُـبرص.
ولا يزال السؤال يطرح نفسه: ما الذي سيحدُث بالنسبة للبحر الميِّـت؟ وهنا يجيب كريستوفر بونزي بالقول: “لسوء الحظ، فإن غالبية الآراء بشأن القناة التي تصل البحر الأحمر بالبحر الميت، قد إتُّـخذت بالفعل، وبِغَض النظر عّما سوف يؤول إليه تقرير البنك الدولي في عام 2011″، ولكن، وحسب بونزي، يجب أن يأتي جزء من حلّ المشكلة من خلال استِـرجاع الماء المأخوذ من الجُـزء العُـلوي لنهر الأردن.
ترمز أحرُف هذا المشروع إلى “التغيُّـر العالمي ودورة المياه في الطبيعة“، وهو تابع إلى الوزارة الاتحادية للتعليم والبحث العلمي في ألمانيا الاتحادية.
شرعت الوزارة في برنامجها البحثي(GLOWA) في عام 2000. وكان الهدف العام للبرنامج، هو تطوير حلول لمواجهة التحدِيات الإستثنائية، التي تمثلها التأثيرات الإقليمية على التغير العالمي للبيئة، للمستخدمين ومديري الموارد المائية.
توجد مشاريع GLOWA مماثلة على نهر الدانوب والألبا ونهر فولتا في بوركينا فاسو ونهر الأردن في الشرق الأوسط.
يدرس الباحثون مسألة شكل الإدارة المستدامة للمياه في المستقبل، مع أخذ التغيرات المناخية بعيْـن الإعتبار.
مشروع “GLOWA نهر الأردن”، هو مشروع متعدّد التخصّـصات، تشارك فيه العديد من المنظمات الشريكة في الأردن وفي الأراضي الفلسطينية وإسرائيل، والتي تمدّ المشروع بالبيانات والعلماء من ذوي الاختصاص.
يخضع التنسيق العام للمشروع، لقسم عِـلم البيئة النباتية، التابع لجامعة توبنغن (في مدينة توبنغن في بادن – فورتنبيرغ جنوب ألمانيا الإتحادية).
درس كريستوفر بونزي، البالغ من العمر 33 عاماً، العلوم البيئية (وهو حقل متعدّد التخصصات الأكاديمية التي تدمج العلوم الفيزيائية والبيولوجية – بما في ذلك الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وعلوم التربة والجيولوجيا والجغرافيا – مع الدراسة البيئة، وإيجاد حلول للمشاكل البيئية)، كما عمل مع مؤسسة “برو ناتورا” السويسرية.
يعمل بونزي منذ عام 2009 كمُنسِّـق بحوث في الوزارة الاتحادية الألمانية للتعليم والبحث العلمي.
يعيش بونزي ويعمل في مدينة القدس وفي المدينة الجامعية توبنغن في بادن فورتنبيرغ إلى الجنوب من ألمانيا.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.